العلاقة بين المسرح.. وعلم الأعصاب (2)

العلاقة بين المسرح.. وعلم الأعصاب (2)

العدد 860 صدر بتاريخ 19فبراير2024

· المسرح وفيسيولوجيا العواطف 
   لقد نشر نقطة المنشأ في المسار المتعلق بفيسيولوجيا العواطف عالم النفس الفرنسي الشهير الفريد بينيه في بحث بعنوان «تأملات في مفارقة ديدرو Reflexions sur le Paradoxe de Didrot” عام 1898. وباعتباره خبيرا في ظواهر الهيستيريا والتنويم المغناطيسي، وقبل أن يشرع في كتابة أعمالا درامية، أجرى بينيه مقالة مع اثني عشر ممثلا وللمفارقة المشهورة. وقد دفعت هذه المقابلات العالم النفسي الفرنسي أن يفترض أن المؤدين أثناء التمثيل يخضعون لنوع ازدواجية الوعي يمكن مقارنته بظواهر التنويم المغناطيسي أو الهيستيريا: «باختصار، نعتقد أنه لا يوجد فرق جذري بين الممثل والذات المقترحة، بل فرق دقيق ببساطة». ولم تعد استنتاجات بينيه بالتأكيد أصيلة في عصره، ولكنها اليوم تكتسب أهمية نسبية نظرا لأن أحد أفضل أعماله المعروفة «حول الوعي المزدوج»On Double Consciousness  عام 1890 وكان مجودا في مكتبة ستانسلافسكي. ولذلك من المنطقي أن نعتقد أن ستانسلافسكي قد اطلع على أعمال بينيه، بما يتجاوز التأثيرات (الواضحة حتى الآن) التي أثر بها ريبوت على أعماله. 
   ولاشك أن تأثير فيسيولوجيا العواطف الكبير في بداية القرن العشرين على مييرهولد له طبيعة أكثر تعقيدا. وفي هذه الحالة، في الواقع، فقد تم تبني مفهوم رد الفعل الذي شارك فيه كل من جيمس وبافلوف، على المستوى الاصطلاحي لإبراز البعد الحركي لعمليات العواطف: 
 يمكننا الاستشهاد بجيمس. فهو يروي حالة مذهلة، أخذناها كمثال ونفذناها . رجل يجري، متظاهرا بأنه خائف من كلب يطارده. ولا يوجد كلب، ولكنه بدأ الجري بعيدا وكأن هناك كلبا. وعندما خاف الرجل من الكلب بدأ الجري بعيدا، شعر فعلا بالخوف. هـذه هي طبيعة رد الفعل. فرد الفعل رغم ذلك ينشط رد فعل آخـر. وهذه هي أصالة الجهاز العصبي. 
   من ناحية، إذا استخدم مييرهولد مفهوم رد الفعل كعصا ليكسر فكرة أن العواطف هي فقط نتيجة آليات مخية أو نفسية، ومن الناحية الأخرى، إن تحديد العنصر الحركي بالضرورة في التجارب العاطفية هو بالتحديد ما يوفر لمييرهولد طريقة لتحفيزه على تجاوز فكرة التماثل العاطفي بين الممثل والمتفرج. ونظرا لأن العاطفة هي نتيجة عملية بدنية، وعن طريق توليد عمليات آلية حيوية بدقة يستطيع الممثل أن يحفز المتفرج (ولا يحفز نفسه بالضرورة) لكي يعيش تجربة عاطفية معينة. 
 هل هناك شيء نفسي في توقفنا؟ أحيانا نلام إن لم نعمل من خلال علم النفس، ويقلق بعضنا ويخشى هذه الكلمة. لدرجة أننا نبني أنفسنا  على علم النفس، فهناك بالتأكيد بعضا من علم النفس موجود في عملنا.
كل ما في الأمر، أننا لا نسمح لأنفسنا بأن نكون محكومين بالتجربة التي نعيشها، بل بالإيمان المستمر بدقة تمثيلنا التقني. فعندما عرضت مشهد «ستيفاكا» من مسرحية «زينيادا رايخ» في الفصل الثالث، ربما لاحظت الدموع في عيني، ومع ذلك أعدك، أن عاطفة ستيفكا التي شعرت بها لم تتطابق مع عواطفي على الإطلاق. إنها ببساطة، في       تفسير المشهد، إذ سلكت طريقا مختصـرا اســتدعى ردود الفعل في فالعصب كان مستثارا، يقود عضلات دموعي، ثم بدأت أزرف الدموع. 
     مثل مثال ويليام جيمس تماما. الاستخدام الذي قدمه ايزنشتاين لبحث جيمس يتبع نفس خط الفكر: 
    ولكن المجال الأساسي التي وصفت فيه الظاهرة التي طبقها جيمس هو المتفرج بشكل طبيعي. فمن خلال إعادة بناء ما يراه، يبدأ المتفرج من الحالات غير المحفزة بالنسبة له، والتي تنشأ بداخله وحده، عن طريق المحاكاة، لكي يصل إلى الحالة العاطفية الضرورية. ولكـن      حقيقة أن بداخله محاكاة تثير انفتاح كل ثروتها الحركية (كما تحدث في الممثل، رغـم ذلك)، وتنتج مزيدا من التأثير: إنها تظهـر الجانب الفكري في التلقي العاطفي. 
 ورغم ذلك لم يكن الروس هم الوحيدون الذين اهتموا بالدراسة العلمية للعواطف. فقد لاحظ المخرج الفرنسي أندريه فيلار – الذي تأثر أيضا بدراسات بينيه – التجارب الأولى للمعيار التجريبي وتحليل ضغط دم الممثلين أثناء الأداء. ومرة أخرى، كان قصد فيلار أن يجرب التناول التجريبي لمفارقة ديدرو. ويمكن أن تعد محاولته لربط الأحداث البيولوجية مثل ضغط الدم أثناء أداء الممثلين من بين المحاولات الأولى لوضع النشاط البيولوجي والديناميات العاطفية في علاقة مباشرة وسببية. ولا تعد نقاط المرجع التي استنتجها فيلار من مجال علم النفس بعيدة عن تلك التي تأثر بها ستانسلافسكي أو مييرهولد؛ إننا في الواقع نجد مختلف المراجع لأعمال عالم النفس ألفريد بينيه. 
 ولكن ربما تجد محاولة تعريف الروابط النفسية لعواطف الممثل أوسع تعبيرها التجريبي في النصف الثاني من القرن، بفضل تجارب عالمة الأعصاب الفيسيولوجية سوزانا بلوخ. فمن خلال تعريفها «للأنماط المؤثرة في العاطفة الأساسية»، لاحظت العالمة كيف يمكن أن تثير المجموعات الطوعية في متغيرات محددة مثل تغير الوضع والتوتر العضلي، ودقات القلب، وإيقاع التنفس تجارب عاطفية معينة. وطبقا لبلوخ، يمكن أن تساعد إعادة التكوين الطوعي لهذه المتغيرات الممثل لكي يعيد بناء العملية النفسية الفيسيولوجية التي تنظم ظهور العواطف: 
 في سنتياجو في شيلي عام 1970، بدأت بحثا متعدد المجالات حول موضوع العواطف مع جاي سانتيبانز (عالم الأعصاب الفيسيولوجية) وبيدرو أورثيوز (المخرج المسرحي). وكان هدف الدراسـة ربـط بعض الفعاليات النفسية والتعبيرية الموجودة أثناء العاطفة مع التجربة الذاتية المطابقة. ولم تهتم الدراسة بالأسباب التي يمكن أن تنتج حالة عاطفية ولا التضمينات الثقافية أو النتائج الاجتماعية، ولكنها اهتمت بالحالة العاطفية في ذاتها . وما فعلناه هو أن نسجل في معملنا في المدرسة الطبية النفسية والحدود التعبيرية في الذوات العادية أو العصبية المرتبطة بالعواطف الأساسيـة مثل الفـرح والغضب والحزن والخـوف والإثارة الجنسية والرقة. وقد قمنا بالتسجيلات إما في سياق إكلنيكي أو تحت تنويم مغناطيسي عميق. ولاحظنا في هذه الدراسة الأولى أن الإثارة العاطفية كانت مصحوبة بمجموعة من التعديلات في التنفس وفي الوضع وفي تعبير الوجه التي كانت مميزة لكل عاطفة. بمعنى آخر، وجدنا أن     مشاعر عاطفية معينة ارتبطت بأنماط تنفس معينة، وتعبيرات وجهية، ودرجة من التوتر العضلي ومواقف وضع الجسم. وظهر أن المحتوى التنفسي أكثر عنصر حيوية. كل هذه الملاحظات توحي بأنه أثناء الحالة    العاطفية هناك تكافل مذهل بين إيقاع تنفس معين، وتوجه تعبيري معين (في تعبير الوجه ووضع الجسم) وتجربة ذاتية ما. وسمينا هذا الطاقم «نمط المؤثر العاطفي emotional effector pattern. 
   أدت دراسات سوزانا بلوخ في النهاية إلى ابتكار منهج تمثيل ملائم يسمى «انفعالات ألبا Alba Emoting”. 
   في النهاية يجب ألا ننسى كيف مرت دراسة عواطف الممثل والمتفرج بعصر ذهبي حقيقي في ثمانينيات القرن الماضي، مع تعدد المؤتمرات والإصدارات التي مهدت الطريق لأهم التطورات السابق ذكرها التي حدثت في تسعينيات القرن الماضي. 

المسرح والأخلاق 
   بدأ القرن العشرون ببحث داروين الثوري. فمع داروين، تغير وضع الإنسان في الطبيعة. إذ لم يعد يوضع في مركز الكون، فالإنسان يُرى الآن باعتباره نتاج التطور المستمر للأنواع والتكيف مع البيئة. وبالتالي لم يعد العقل معنوي ومطلق، بل إن عملية تغير دينامي مستمرة ملائمة لضمان وتحسين بقاء الأنواع. وكما أبرز جان ماري برادير «ترسخ دراسات داروين لمفهوم التناول الأخلاقي للأداء الحي”.
   وعلى الرغم من أن ملاحظات داروين قد استخدمت لدعم الأصول الطقسية الافتراضية للمسرح – وهي نظرية لا تزال هناك شكوك في صحتها – وتتعلق الإشارات الأكثر إثارة بأهمية الطقوس المذهلة لإغواء الحيوانات فيتطور الأنواع. وكما أشار برادير مرة أخرى، أبرزت دراسات داروين كيف أن القدرات لجذب اتنباه الآخرين والحفاظ عليه، وهو أمر جوهري للممثل، كانت أساسا أيضا في مدى التطور. إذ يمكن أن تكمن قوة الأداء الحي في ترجمة الحاجات الإنسانية المتطورة إلى ممارسة فنية. 
 وفكرة أن مراقبة سلوك الحيوان يمكن أن تقدم معلومات أيضا عن السلوك الأدائي الإنساني الذي يربط كل سلسلة الدراسات والتجارب المتداخلة المجالات في النصف الثاني من القرن العشرين: بالفعل في الستينيات، علماء أخلاق بارزين مثل كونراد لورينز، وجوليان هاكسلي، أو فيما بعد، ايرنوس ايبيل ايبسفيلد، قد أبرزوا الديناميات التي كانت شائعة لكل من مسيرات التزاوج في عالم الحيوان والسلوكيات التي جعلها البشر مذهلة. ورغم ذلك فإن الحلقة الرئيسية لهذا النوع من النقاش ربما هي مؤتمر عام 1972 الذي نظمه جان لوي بارو في مسرح الأمم Theatre des Nations”. في سياق الرحلات الدولية لمسرح الأمم، كرس رائد فن التمثيل الصامت اليوم الأخير إلى مهرجان بعنوان «البيولوجيا والسلوك الإنساني»، حيث تدخل شخصيا مع عالم البيولوجيا والأخلاف هنري لابوريه. والناتج المدهش كان «عربدة الاحتجاجات» الذي يسمح لنا اليوم أن نفهم بشكل أفضل كيف لا تزال المقارنة بين الإنسان والحيوان راسخة باعتبارها تابوها في هذا العصر: 
 ما أحتفظ به من هذه الأيام الفوضوية هو الفعالية المستمرة للمسرح الجسدي، والمسرح الحسي، والخصوصية البيولوجية لفن المسرح وحاليا، في يومنا الأخير وصلنا إلى ما أرغب أن أتصدى له: ألا وهو البيولوجيــا الإنسانية والسلوك. وهو الأمر الأكثر إفادة لي. 
ومع ذلك كان انطباع بارو صحيحا تماما: لقد تم زرع بذرة. ويمكن دليل هذا في حقيقة أنه بين أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي أصبح هنري لابوريه العالم الأكثر ارتباطا في بحث النقاش متعدد المجالات مع دراسات المسرح، لدرجة أنه تصدى لردود الفعل حول المسرح والأخلاق بنفسه. 
 فمثلا انصبت محاضرة لا بوريه على ما يمكن أن يعد أول مواجهة عالمية للمسرح والعلم، وهي محاضرة «ندوة حول الجوانب العلمية للمسرح» والتي نظمها جان ماري برادير وألينا أوبيديانك في مدينة كارباش البولندية. وقد رأس الجمعية العلمية للمؤتمر العالم المتخصص الأخلاق والبيولوجيا الصوتية رينيه جاي بوزيل. وقد كان تأثير مؤتمر كرباش – الذي حضره جيرزي جروتوفسكي ويوجينو باربا وفرقة مسرح روي هارت وكريستيان لوبا – واضحا في الإصدارين الأول والثاني للمدرسة الدولية للمسرح والأنثربولوجيا، حيث دُعي هنري لا بوريه لالقاء محاضرات عامة. وقد تميز إصدارا المدرسة الدولية للمسرح والأنثروبولوجيا، كما هو معروف، بأنهما كانا مرجعين صريحين للعلم، والحضور الفعلي للعلماء بأنفسهم. وبالتوازي مع الدراسات الأوروبية، فقد يسر ظهور دراسات الأداء في الولايات المتحدة الأمريكية أول ردود فعل حول المسرح والأخلاق، كما توضح دراسة ريتشارد شيكنر «الأخلاق والمسرح» عام 1976. 
 وشهدت الفترة بين أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، ابتكار المثلث المفيد بين الأخلاق والأنثروبولوجيا والمسرح، والذي ولد اهتمامات جديدة جديد بعلوم المخ. وأوضح مثال هو مثال فيكتور تيرنر وهو أحد علماء الأنثروبولوجيا الذين أبدوا اهتماما كبيرا بالأداء الحي، والذي في بداية الثمانينيات أعلن عن الحاجة إلى مزج المنهج الثقافي مع دراسة الأساس البيولوجي للسلوك، ومزج في مقال بعنوان «الجسم والمخ والثقافة» والتي نشرت بعد وفاته المفاجأة عام 1983. 
   علاوة على ذلك، كانت تلك السنوات التي شهدت تجديد النظرية التي صاغها عالم الأعصاب البيولوجية بول ماكلين في خمسينيات القرن العشرين، أي نظرية «المخ الثلاثي»، الذي تصور أنه تقسيم فرعي من ثلاثة مستويات للعقل البشري: المستوى العميق deep level ويسمى عقل الزواحف، وهو مكرس لإدارة الوظائف الأولية؛ و»المخ الحوفي Limbic brain” وهو مكرس لإدارة العواطف، و»القشرة المخية الحديثة the neocortex”، والذي يتميز بالفعاليات الإنسانية الملائمة. وحتى لو طعن فيه علم الأعصاب الحالي، فقد قدمت هذه النظرية إلى ثقافات المسرح، كما اتضحت في مقال «إنك ابن أحدهم tu es le fils de Quelq›un” التي استدعى فيها جروتوفسكي صورة مخ السحلية عدة مرات: 
     من المحتمل أن يتمكن خبير في المخ من اكتشاف مخ الزواحف وهو مخ أولى ينزل عبر الجزء الخلفي من الرأس، على طول العمــود الفقـري، وربما يجد الاتصال أو الامتـداد لهــذا المـخ في الضفيرة الشمسية التي تسمى في بعض التقاليد «العقــل الصغير the little mind”. 
   ومن المثير أن نلاحظ أن جروتوفسكي تخيل عقل الزواحف باعتباره مرتبطا مباشرة بالضفيرة الشمسية، وبذلك استبق ما يمكن أن يصبح في بداية القرن الحادي والعشرين، موضوع اهتمام مشترك آخر بين المسرح وعلم الأعصاب، أي مفهوم «العقل الثاني». 
............................................................................
· جابريل سوفيا: يعمل أستاذا في جامعة بول فاليري في جامعة مونبلييه 3 بفرنسا. 
· نشرت هذه المقالة مجلة الدراسات البرازيلية حول دراسات الحضور في بورتو اليجيري المجلد الرابع الجزء الثاني من ص 313-332 في 2014.


ترجمة أحمد عبد الفتاح