المسرح النثري عند «محمد مندور»

المسرح النثري   عند «محمد مندور»

العدد 827 صدر بتاريخ 3يوليو2023

وضع الناقد والأديب المصري «محمد مندور» عددا من الكتب التي اختصت بالدراسات المسرحية، وتناولت فن المسرح المصري والعربي، ككتاب «في المسرح المصري المعاصر، ومسرحيات شوقي، ومسرحيات عزيز أباظة، ومسرح توفيق الحكيم»، ومن ضمن ما كتب أيضا كتاب «المسرح النثري».
يُعرفنا «محمد مندور» على بداية المسرح الغنائي المصري بشكل عام، ويسلط الضوء على دور الفنانين الشوام، السوريين واللبنانيين، في نشأة المسرح الغنائي المصري. وتناول دور اثنين من أبرز هؤلاء الفنانين وهما «مارون النقاش، وأحمد أبو خليل القباني»، وأوضح الفرق بينهما. لكن كلا الفنانين اشتركا فى إنتاج مسرحيات أصلية أو مؤلفة وليست مترجمة كما هو معروف. وهما أيضا مَن بدأ ما يُعرف بفن الأوبريت أو النصوص الشعرية والنثرية المسرحية المُلحنة. 

الأدب التمثيلي في المسرح العربي.
لم تستطع كتابات رواد المسرح الأوئل، وعلى رأسهم «مارون النقاش»، خلق أدب تمثيلي يمكن اعتباره جزءا من تراثنا الأدبي الذي تتابعه الأجيال المتعاقبة وتتناوله بالدراسة وتتخذه وسيلة للتثقيف. والسبب في ذلك أن المسرح العربي ولفترة طويلة ظل يُنظر إليه كفن دخيل على حياتنا وتقاليدنا. رفض الجمهور المحافظ تحديدا هذا الفن كنوع من البدع الغربية التي لا تتلاءم ومجتمعاتنا العربية كالرقص والخمور وغيرها، خاصة عندما بدأ المسرحيون يوظفون ممثلات نساء بعدما كان، قديما، يؤدي الأدوار النسائية رجال في أزياء نسائية. 
من الأسباب المهمة أيضا في عدم اعتبار كثير من إنتاجات المسرح الغنائي من التراث الأدبي، هو كتابة الكثير من هذه النصوص، خاصة نصوص مارون النقاش، بالعربية الفصحى المختلطة بالعامية الركيكه وحتى مختلطة ببعض الكلمات الأجنبية الإنجليزية والفرنسية والتركية المكتوبة بلغة الفرنكوآراب.
 لكن في وسط هذا النوع مِن المسرح الغنائي الذي عدّه النقاد ركيكا، ظهر رائد آخر في هذا الفن «أحمد أبو خليل القباني» السوري الذي ورغم استقائه هذا الفن من المسرح الفرنسي فإنه نقل المسرح الغنائي لمستوى أرقى من سابقيه بعدما ألف عدة مسرحيات غنائية بشعر فصيح أو بنثر مُحكّم، عكس ما فعله النقاش. وفي الوقت عينه حاول تقريب الفصحى السليمة للعامة. غنى في مسرحياته وأخرجها ومثّل فيها. وللأسف! لم يُعجب الكثيرون من بعض الطوائف السورية بما يفعله القباني، خاصة عندما كان يناقش بمسرحياته الغنائية مشكلات سياسية مهمة، فدسوا له عند السلطان العثماني فأغلق مسرحه، مما دفعه للهجرة إلى مصر ليواصل عمله فيها. ومن هنا خرجت أغلب الفرق المسرحية المصرية المُؤسسة للمسرح المصري.

ما هو المسرح النثري؟
أما المسرح النثري فهو المسرح الغنائي الذي يتناول ويناقش القضايا المختلفة غنائيا بنصوص مُلحّنة، وهذه النصوص لا تكون إلا شعرا أو زجلا أو نثرا. وما يُعيق هذا النوع من المسرح في الوطن العربي أن يكون جزءا من التراث الأدبي هو الركاكة التي سادت الكثير من الأعمال التي لم تدُم أكثر مِن أيام عرضها. أما بالنسبة للمسرح الشعري والنثري المُحكم هذا هو ما يدوم وتعاد طباعته باستمرار ويُتخذ كمرجع للدارسين والفنانين كمسرحيات توفيق الحكيم نثرا، ومسرحيات أحمد شوقي شعرا. 

الفرق بين المسرح الغنائي العربي والغربي
ذكرنا أن المسرح الغنائي العربي، ربما هو حديث نسبيا والكثير منه لا يُصلح لتشكيل جزء مِن التراث الأدبي لرداءته. لكن بالنسبة للمسرح الغنانئي الغربي فهو الفن المُتمتّع بالقوة والطغيان في الحضور الجمهوري والثقافي والمتجذّر في البنية التراثية الغربية. ويرجع ذلك لأسباب أهمها الصلة الوثيقة، ومنذ أقدم العصور، بين التراث الأدبي وفن المسرح الغنائي ومن تلك الصلة استمد هذا الفن احترامه حد التقديس. فمن فن التمثيل عند اليونان إلى فن التمثيل في ساحات كنائس أوروبا إلى الأدب التمثيلي ومسرح عصر النهضة، كلها أطوار للمسرح تطورت مع المتغيرات والابتكارات مع الاحتفاظ بالأصالة، ولذا يعتبر الأدب التمثيلي شعرا ونثرا من أهم ما يمتلكه الغرب في تراثهم الأدبي بكل اللغات.
سبب آخر أدى إلى نقص قيمة مسرحنا الغنائي هو ازدواج اللغة، فلغتنا العربية الفصحى بعيدة في ألسن الشعوب عن لهجاتهم العامية. وبما أن المسرح فن جماهيري كان لا بُدّ وأن يُقدم بلهجة يفهمها المتلقي الذي أوهم بأن هذه اللهجة هي الأقرب للتعبير عن قضاياه وهمومه، مما أدى إلى كل هذا الكمّ من الركاكة في الإنتاج المسرحي الغنائي. وبالتالي، استبعد هذا الإنتاج ليكون جزءا من التراث الأدبي العربي.

جمهور وصنّاع المسرح النثري العربي
الجمهور هو أهم عنصر في صناعة المسرح. ومِن أهم أسباب إقبال الجمهور العربي على المسرح النثري أو الغنائي، هو الظروف الحياتية الصعبة. فالمسرح النثري بالنسبة لجمهوره بمثابة ساحة الترويح عن النفس، الطرب. 
أما عن مصادر المسرح العربي عامة والغنائي نثرا وشعرا، فقد استقى موضوعاته من ثلاثة مصادر رئيسية هي: ما أُلف شرقا وغربا، ومن تاريخ العرب القديم، ومن الأساطير الشعبية. 
لكن الموضوعات التاريخية هي التي غلبت على إنتاج صنّاع المسرح العربي، فالموضوع التاريخي مستوفي الشقين المهمين في القصة، البداية والنهاية، وما بينهما يتكفل خيال المؤلف به. ومِن أقدم المسرحيات النثرية التاريخية المعروفة هي مسرحية «المعتمد بن عباد» تأليف إبراهيم رمزي 1792. وتحكي عن الحاكم المعتمد بن عباد ومأساة عرب الأندلس. أحمد شوقي أيضا كتب مسرحية «أميرة الأندلس» نثرا. التي تدور أحداثها عن نفس الموضوع، ملوك الطوائف. 
مما لا شك فيه أن المحاولات الأولى لهذه الأعمال المستمدة من التاريخ كانت (خام) مجرد نقل للحدث التاريخ كما هو في الكتابات الأكاديمية، إلا أنه بمرور الوقت أخذت هذه الأعمال تتبلور وتطور وتُكتب بشكل مسرحي وغنائي وتشويقي يضاف إليها العبرات والأبعاد الفلسفية. 
بعد فترة ليست بالقليلة من اعتماد المسرحيين للتاريخ في موضعاتهم المسرحية، ساد اتجاه آخر أكثر حداثة ربما، وهو التناول المسرحي للموضوعات الاجتماعية والبحث في سر تقدم الغرب وتأخر الشرق. 
ومن أهم الأعمال التي اشتهرت بهذا الاتجاه مسرحية «مصر القديمة ومصر الجديدة»، لفرح أنطون، المسرحية التي انتقد فيها أنطون المفاسد التي تسربت من العالم الغربي إلى العالم العربي بعد ازدياد التواصل بينهم. كالدعارة والربا والتورط في تجارة الرقيق الأبيض. كلها موضوعات تناولها العمل. والجدير بالذكر أن المؤلف اعترف بالنقص والتفكك الفني في هذه المسرحية الذي تعمده إرضاء للجمهور، رغم الأهداف السامية للعمل. ومن نواقص هذا العمل أيضا كتابته بالعامية والفصحى ولغة بين بين أو ما يُسمى بالفصحى المخففة.
وكما ساد في السابق المسرح الكوميدي الاجتماعي الذي كان هدفه الأول الإضحاك، وما استخدمه لهذا الغرض من لغة امتزجت فيها الفصحى والعامية والفرنكوآربية، ساد بعد فترة خاصة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى والاصطدام السياسي بين الوطني والمحتل، ساد المسرح «الميلودراما» وفي تلك الفترة لمع اسم «أنطون يزبك» في هذا النوع من التأليف، حيث مثلت فرقة جورج أبيض مسرحيته «عاصفة من بيت» التي أجمع نقاد عصره أن الفرقة وصلت بهذه المسرحية لقمة نجاحها. وفي هذه المسرحية فطن المؤلف إلى أن نقاش الآفات الاجتماعية بالكوميديا لا تؤتي ثمارها، والأنجع هو الصدام العنيف بالحقائق المُتمثلة في المسرح الميلودرامي. وعلى الرغم مِن كتابة أنطون يزبك لمسرحياته بالعامية فإنها عامية رفيعة استطاعت التعبير عن أدق المشاعر والمعاني التي تضيق العامية بالتعبير عنها. استخدم حوارا دقيقا عميقا غنيا بالدراما، مع استخدام كافة إمكانيات اللغة في التصوير.


سماح ممدوح حسن