سندباد العراقي.. نهاية مأساوية لمن لا ذنب بالرحلة

سندباد العراقي..  نهاية مأساوية لمن لا ذنب بالرحلة

العدد 639 صدر بتاريخ 25نوفمبر2019

ستظل شخصيات التراث الشعبي، والأساطير بكل الثقافات بالأرض شرقها وغربها، شمالها وجنوبها ملهمًا بارزًا  للكثير من الأعمال الأدبية والفنية وداعمًا  قويًا لنمو وتطور وتناقل هذه الثقافات بين بعضها البعض، ومنبعًا كبيرًا للدراسات والأبحاث العلمية،  وقاسمًا مشتركًا بين حضارات  الأمم  في تداخلات مرجعية هذه الشخصيات، و سبر أغوار حقيقتها وميلادها الحقيقي، و قد تتابعت العصور  والأزمنة، حتى أصبح العالم قرية صغيرة اذاد فيها  تشابك العلاقات الإجتماعية بين البشرية  فدفعت هذه الشخصيات الأسطورية العقل الإنساني، والذات الإبداعية  أن تتخذ رؤى  جديدة ومتنوعة   ببصيرة  واعية  أن تقدمها في وسائط  فنية وأدبية  من جديد  لسائر أنماط الجمهور بصياغة مميزة  وفق أيديولوجيات حديثة ومعاصرة ..، مواكبة للتقدم والتطور التكنولوجي .
وقد اختارت الفرقة الوطنية للتمثيل من وزارة الثقافة بجمهورية  العراق أن تستقي لعرضها المسرحي المشارك  ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته  26  من شخصيات المجتمع العراقي  الشعبية  وأبرزها “ السندباد “ لتتخذها الشخصية الدرامية الأساسية ، لقصة العرض “ السندباد “ برؤية حديثة ومغايرة بنص العرض وصورته .
وسندباد بالعودة إلى تراثنا الشعبي والثقافي شخصية أسطورية  من شخصيات “ ألف ليلة وليلة “ أحد أهم كتب الأدب  العجائبي والغرائبي  في تراثنا العربي، وقيل  إنه شخصية  حقيقية  لتاجر بغدادي أقام  في عمان ، ويحكى أنه بحار  عاش في فترة الخلافة العباسية  تدور  أحداث حكايتة في الوطن العربي باسم  السندباد البحري ،  فقد زار الكثير من البلدان  السحرية، والتقى بطريقه بالكثير من الوحوش أثناء إبحاره في سواحل إفريقيا الشرقية وجنوب آسيا ، وقد قام برحلات سبع  لقي فيها المصاعب والأهوال لكنه استطاع النجاة منها بصعوبة بإرادته واتسم بأنه بطل ومندفع ومغوار تملأه الرغبة الدائمة للسفر والترحال والمغامرة، نسبت غالية  الأقاويل هويته إلى أرض العراق، عاش في بغداد في أوج  الدولة العباسية، زمن الخليفة هارون الرشيد (786 – 809 مـ)، وهذه الحقبة  هي فترة  ازدهار الحضارة العربية،  حيث ذروة العصر العباسي، وهذا هو ما تتحدث عنه  قصة السندباد التي أوردت  في  الليالي  “ 558 – 565  “ من ليالي “ ألف ليلة وليلة  “ ؛  ومن  هذا الكتاب  اتخذت هذه الشخصية شهرتها وتوالت الأعمال العديدة عنه وعن رحلته وقدمت بالكثير من الأعمال الدرامية بالسينما والتلفزيون والمسرح .
بينما يقدم عرض “ السندباد  “ العراقي برؤية ارتكزت على “ المايم وخيال الظل “ إمعانًا في استخدام نمطًا شعبيًا لشخصية شعبية وأسطورية موظفًا للفن الشعبي لكن مخرج العرض استعاض فيه عن عروسة خيال الظل بالجسد الإنساني يقدم ممثل العرض بجسده  معزوفة الرحلة كظل للشخصية الإنسانية الحقيقية برحلة افتراضية من النشأة الأولى  لظل الشخصية  ورحلتها  في عالمها  بروح تائهة بين جدلية الوجود والعدم، محاطة  بالمؤثرات البصرية والصوتية بتوظيف التقنيات الحديثة لبرامجيات المونتاج لخلق صورة بصرية مختلفة بتقنية رقمية حديثة بشاشة العرض الممثلة لشاشة خيال الظل .
إن العرض المسرحي “ السندباد “ لم يقف عند الشخصية الأسطورية برحلاته كبحار التي عهدناها  من قبل بينما كان هو الإنسان الذي يبدأ رحلته وحيدًا كآدم يبحث عن الاستقرار والأمان الروحي و يقوده شغفه للوصول، فيقدم ظل الشخصية الحقيقية بالممثل  ورحلتها في عالم المثل وهبوطها إلى العالم الأرضي وصراعها مع الشخصية بهذا العالم ، موضحًا ذلك مستحضرًا أحد صور سندباد القديم  بأن أكل من ثمرة المعرفة لكنه جنى من فعلته هذي العديد من المشكلات .
و كان في العديد من خطواته  يجابه ويغامر، ويكمل المسير بين ثنائية قوتي الشر والخير بآياد خافية لايراها هو بينما تظهر للمتلقي يد تقسو عليه وتجره إلى الشرور وتكبل من وصوله لحلمه وهو السلام ، ويد أخرى تربت على كتفه وروحه ونفسه حتى لايتوقف و تدفعه  على مواصلة رحلتة .
كما تستعرض حياة السندباد في رحلته  هنا منذ الإنسان البدائي حتى وصوله للعصر الحديث عبر طريق مشحون بالقهر والصراع  والإحباطات التى يحاول دائمًا أن يتصدى لها بكل ما أوتى من قوة  وإيمان  وبعودته لخالقه ومن خلق كل كونه هذا معه ففى لحظات متكررة  نراه راكعًا يبتهل ويدعو بيدين مرتفعتين إلى السماء بمصاحبة موسيقى صوفية، و يكمل من جديد ويظهر معايشته للواقع وانتقاله للعصر الحديث في رحلته عندما ارتدى فوق زيه المميز للبحار جاكت حتى يصل إلى التطور والتمدين، وتتابع الأزمنة والعصور لمحاصرته بوسائل الاتصال الحديثة بعلامات كثيرة لمواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية على الشاشة خلفه ومحاصرتها لعالمه .
 لقد استقرت شخصية “ السندباد “  فى عقلنا الجمعى العربي منذ طفولتنا، بالفتى  الذي حالفه الحظ ،المتسم بالجرأة الزائدة  و انطلق  من وطنه الأم ليخوض مغامراته العجيبة التي تعج  بالمشاق والصعاب في رحلات بعيدة  عبر البحار والمحيطات، ويصل إلى السواحل العديدة و البعيدة  والجزر النائية التي لم تطأها قدم إنس من قبل، مجابهًا  الوحوش وحوريات البحر والجنيات ، ليعود ثانيًة لبلده  منتصرًا  محملًا بالكنوز بنهاية سعيدة، لكن السندباد  هنا اتخذ بعدًا مغايرًا، بدلالات معاصرة وتمس واقعنا  بالمنطقة العربية، عاد يحمل آلاما مفجعة بعد حصار المادة والتكنولوجيا للإنسان، فكان رمزًا للأنسانية المعذبة التي تبحث عن الاستقرار والأمان الروحي والسلام  لكنه رغمًا عنه شاهدًا لجرائم طاعون الإرهاب بمنطقته وبلاده كنموذج “داعش “ حيث طالعنا  بفيديو معروف لهم وشعارهم يقدم آيادٍ آثمةٍ تزهق  أرواح الضحايا الأبرياء ولاتخلف غير أشلاء الجثث ولابيد آدم المواطن العربي” السندباد “ شيء سوى الدعاء في مواجهة جماعات إرهابية الفكر لنشهد نهاية مأساوية لمن لاذنب  له  بنهاية الرحلة تكشف جزء من الواقع العراقي والعربي لتمثل الواقع العالمي .


همت مصطفى