كلام في سرى وتدجين الرعب الذكوري

كلام في سرى وتدجين الرعب الذكوري

العدد 578 صدر بتاريخ 24سبتمبر2018


بمناسبة إعادة عرض كلام فى سرى نقدم هذا المقال الذى كتبه السلامونى قبل سنوات عند تقديم العرض الزول ولم ينشر المقال من قبل.

ليس المسرح هو (الفن الذي تتلاقى فيه الفنون المختلفة)، بقدر ما هو (فن التلاقي بين الفنون)، أي أن المسرح هو الفن الذي ينبني على إحداث التلاقي بين الفنون المختلفة، بتحويلها إلى عناصر نوعية خاصة به.
يحتاج هذا التقرير إلى تفصيل أكثر، وهو ما سأحاول الكشف عن بعض جوانبه في هذا المقال.
لذا، فما يعنيني هنا في الأساس، هو الكيفية التي تحوَّل بها (مسرحنا المصري) الآن، في كثير من عروضه الجديدة، وبفعل عوامل لا حصر لها، من (التعريف الأول): الذي (تجاورت) أو(تكدّست) فيه الفنون (العناصر) فوق الخشبة، دونما تفاعل فيما بينها سوى عند الحد الأدنى فقط؛ الذي تمحور غالبا حول (التجسيد الصوري - أو المرئي - للغة، بكل ما يعنيه من الكشف «المسرحي» عن الأبعاد الدلالية «الدرامية» الخاصة بالنص اللغوي، وهو ما يعبر عنه البعض بالتحول من الطبيعة الدرامية «اللغوية» إلى الطبيعة المسرحية “المرئية - المسموعة”)، إلى (التعريف الثاني): الذي تتصادى فيه العناصر المكونة للعرض، بحيث يتمرأى كل عنصر في العناصر الأخرى بأشكال كثيرة ذات دلالات مختلفة متعارضة أحيانا، مما يحيل العنصر الواحد إلى شظايا متناثرة، دلالاته موزّعة على مواقع كثيرة في العرض ككل، وليست كامنة في اللغة فقط، بل وعادة ما يكون العرض المرئي نفسه معارضا للغة.
هذا التعريف الأخير يشتمل على إمكانية قصوى لاحتواء النظم العلاماتية في انحرافاتها غير المتوقعة؛ تلك الإنحرافات التي تأتى نتيجة لوجود (خطوط هروبية) طارئة، عادة ما تصادفها العلامات في طريقها، مما يفضى بها إلى التحول عن مساراها. ومعلوم أن تلك الظاهرة ترتد في الأساس إلى (التبادلية الرمزية) التي تحيا فيها العلامة ذاتها - سواء في علاقة الدال بالمدلول (تلك التي تقوم على الخرق الدائم) (1)، أو في علاقة العلامة ككل بالعلامات الأخرى.
هذا المنحى الدياليكتيكي يعتمد، فضلا عن «يتوقع»، إختلاف العلامة - الناتج عن طبيعتها المراوغة - ليس في العرض ككل فقط، وإنما في كل لحظة من لحظات العرض أيضا (إذا ما نظرنا إليها في جملة ترابطاتها واعتماداتها المتبادلة بالعلامات الأخرى)؛ ولا شك أن هذا يعد تجليا ساطعا للمركزية المتراجعة وللتهشيم المستمر الذي أصاب صنميتها المقيتة!

العلامة
(اللغة / الجسد):
في (كلام في سري) يسعى (العرض) لتحطيم المركز التعريفي للعلامة اللغوية، مما ينزلق بالدال نفسه إلى معانٍ أخرى. هكذا، لنجد أنفسنا أمام فضائين، أحدهما (لغوي؛ مسموع) والآخر (مسرحي؛ مرئي)، وبقدر ما يتجاذباننا فإنما يتجاذبان فيما بينهما أيضا، أعني أن كلا منهما ينطبع في الآخر متخذا منه مرجعا له في حل شفرته. وفضلا عن هذا، فالإثنان معا يصنعان علامة جديدة (مرئية - مسموعة).
في أحد مشاهد العرض تقول (الممثلة):
[ : يااه... تعرفو.. انتوا بتفكرونى بنفسى أيام ما كنت بافكر.. أيام ما كنت
 عاوزه افهم.. كانت أيام حلوه.. مش حلوه قوي.. مش حلوه خالص..
 هيه بصراحه كانت أيام سوده.. بس همه عودوني على كده...
الراقصة: همه.. همه مين؟..
الممثلة: اللي كنت بافهم منهم..
المطربة: يعني كنتي بتلاقي حد يفهمك؟..
الممثلة: يااه... كنت أول ما انزل من بيتنا واحاول افهم أي حاجه.. كنت الاقي ميت واحد طلعولي ما اعرفش منين ووقفوا جانبي وفهموني..
المطربة: بزمتك كانوا بيقفوا جانبك؟..
الممثلة: جرى إيه يابت ما تمشيها جنبي..
الراقصة: ها... وبعدين...
(الراقصة والمطربة يجسدون الميت واحد وتتعامل معهم الممثلة.. الميت واحد يجسدون المضايقات التي تتعرض لها الفتاة الشرقية في الشارع.. مثل التحرش والاحتكاك والمعاكسات السمجة.. كل هذا دون كلام)..
الممثلة: كان كل واحد من الميه ليه طريقة شرح مختلفة عن التاني.. وكل واحد ما كانش يتتعتع ولا يتحرك من مكانه غير لما يتأكد أن المعلومه وصلتني بالكامل.. كان كل واحد من الميه بيفهمني حاجه تانيه غير اللي كنت عايزه افهمها.. بيفهمني اللي هوه عايز يفهمهولي وبس...] (2).
في هذا المشهد، تحمل العلامة اللغوية دلالة (البحث عن المعرفة) - وهي ترتبط بالمشهد السابق على هذا المشهد مباشرة (ويتمحور حول ما تعانيه الفتاة في محيطها العائلي من نظرة منتهكة لكينونتها الأنثوية - دون أن تعرف مبررا لذلك!)، هكذا... لكن العلامات المرئية تحمل دلالة أخرى ترتبط بـ(الجنس)، بما يعني أن محاولاتها البحث - في الخارج - عن إجابات متعلقة بأسئلة الانتهاك تلك، تمتد لتطال جسدها أيضا. مما يعمق لديها الإحساس بتلاشي الكينونة.
العلامات اللغوية تدل على شغفها بالمعرفة، والعلامات المرئية تدل على الانتهاك الجسدي، هذان المساران العلاماتيان، ليسا متضادين فقط على مستويي (العقل/ الجسد)، بل وأيضا على مستويي (اللغة/ الصورة).
هذا وبينما نرى كلتا المجموعتين من العلامات وقد انطبعتا في بعضهما البعض؛ كوجهي العملة الواحدة، نجد أنفسنا أمام نسق علامي جديد، يتمحور حول علاقة الجسد بالمعرفة: (معرفة الجسد، جسد المعرفة) - كمجالين تتمظهر فيهما (السلطة المجتمعية؛ الذكورية) بأبعادها المختلفة.
غير أننا نلاحظ أنه وعلى الرغم من كل هذا، فإن الحضور الجسدي الأنثوي في الفراغ المسرحي، يبدو وحشيَّا، حتى إنه يكاد يبتلع ذلك الفراغ؛ ومعه السلطة الذكورية نفسها!
هذا الحضور المادي بدلالته الرمزية، يقابله غياب (الذكر) تماما عن خشبة المسرح (فالفتيات الثلاث اللاتي قدمن العرض، كن يؤدين أدوار الرجال - والمشهد السابق؛ الذي استشهدت بجزء منه يبين عن ذلك، وهناك مشاهد أخرى كثيرة يفعلن فيها نفس الشيء).
ما أعنيه بهذا، هو أن الخطاب (الأنثوي) يبدو متناقضا؛ فحين يرمي إلى فضح وتعرية الخطاب السلطوي (الذكوري)، فإنما يفضح ويعري نفسه أيضا - (لأنه هو الذي يستحوذ على السلطة المسرحية) - هكذا تشير علامات العرض في ترابطاتها المتحولة.
ومع هذا، فنحن نفاجأ بظهور (خط هروبي جديد) تنحرف عبره علامات العرض عن مسارها (الذي انتهينا إلى رصده) إلى وجهة أخرى. هذا الخط الهروبي الجديد، هو (حضور الجمهور) نفسه كجزء لا يتجزء من العرض... إن حضور الجمهور - (ككتلة اجتماعية) تستحوذ لنفسها على كمية هائلة من واقع العرض ككل - يضع حدا للحضور الأنثوي (الجسدي - الخطابي). وبذا تتحول عملية الفضح والتعرية، أي: (البوح بالمسكوت عنه) - الذي هو (كلام في سري) - إلى الهامش الاجتماعي.
وهكذا، فأنظمة العلامات في العرض تفكك بعضها البعض، من خلال (آلية التصادي) - التي أشرت إليها في صدر المقال.

(الرغبة)
(المعرفة / الجسد):
(الرغبة) - هنا - ليست نزوة بيولوجية، أي أن الذات لا تختزل نفسها في رغبة (أي في علاقة بالآخر باعتباره شخصا)، فعلى الرغم من أن الذات (جسد) منخرط في عالم، فإنه يتحتم عليها أن تحيا في العالم وتفعل وتنتج فيه. وبذا فالعالم لا ينضاف من (الخارج) إلى كون مغلق توجد فيه (الذات والآخر - متحدين ومنفصلين - من خلال علاقة الرغبة)، بل العالم كائن هنا ومباشرة، يأخذ فيه (الآخر) أشكالا اجتماعية لا حصر لها.
إذن (الرغبة) هي (البنية الأساسية للذات)، لذا فهي دائما (رغبة في...) - هذا الشئ الذي ترغب فيه الذات يحيلنا على (آخر) يمتلك شكلا اجتماعيا.
نخلص مما سبق إلى أن الرغبة عادة ما تكون في الآخر - أو أن الآخر هو هدف الرغبة. لكن هذا كله لا يتم إلا عبر غياب الذات عن نفسها وحضورها في الآخر؛ بمعنى أن كل علاقة للذات بذاتها هي علاقة بالعالم والآخر (أي أن الإنسان يقوم ببناء ذاته بنفسه ومن قبل الآخرين)، فالإنسان يكون غائبا عن ذاته لأنه يحمل هذا الغياب في ذاته باعتباره (رغبة في ما ينقصه) - إذن (الآخر) هو مكان حضور الذات أو أن الآخر هو موضوع الرغبة؛ في أشكال شديدة التعقيد. مما يعني أن (الرغبة) إنما هي رغبة في (المعرفة)؛ (في اكتمال الذات) عبر الآخر (3).

(1)
في عرض (كلام في سري) الآخر الذكر: (الحبيب، الزوج، الأب...)، موضوع (حب) - حيث إنه يمثل ما تحتاج إليه الأنثى، لكنه في الوقت نفسه موضوع (كراهية)؛ إذ يشهد وجوده على أنها كائن بشري غير مكتمل.
الإشكالية هنا تنحصر - كتقدير أولى على الأقل - في أن جرح الأنثى الوجودي (الخاص بعدم اكتمالها) يتفاقم مأساويا باختزال الذكر لها في (جسد). عملية الاختزال هذه تنطوي على (انغلاق - رغبوي - بيولوجي) بلا معرفة!
في العرض ترتبط (الرغبة في الآخر - الذكر) بـ(الرغبة في المعرفة) على نحو مباشر.
وها هن - الفتيات الثلاث يخاطبن (الآخر)، فيقلن له في (مشهد حلمي):
[ الثلاث: تعرف..
الراقصة: انت الوحيد اللي حسيت انه عاوزني أنا، مش عاوز شكلي ولا جسمي ولا أي حاجه غيري أنا..
الثلاث: تعرف..
المطربة: انت الوحيد اللي اداني أمل ان الدنيا ينفع يتعاش فيها تاني..
الثلاث: تعرف...
الممثلة:.... لو ضعت مني مش حعرف اعيش تاني...].
في هذا المشهد - وعلى الإيقاع المتواتر لفعل (المعرفة)؛ الذي يفيض بالحضور - نجدهن يتحدثن عن (الذات) الراغبة في الاكتمال؛ الراغبة في العثور على ماهيتها (لكي تستمر كينونتها: أي وجودها)، عبر الحضور في الآخر (الغائب) الذي يتشكل داخل إيقاع فعل المعرفة كحلم فقط. مما يحيلنا مرة أخرى إلى الحضور الوحشي للجسد الأنثوي، في العرض ككل - ذلك الذي أشرت إليه من قبل. فعلى خلفية ما سبق ذكره للتو، يمكن لنا أن نخلص إلى أننا أمام (عرض) لجرح الأنثوي يفرض حضوره بقوة على الملأ (الاجتماعي).
في مشهد آخر - يعود لبداية العرض - نجد التالي:
[يضاء بروجيكتور ويوجه إلى الجمهور في الصالة ثم تأخذ الفتيات الثلاث في النظر إلى الجمهور بمنتهى الجدية ويبدأن في ترديد تلك الجمل:
الثلاث: ممكن سؤال؟.. هو انتوا إيه اللي جابكوا قدامنا هنا.. معقول تكون
 صدفة؟.. وّلا حاجه وسخه؟..
 بس احنا ما بنؤمنش بالصدفه.. يبقى إيه؟.. إيه؟.. إيه؟..].
عملية عرض (الجسد) المنفصل عن (ماهيته) - من وجهة نظر الذات الأنثوية - تعني عرض ماهية أخرى، هي الماهية الاجتماعية (أو التعريف الاجتماعي للجسد الأنثوي)؛ المتحول إلى (علامة = شيء) (يتم شرعنة تداولها وفق نظام العلامات ومنطق التبادل القائم) (4).

(2)
ولكن، ما الذي يعنيه غياب الآخر الذكورى - الذي ليس بإمكان الذات الأنثوية تعويضه، استكمالا لنقصها؟
كنت قد اقترحت من قبل إطلاق إصطلاح (الميتاذات) على هذا النوع من العروض، إذ تتمحور حول (خطاب الذات عن الذات)، بما يعنى أنه (أى الخطاب) ليس تمثيلا للعالم - كما هو الشأن في المسرح التقليدى - أي أنه لايبحث عن (حقيقة العالم الخارجى)؛ بوصفه (آخر) مفقود، وإنما يبحث عن (الآخر في الذات) أو(الآخر كما تتمثله الذات - معرفيا)، وبذا تتحول الذات نفسها إلى آخر.
وتبعا لهذا ف (الذات) - في عرض (كلام في سري) - وبما أنها لا تدرك موضوعها الذي ترغب فيه (أعنى: الآخر)، فإن مأحدث لديها هو تحويل أو تحوير للرغبة، من (الرغبة في الآخر) إلى (الرغبة في الذات - كآخر)!. أعنى أن الذات اتخذت من نفسها موضوعا لنفسها.
وفي العرض نلاحظ وجود علاقة بين الجسد الأنثوي والمثيل؛ (مثيله) - الذي يعنى تكاثر الجسد أو انقسامه على نفسه (كالخلية). من هنا نجد أن (الفتيات الثلاث) يتشابهن في كل شئ: (الملابس، تكرار الكلمات، الحركة...)، حتى أننا لا نعثر على تمايزات واضحة فيما بينهن، سوى في العمل: (راقصة، ممثلة، مطربة)، كما أن هذا الاختلاف نفسه يتشابه في إنتسابهن إلى الفن - كل هذا يعني أننا أمام جسد واحد لذات واحدة متشظية.
مما يقودنا للدفع بأن (الخطاب) الخفي، المتواري خلف تلك المظاهر، إنما يعري ويفكك الوحدة المفترضة للذات - تلك التي يقررها المجتمع سلفا للأفراد - فهي ليست أكثر من وحدة وهمية ساذجة، إنها (ماهية) ما قبلية، سابقة عليهم في الوجود.
وربما كان هذا هو ما يفسر لنا لجوئهن إلى ممارسة (المثلية الجنسية)؛ فانكفاء الذات على نفسها، وما يفضي إليه هذا من اجترار قسري للجسد (أي دورانه في فراغ لا يكتمل به وإنما يستهلكه فقط – ذلك أن معرفة الذات لنفسها عبر الشبيه أو عبر ما يتناسخ معها، ويكررها، في غياب الآخر الحقيقي، هو الوهم نفسه) مما يشي بتطابق الذات مع نفسها.
وفي العرض كان الطابع العام للحركة دائريا وتكراريا، فيما يشبه علاقة الصوت بالصدى والشيء بالصورة أو الظل - وبالإمكان أن نطلق على تلك الظاهرة التي تدخل فيها الذات في علاقة مع مثيلها، اسم (العلاقة المثليَّة أو الأيقونية).
وإذا كان هذا النوع - الجديد - من العروض، يبدو كأنما يقذف بنفسه بقوة في أتون الميتافيزيقا، إلا أنه مع ذلك - يسعى لتفكيك تلك الميتافيزيقا، ذلك أن (الفتيات الثلاث - بتماثلهن)، إنما يؤكدن - بإلحاح - على فكرة (حضور الجسد): أنه يتكاثر، ينتشر، يملأ - بكثافة - زمكانية المسرح، ك (دال متعدد)، مما يجذِّر (الذات) في (الجسد) - الذي لعب طوال تاريخ الفلسفة دور الطرف الآخر (الذي يحتل المرتبة الأدنى) في ثنائية (العقل/ الجسد)، هذا والعقل هنا هو (المعرفة) التي بحثن عنها ولم يجدنها.

الرغبة
(الجسد / العالم):
سأحاول هنا إلقاء مزيدا من الضوء على ما تتأسس عليه (الذات) - أعني: (الرغبة) - في علاقتها المتحولة بالجسد والعالم.
على مدار التاريخ كان هناك دائما تأويلات واستعارات تحكمت في وضعيات الجسد عامة - والأنثوي خاصة. ففى ظل المجتمع الرأسمالي - فيما يقول (ماركيوز)، تحوَّرت دوافع الجسد الإنساني وغرائزه، إذ تم إحلال (مبدأ الواقع) محل (مبدأ اللذة)، ويعني بهذا أن (الرغبة) تحولت إلى عامل من عوامل الإنتاج والمردودية. كما يؤكد (بودريارد) على أن هناك فرقا بين الجسد حامل الرغبة كدافع بيولوجى، والجسد حامل الرغبة كعلامة تبادلية، فبينما يحكم الأول (بنية فردية للذة)، يحكم الثاني (الاستعمال والتبادل الاجتماعي)؛ من خلال استعارته الأداتية وإكراهه الوظيفي... مما يعنى التحول من (مبدأ الواقع) إلى (إيروتيكية جديدة) - بعد أن كف الجسد عن الإنتاج، في مجتمع التقنية العالية، وتحول إلى (الاستهلاك).
كل هذا يعني تحويل أو تحوير الجسد بإعادة تشكيل (الرغبة) - الناتج عن (الإغراء والافتتان والتبادل داخل أنظمة التواصل وقيم الاستهلاك المعاصرة) (5).
وهكذا، لم يعد الجسد هو مصدر (الرغبة) وإنما المجتمع الخارجي، المعولم - الذي يجتاحه الآن ما يسمى ب (الزمن الأيقوني)، وفى هذا يقول (عبد الصمد الكباص)، (إذا كان العرف السيميوطيقى يحدد الأيقونة باعتبارها العلامة التي تطابق مرجعها الأصلي، أو على الأقل تشبهه، فإن الزمن الأيقوني هو الزمن الذي أصبحت فيه الأيقونة أهم وأخطر من مرجعها. لم يعد الواقع هو المرجع الأصلى الذي يحكم في قيمة الأيقونة (الصورة) وجودتها، بل بالعكس، أصبحت الأيقونة هي المرجع الأسمى الذي يحسم واقعية الواقع. لقد أصبحت الأيقونة معقل الحقيقة) (6).
وفي عرض (كلام في سري) لا تنقطع الإشارة إلى الواقع الراهن وتحولاته في ظل العولمة. فكما تحولت الطبيعة ذاتها، ممثلة في السماء (التي أصبحت تمطر ملابسا داخلية وخارجية ساخنة)، نجد أيضا أن التحول قد شمل مجمل القيم والمعايير الدينية والأخلاقية [السجاير مابقيتش تفطر الصايمين/ الباروكه خلوها بدل الحجاب/ أخويه اللي عنده 30 سنه لو رضع من مامتى مش عيب ولا حرام/ ممكن قدامك اترهبن واتنقب وما يبانش من جسمى ولا سنتى ومن وراك ابقى حاجه تانيه/ فنانة صاعده بدون مواد صناعية/ مذيعة فاتنه في قناة فضائية...] إلى أن تقول (الراقصة):
[اسكت، اخرس خالص وماتنطقش بولا كلمه، غير لما تشوف بعنيا وتسمع بوداني وتفهم بدماغي اللي باشوفه واسمعه وافهمه كل شويه، ساعتها بس حتحس بيا، ومش بعيد اصعب عليك، وتاخدنى في حضنك اللي نسيت شكله].
مما سبق نلاحظ أن جميع التحولات تنصب على (الجسد)؛ الذي دخل في إطار النماذج والأنساق الرمزية - الاستهلاكية - المعاصرة. فها هي أجساد الفتيات تتحول إلى (مانيكانات)، وأجساد الرجال إلى (دمي)، أما (الحبال الممتدة من أعلى إلى أسفل) فتقسم خشبة المسرح إلى مناطق تبدو كأطواق أو أطر (تأطير الجسد): بوضعه داخل فاترينات، علب، فضائيات... إلخ. هذا وكل مشهد من مشاهد العرض يبدأ بخروج أجساد الفتيات من تلك الأطر، وينتهي بعودتها إليها - إنه عالم الاستعارة التقنية للجسد، في عصر التقنية ومجتمع الاستهلاك.
وفضلا عن هذا، نجد أن (العرض) ينبني على التتابع الكيفي والتكراري للمشاهد والصور - وليس على التتابع التقليدى المتنامى، المعهود. كما أن (العرض)، ينتهى بنفس المشهد الذي بدأ به، فيما يمكن أن نطلق عليه (تدوير العرض) أو (العرض المسرحي المدوَّر)؛ مما يعني أن العرض ككل هو استعارة بصرية لفكرة دوران الذات حول نفسها.
وهكذا، فالواقع الجديد لم يعد يسمح بإدراك الذات لموضوعها خارج دائرة التداول القيمي والسلعي.

 (المنظورية)
(المكان / الجسد / الإضاءة):
المكان المسرحي: بناء مفاهيمي، تصوري، تمثلي (إدراكي) - أي أنه تشكيل رمزي للعالم.. ومن غير الممكن اختزاله في الأبعاد الهندسية فقط، إذ يتعداها إلى الأبعاد الثقافية أيضا. مما يعني أن معالجة المكان المسرحي هي فكر مرئى: أي نمط من التمثلات يتسم بخصائص محددة.
لذا فالمكان الفارغ، المفتوح على جميع الاتجاهات والذي يصعب تعيين حدوده، في (عرض - كلام في سري)، حين ينضاف إليه (الجسد الإنساني)، إنما يتحدد ويكتسب أبعادا (يكف معها عن أن يكون كمّا متجانسا)، وهذا يعني - من ضمن ما يعني - أنه يتحول إلى (إطار) فعلي. وكل إطار هو (إطار لموضوع ما).
لكن الفراغ (= الموت)، إنه حضور الموت، لأنه (فراغ من...)، لذا فوجود الجسد الإنساني في الفراغ، بقدر ما يمنحه أبعادا ذات دلالة، فإنما يضعه في مفارقة مع (الحياة) ذاتها كامتلاء وحركة. فالجسد (= الحياة) هو الحد المقابل للموت. ويمكن القول إن كلا منهما يتحدد بالآخر.
الجسد في المكان، بقدر مايتضمنه المكان فإنه يتضمن المكان أيضا - نظرا لأنه يحدد المكان، يمنحه (هوية) محددة؛ ليصبح مكانا للجسد (للحياة): ممتلئا أو مسكونا وحيا؛ عامرا بالحركة...
المكان في (كلام في سري) لا يوجد به شيء آخر سوى (حبال) تبدو كخيوط واهية - تشد السماء والأرض، كل إلى الآخر - كما أنها تعيِّن مناطق أداء ذات دلالة. ثم (الممثلات الثلاث) اللاتي يقدمن علاقات مفتوحة مع المكان - الذي يبدو هنا كسطح فقط، ترتسم عليه مجموعات محددة من الخطوط (يمحو بعضها بعضا)، وإن لم تفعل فسوف يمحوها الفراغ. المكان - هنا - لا يحمل ذكرى وجود الإنسان، لذا فهو لا يتضمن أي زمن (فيما عدا الزمن الميتافيزيقى - المطلق)، المكان يهمل الإنسان، يعده عابرا... لذا يظل المكان فارغا وبلا ذاكرة (بلا تاريخ)، رغم كل ما يبذله الإنسان من حركة وفعل وصوت ووجود فيه.
ونحن نعرف أن هذه هي طبيعة المسرح، إذ لا يزيد عن كونه (كمية من الفراغ والصمت) تمنح لصُنَّاع (العروض) - وبينما تزول هذه الأخيرة سريعا، يعود الفراغ إلى فراغه والصمت إلى صمته. هكذا، كأنما هما (نقطة الصفر) - غير البريئة - أو(العدم)، وكأنما (الوجود - أو العرض) ليس أكثر من مسافة يقطعها العدم كي يصل إلى نفسه من جديد!. لكن عزاءنا يكمن في أن العدم سيكف عن أن يكون عدما بدون الوجود، وكذلك هذا الأخير، فبدون العدم لن يدرك الوجود وجوده، أي أن العدم هو الذي يدلنا علينا!
وفضلا عن ذلك، فالعرض المسرحي عامة، في لحظة (وجوده) نفسها، يبدو ك (مِزَق) في جسد الفراغ والصمت.
لذا فـ(الإضاءة) - وهي العنصر المحسوس الذي يسمح بظهور المكان والجسد، وإبراز العلاقة بينهما - في (كلام في سري)، تلعب دور (الراوي)، إنها صوتنا في الزمن (إن جاز التعبير)، ذلك الصوت يبدو ك (الأثر) الذي نتركه وراءنا، متخذا هيئة (ومضات وعى خاطفة)، منتزعة من الفراغ (الموت) - إذ يتكاثف فيها وجودنا العابر. وبتعبير آخر، تبدو (الإضاءة) كأنما هي (الآخر - بالمعنى الدريدي) الذي يبدد حضور الفراغ كمعنى متحجر.
ومن ناحية أخرى، إذا كانت الإضاءة هنا هي المكافئ الرمزي للزمن التاريخي - أو الإنساني - وإذا كان الزمن هو (العمق)؛ أي النقطة التي تتلاشى عندها جميع الخطوط المتوازية، للطول والعرض، أي (للجسد والمكان)، فسحب الدعامة المادية للعرض، يضعنا أمام مايطلق عليه التشكيليون - إصطلاح (المستوى الشفاف)، مما يولد لدى المتفرج (انطباعا بأن نظره يخترق ويستقر في مكان خارجي متخيّل، يضم جميع هذه الموضوعات) (7)، وكأنه بذلك يفتح ثقبا في العرض، لينفتح به على العمق الذي يقع خارج العناصر المادية التي يراها - هذا العمق هو (الغائب) الماورائى نفسه الذي يصمت عنه الفراغ، والذي يستمد منه العرض دلالته.

خاتمة:
التناول السابق كله، بتمحوره حول (تشظى الذات وانفصالاتها عن الجسد والآخر والعالم، وكذلك تحولات الرغبة وانقطاعها عن الجسد...)، يضع المتفرج أمام ذاته (التي لم تزل تتمتع بوحدة وهمية؛ نظرا لارتهانه لأوهامه الذكورية)، فعلى مرجعية تلك الذات - الراسخة تاريخيا - بإمكان المتفرج أن يرى في (العمق الماورائي) للعلاقة بين الفتيات الثلاث، نقطة متلاشية أخرى، هي (الذات)؛ باعتبارها حقيقة الحقائق كلها؛ أعنى الذات المنتجة للمعنى، والضامنة لوحدة المعارف والقيم والوجود برمته، ومن ثم (الهوية). سيراها ذلك المتفرج متمثلة في ذاته هو (لأنه فيما يتصور - يقبض على الوجود، والعدم أيضا) ويتماهى معها - هذا في مناوأته ومعارضته لخطاب العرض الذي يرى أن (قوة الحياة - الذكورية والأنثوية معا، هي الجمال المسرحي) الذي باستطاعته ترويض الماورائي نفسه (أي المرعب).
وبذا، يمكن لنا أن ننتهي إلى أن المرعب حقا هو تلك الذات الذكورية المغترة بنفسها، وهو ما يقدمه العرض بجلاء - ولعل الرفض الأخلاقي الذي جوبه به (كلام في سري) - في عرضه الأول - من بعض قطاعات المجتمع، يؤكد ذلك.

الهوامش:
*[عرض «كلام في سري» تأليف: عز درويش، إخراج: ريهام عبد الرازق].
1 - انظر (أندري بوتيتا) (التبادل الرمزي والتاريخية) ت: حسن أحجيج، العدد (40)، على الموقع التالى:  HYPERLINK “http://www.fikrwanakd.aljabriabed.net” www.fikrwanakd.aljabriabed.net
2 - جميع الاستشهادات تعود إلى نص مسرحية (كلام في سري)، (نسخة الإخراج)، المنشور في النشرة اليومية لمهرجان المخرجة المسرحية، الدورة الثانية، العدد (1)، وهو من تأليف: عز درويش.
3 - انظر (محمد بو بكري) (الرغبة والمعرفة) العدد (27) - على الموقع السابق.
4 - انظر (رشيد الحاحي) (أسطورة الجسد في عصر التقنية ومجتمع الاستهلاك)، العدد (30)، الموقع السابق.
5 - المرجع السابق.
6 - انظر (عبد الصمد الكباص) (الزمن الأيقوني ودغمائية المستقبل) العدد (16)، الموقع السابق.
7 - إنظر (أردلان جمال) (المنظورية والتمثل) العدد (13)، الموقع السابق.


محمد حامد السلامونى