تسجيل دخول.. الدوامة وضياع العمر

تسجيل دخول.. الدوامة وضياع العمر

العدد 629 صدر بتاريخ 16سبتمبر2019

في إطار فعاليات المهرجان القومي للمسرح قدم مركز الهناجر للفنون على قاعة د. هدي وصفي، العرض المسرحي “تسجيل دخول”، وهذا العرض المسرحي يغلب عليه الطابع العبثي في تماس مع واقع المجتمعات العربية التي تعيش حالة اللاجدوى وبخاصة بعدما حدث في بعض بلادنا، وشاعت كلمة ثورات الربيع العربي، وقد استفاد مؤلفا العرض (إسماعيل إبراهيم – فادي سمير) من أشهر كاتبي مسرح العبث (يوجين يونيسكو – صمويل بكيت)، ولكن بطعم ونكهة مصرية.
تدور فكرة العرض عن تأثير الفيسبوك علينا، فقد سلب منا الحياة، جعلنا نعيش عالما افتراضيا مزيفا، فلا مانع من أن ينتحل الرجل اسم سيدة أو العكس (منة تصبح يحيى والعكس) لقد عزلنا الفيسبوك عن عالمنا الحقيقي الذي تشعر فيه بأنك إنسان، قدمت الأحداث بشكل سردي بسيط، بعيدة عن الملل، تتدفق أحداثه. يبدأ العرض بظهور رجل يرتدي ملابس ساحر ليقدم لنا العرض فهو يقف أمام المتلقي بصالة العرض يسار خشبة المسرح، يوجه الحديث للمتلقي، ويتكرر ذلك أثناء العرض، ويتحاور مع المتلقي (جزء من العرض متفق عليه)، ومن خلاله وعند صعوده على المسرح، نتعرف على بقية الشخصيات، وهم ست شخصيات، ثلاث إناث وثلاثة ذكور هم نموذج من مستخدمي الفيسبوك، مختلفون سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، يقضون ساعات وساعات أمام الفيسبوك، لا يشعرون بمرور الزمن، فقد دخلوا إلى دوامة الإدمان للفيسبوك، فبدأ العمر يضيع في اللافائدة (الهري)، يقومون بعمل تراند وهاش تاج، كل ما يكتبونه لا قيمة له إلا فيما ندر، معلوماتهم عن الواقع الحقيقي مشوشة، ارتباطهم بالعالم الخارجي عن طريق التليفون المحمول، يتحدثون مع موصل الطلبات للمنازل (عامل دليفري) الذي يظهر من خلال الأحداث على فترات يمين أو يسار مقدمة المسرح ليحكي ما يحدث في الشارع المصري (فهو موجود في كل ميادين مصر) وتوقف المرور فيها بسبب الاعتصامات هو السبب في إغلاق محطة السادات (في إشارة للاعتصامات التي حدثت منذ أحداث يناير في ميدان التحرير وأماكن أخرى) هذا العامل يعمل في مطعم “بكره أحلى من النهار ده بكره يا يومنا الجديد”، يردد الأصدقاء جملة “بقالنا كتير ما تقابلناش ما تيجو نخرج”، لكنهم لا يستطيعون الخروج لأن كل منهم ينظر لعيوب الآخر، لا يرى ما فيه من عيوب.
نلاحظ طوال العرض أن الساحر يتدخل في بعض الأحداث التي تدور على خشبة المسرح، بكلمة، أو بعض الحركات مع المانيكان، في دلالة على أنه سرق حياة هؤلاء الشباب وأصبحوا جثة هامدة يحركهم مثل المانيكان، أو بعمل إشارة بأنه نزع فيشة الكهرباء ليشعر المتلقي بأنه المتحكم في السلطة الإعلامية للفيسبوك ينشر ما يريد للشباب المنساق وراء الإشاعات.
يجلس الساحر بجوار المانيكان ويعلن أن اليوم هو اليوم العالمي للصمت، يحاول الشباب الخروج من الباب لكنهم لا يستطيعون كأنهم فقدوا الحركة. أتقن المخرج (هاني عفيفي) التعامل مع أدواته فنجد الديكور (مي كمال) عبارة عن محتويات شقة كأي شقة: كراسي (غرفة استقبال)، سرير ودولاب (غرفة نوم)، مانيكان ولوحة رسم (أتيليه)، ثلاجة (مطبخ)، قاعدة حمام (حمام) موضوعة على مستويات بطريقة عشوائية في دلالة على عشوائية الاستخدام للفيسبوك وكذلك استقبال المعلومات عن طريقه، وضعت الثلاجة أمام قاعدة الحمام، فثلاجة حفظ الطعام، استخدمها شاشة (مونتاج فيديو أحمد روبي) حفظ للكثير من المعلومات الفاسدة لما مرت به مصر والمنطقة العربية في السنوات الماضية، قاعدة الحمام مكان إخراج السموم من جسد الإنسان، استخدمها كمكان لنشر السموم وفضح المستور والتعري أمام الجميع، توجد ساعة كبيرة معروضة أسفل المسرح تدور طوال الأحداث في دلالة على مرور الزمن والحياة دون أدنى فائدة. الملابس (مروة عودة) عبارة عن ملابس ساحر بها لمحة أجنبية يرتديها مقدم البرنامج المتحكم في العرض في دلالة واضحة أنه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وهو في الحقيقة انعزال اجتماعي تحكم المستعمر في الشعوب التي تدخل هذا العالم الافتراضي تاركة عقولها كي يحركها كما يشاء، كذلك عامل الدليفري يرتدي زيا لا يرمز لمطعم محدد، فهو واحد من الشعب تواطأ مع شخصية ما على عدم توصيل الطعام، وهذا يعني تفسيرات وتأويلات كثيرة، أما الست شخصيات بقية ممثلي العرض يرتدون ملابس وأحذية عصرية لكنها مقطوعة وموصولة “برقع” من البلاستيك الشفاف في دلالة على أن أجسادهم مستورة بالملابس لكنها في حقيقة الأمر تفضح أكثر ما تستر، فهم عرايا أمام العالم.
الإضاءة (هاني عفيفي – محمد عبد المحسن) حققت رؤى بصرية معبرة عن كل موقف، فقد استخدم بؤرا ضوئية لإنارة الشخصية المطلوب إنارتها، كذلك أعاد الكثير من الكلمات والأفعال، وكان التركيز عليها بالإضاءة، في دلالة على أن شخصيات العرض تعيش حالة الانعزال، ويوجد كشافا إضاءة أعلى يمين ويسار المسرح باللون الأحمر موجهان ناحية الممثلين وكذلك المتلقي لدمجهم في وحدة واحدة لكي يتم التوقف عن تسجيل الدخول أو نفكر فإنك تسير ناحية الخطر. أما عن أداء الممثلين، أجاد كل الممثلين (أحمد السلكاوي – شادي الدالي – عمرو جمال – محمد الشافعي – منة حمدي – هبة الكومي – ندي نادر – أوسكار نجدي) فقد استثمر المخرج الطاقة الإبداعية المخزونة للمشاركين في العرض فقد انتزعت الضحكات في كوميديا سوداء، من لغة الحوار العبثية والتهكم على سلبيات المجتمع من خلال ما يكتب على الشبكة العنكبوتية، بين أشخاص مختلفي الطباع والثقافات فمنهم متحدث اللغات المطلع على لغة الشارع، والمهتمة بالموضة، ومدعي الفن، فقد عاشوا كل الأحداث التي مرت بها منطقتنا العربية سواء بالمشاركة باستخدامهم وسائل التواصل أو بالمشاركة الحية في الأحداث التي مرت بها مصر. عرض ممتع يستحق المشاهدة، تحية واجبة لكل من شارك في هذا العرض.


جمال الفيشاوي