مسرح المقهورين بين النظرية والتطبيق

مسرح المقهورين بين النظرية والتطبيق

العدد 760 صدر بتاريخ 21مارس2022

يعتبر مسرح المقهورين لمبدعه المخرج البرازيلي «أوجست بوال»، حركة تمرد ليس فقط على القواعد المسرحية المتعارف عليها؛ بل على الحياة نفسها، فالمسرح كما يقول بوال (بروفة للحياة)، ربما سهولة هذه الجملة يجعلها لا تحتاج لشرح وتوضيح؛ لكنها من ناحية أخرى توضح رؤية «بوال» للمسرح وللحياة معا، فهي تحمل في طياتها جوهر العملية المسرحية التي قام من خلالها «بوال» بتقديم منهج مسرحي ثار من خلاله على أمور عدة. 
ربما تكون السطور السابقة مناسبة للبعض، خاصة للفريق الذي يؤيد هذا الشكل المسرحي، ولكنها مقلقة لفريق آخر؛ منه من يقف عند المرحلة البريختية ولا يريد أن يتجاوزها، ومنه من تجاوزها ووصل للتجريب، ولكنه يؤمن في قرارة نفسه بأن النظرية الأرسطية والبريخيتة هما نهاية المطاف، وما بين الفريق الأول والفريق الثاني نجد فريقا ثالثا ينظر بدقة للعوامل والقوى المؤثرة، يتابع الزمكان، يضع الظرف التاريخي والمجتمعي نصب عينيه، يراعي العديد والعديد من العوامل التي تفرز لنا من وقت لآخر نمطا مسرحيا يناسب بيئته، وربما استطاع هذا النمط أو الشكل المسرحي القفز على أكتاف الزمن ليعبر إلى العصور المختلفة، وربما لم يستطع. 
ولا أدل على ذلك بمسرح العبث الذي نشأ كرد فعل للحرب العالمية وانتشر في العالم أجمع. وقبل الحديث عن ماهية هذا الشكل المسرحي والدخول في جوهر هذا التكنيك دعونا نسأل ما علاقة المجتمع المصري بمسرح «أوجست بوال»؟ أو بالأحرى كيف تسلل هذا الشكل المسرحي إلينا؟ ببساطة شديدة ودونما الحاجة لتأريخ وتأصيل، نستطيع القول ونحن في غاية الاطمئنان إن هذا اللون المسرحي دخل وانتشر على يد العاملين بمؤسسات المجتمع المدني، وخاصة الجمعيات الأهلية، وكان الهدف وقتها في غاية النبل ألا وهو البحث عن طرق جديدة ومبتكرة لمناقشة بعض القضايا المجتمعية الملحة، التي تحتاج لطرق أفضل وأقوى من الندوات والمحاضرات وغيرها من الطرق التقليدية التي أصبحت مُستهلْكة ومُستهلِكة..  فبدأ البحث عن طريقة فعالة يكون لها مفعول السحر، ووجدوا ضالتهم في هذا الشكل المسرحي الذي انتشر كالنار في الهشيم، ربما يعود هذا الانتشار لسهولة هذا الشكل المسرحي أو لتشابه بعض الأوضاع المصرية والبرازيلية أو لملاءمته لجوهر القضايا المجتمعية أو رغبة من البعض في التجديد أو كل ما سبق أو غيره. كل ما نستطيع قوله حاليا أي بشكل آني إنه أي مسرح المقهورين (الحاضر الغائب).
وبما أني كنت وما زلت أحد المشتغلين بهذا الشكل المسرحي، فقد سبق وتدربت لمدة 10 أيام وربما أكثر على يد المخرج السوري عمرو أبو سعدة، وقت أن قامت جمعية الجزويت والفرير بتدريبنا على هذا الشكل المسرحي، وبعدها انطلقنا نجوب محافظات ونجوع وكفور المحروسة، نكتب ونمثل ونتفاعل مع الجمهور؛ بل ونغير. 
فقدّمنا العديد والعديد من المسرحيات «التفاعلية» التي ناقشنا من خلالها (العنف ضد المرأة، والميراث، والطلاق، والختان، وعمالة الأطفال وحقوق الراعية) وغيرها من المشاكل المجتمعية والنفسية، ولكن ظل السؤال الذي يراودني: هل ما نقدمه فن؟ هل ما نقدمه مسرح؟ ولا تقل لي: «طالما توفر مكان العرض، ومكان الفرجة، وغرض المشاهدة أصبح المعروض مسرحا». فما أقصده أبعد من ذلك بكثير، وأيضا لا تنتظر مني أي إجابة ونصيحة، لا تتعجل وتجيب! دعنا نستعرض كل شيء وبعدها لك ما تشاء.
نشأ مسرح المقهورين على يد الفنان البرازيلي «أوجست بوال» انطلاقا من أفكار المفكر التربوي «باولو فريري» وما بين أوجست بوال وباولو فريري سنوات قليلة مملؤة بالمساحات الفكرية العميقة.
وُلد باولو فريرى» عام 1921 فى مدينة برازيلية صغيرة لأسرة فقيرة.. عاش الفقر وعايشه، فاكتشف ما أسماه «ثقافة الصمت» هذا الصمت الذي يعتبر أحد أهم سمات الشخصية المقهورة الغارقة في السلبية، تلك الشخصية المتماهية مع القاهر، وبالتالي يصبح صمت المقهور ما هو إلا نتيجة طبيعية للظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يعيشها هذا المقهور مع قاهر مستفيد من قهره. 
درس «فريري» الفلسفة والقانون وعمل محاميا وسط مجموعة من الفقراء بشمال شرق البرازيل، وهناك اهتم بمحو أميتهم، ولكن الطرق التقليدية التي كانت تستخدم في التعليم لم تكن ترضيه، فقال عن هذا النظام التعليمي: «نظام يُكرس لخدمة ثقافة الصمت». ومن هُنا بنى «فريري» فلسفته في التعليم مؤكدا على ضرورة وعي المتعلم بكل ما يدور حوله ليتمكن من الثورة على مظاهر القهر المتنوعة. 
تعتبر هذه هي المنطلقات الفكرية التي بنى عليها أوجست بوال منهجة؛ أي أن هذه هي المنطلقات الفكرية التي حددت الإطار العام لمسرح «بوال» الذي نشأ وليدا للصدفة. 


مينا ناصف