«الجلاد».. سطوة الجلاد وأزمة الوريث

«الجلاد».. سطوة الجلاد وأزمة الوريث

العدد 868 صدر بتاريخ 15أبريل2024

يناقش الكاتب المسرحي العراقي أحمد الماجد في مسرحية «الجلاد» قضية أزلية متجددة يعاني منها الإنسان منذ فجر التاريخ؛ قابيل وهابيل، الجلاد والضحية، الظلم والقهر الإنساني وميراث كل منهما في غياب العدالة، وريث الجلاد ووريث الضحية، المأزق الإنساني الذي ترتب على وجود جلاد يقمع ضحاياه ويتركهم يعانون من ارتباكاتهم النفسية. لا يتطرق الماجد لقضية الجلاد بشكل مباشر بقدر ما يسلط الضوء على ميراث الورطة الإنسانية التي خلَّفها وكان لها أثرٌ بالغٌ على خلفاء الضحايا. تفجَّرت، بموت الجلاد، مأساة ابنه الذي يواجه بمفرده خلفاء الضحايا إذ جاءوا للانتقام منه بوصفه وريثه الوحيد، يتعاظم الغضب لديهم فيحاصرونه في منزله بينما هو قابع يعاني من سجن بلا قضبان ولكنه يحتمي بنافذة تُلقى من خلالها الأحجار واللعنات عليه، سعيًا للانتقام من الجلاد في شخص ابنه وزوجه تصبح هدفًا للانتقام بالتبعية، وبرغم أنها تعاني مثله من السجن إلا أنها تتشفى منه وتعلن عن غضبها الموقوت، تعيد سجل حياتهما معًا إذ حان وقت الحساب. يحمِّل الماجد مسرحيته بدلالات ورموز متعددة وصولا لشكل درامي ذي صبغة حداثية برغم ارتدائها ثوبا أرسطيا. 
تجسد ديودراما «الجلاد» شخصيتان؛ ابن الجلاد وزوجة الابن، يعانيان من الماضي الأسود الذي يلقي بظلاله عليهما وتأثيراته عليهما بشكل بالغ، والحاضر بسطوته يحاول الأخذ بالثأر منه مدفوعًا برواسب لا يمحوها الزمن بسهولة، عنفوان الماضي وجلاده حاضران بقوة وهوان الحاضر وغضبه. الجلاد الحاضر الغائب الذي ما يزال يسيطر على الشخصيتين ويوجههما كلٌ حسب ظروفه النفسية، ابن الجلاد الذي يحاول تبرير أفعال أبيه من ناحية والتنصل منها من ناحية أخرى، يسيطر التناقض على شخصيته التي حدث فيها تحولٌ كبير؛ ذلك الذي يهابه الجميع وتُلبى طلباته دون أن يطلبها كما تبدو أزمته النفسية التي يحاول الخروج منها في منزله المحاصر بالغاضبين مما جعله يتردد في اتخاذ قرار بالخروج للمواجهة أو الانتظار ليلقى حتفه، بينما تبدو زوجة الابن أكثر ثباتًا برغم أن فرصتها للانفجار قد حانت والخروج من بوتقة الجلاد بشكل نهائي.
يستهل الماجد الديودراما بنشوء الحدث المسرحي من خلال مشهد المناجاة الذي تؤديه شخصية ابن الجلاد، يأتي في شكل تساؤلات وجودية حول الموت الذي غيَّب الجلاد في الوقت الذي كان يحتاج إليه بشدة، يدرك أن بوفاته سوف تُطوى مرحلة مهمة في حياته ويتملكه رعب حقيقي من أولئك الذين ينتظرون أن ينتقموا منه بجريرة أبيه. يحاول ابن الجلاد استعادة بأس أبيه لحمايته من الرعاع الذين يتربصون به بشكل افتراضي عوضًا عن واقع كان ينتظر تحقيقه، فلا يزال الجلاد متربعًا على عرش القسوة في ذهن ابنه، يناشده بأن يعود لكي تتزن كفة الميزان التي مالت برحيله ينفث بتهويمات ربما تتحول إلى حقيقة تدحض فرضية حلم قاس، لكنه سرعان ما يعود للمنطق ويستعيد مرارة الأزمة الآنية ويعترف أنه يعيش حينئذ على آثار قسوته وطغيانه، ولو تناولنا تعريف القسوة من وجهة نظر ارتو لوجدنا أنها سلوك إرادي غير مبرر من شخص بيدة سلطة أو نفوذ ما بسبب معاناة متوقعة لضحية أو ضحايا لا يستحقون ذلك، وأنها تتماس مع موضوع المسرحية بشكل مباشر.
يهدف مسرح القسوة  Theater of crueltyإلى تقديم العنف على المسرح من أجل استنبات العاطفة والتأثر لدى المتلقي بغية تبني وجهة نظر أو المقارنة. يرغب الماجد بمسرحيته “الجلاد” في إلقاء الضوء على فكرة القمع والاستبداد بشكل عام وما يترتب عليهما من آثارٍ بالغة على الآخرين في عدم وجود المتسبب الحقيقي في القمع، بوفاته، للتأثير في متلقٍ يقارن ويتبنى وجهة نظره، كما يهدف إلى تقديم مسرح حقيقي كما نادى به ارتو. لكننا نستطيع أن نجزم أن أرتو لم يكن يقصد إثارة النزعات باستخدامه لكلمة قسوة، بل أن دعوته كانت تعتمد على كل ما هو قاس في الحياة التي تمور بصنوف العذاب وأقسى طبقات الألم التي تربك وتصيب روح ووجدان المتلقي، إنه مسرح لا توجد به معاني الرحمة. أصبحت القسوة في “الجلاد” حقيقة لا يمكن الاستغناء عنها، فهي ليست شيئَا تجريديًا أو منظومة أو درامية ولكنها قوة تملأ قلوب الضعفاء والمقهورين بالرهبة والرعب سواء المنتظرين في الخارج انتظارًا للانتقام أو الزوجة التي تواجه، مع ابن الجلاد، مصيرًا مجهولًا ربما يضع الحدث المسرحي له نهاية معينة. إنها تعبير عن ذلك الأنا الجريح والممزق الذي يجدف في اتجاه مضاد لا يجني سوى المزيد من الويلات.  
تبدأ ديودراما “الجلاد” بأزمة ابن الجلاد الذي وجد نفسه في موقع المُدافع عن نفسه يحاول اتقاء هجومًا متوقعًا من المتربصين به خارج منزله منذ شهور، يقذفونه بالطوب والحجارة ويصبون جام غضبهم، يحاولون اقتحام المنزل قسرًا انتقامًا منه لأنه الوجه الآخر للجلاد أو كونه الجلاد المحتمل، وجد نفسه في أزمة حقيقية يعاني بسببها فتتعاظم اضطراباته النفسية وتزيد ارتباكاته ومعاناته مع واقع أليم يواجهه بمفرده، بينما جلست زوجته وهي ممسكة قطعة قماش تفتقها كدلالة على القلق الداخلي أو الرغبة في الهروب من السجن المنزلي، تنظر إليه نظرات ممزوجة بالشفقة واللامبالاة والسخرية والتشّفي، تدرك ورطته وتعيها تماما لكنها في نفس الوقت لا يمكن أن تمد له يد العون كونها أحد ضحايا الجلاد بشكل غير مباشر، وجد ابن الجلاد محاصرًا من الخارج والداخل في وقت واحد. حينما أدرك أن الخطر يربض بالخارج حاول التنصل من آثام أبيه وجرائمه وصولًا إلى منطق مناسب لإبراء نفسه من المذابح التي قام بها الجلاد، كما يبحث عن الطمأنينة في ماضي كان الجلاد في أوج سطوته، يستدعيها للشعور بالثبات ولو بشكل مؤقت، لكن زوجته تنبهه بأنه الوريث الوحيد لكل ما ارتكبه الجلاد، فعليه أن يؤدي الدين لأنه لا يموت.  
الزوجة: ما فعله بهم حيّ لا يموت.. نار غلّهم تستعر كل ما اتسعت المدة..لقد كان أبوك سفاك دماء.
 سخط الناس عليه وغضبهم دخل ضمن تركته التي ورثتها عنه.. وعلى قدر ما أعلم..أنك وريثه الوحيد. يا (ساخرة) ابن الجلاد.
يفكك الماجد ماضي الشخصيتين ويعيد بناءه من أجل بناء الحدث المسرحي القائم على الإيهام الأرسطي من خلال حوار ابن الجلاد مع زوجته حول الجلاد ودوره في المجتمع الذي يؤكد بأنه يؤدي عمله مثل بقية الموظفين، لكن زوجته تفند كل مبررات زوجها لنفي مسألة طغيان الجلاد وصولا إلى مفر مناسب للخروج من العزلة المفروضة عليهما. تفجر الزوجة مفاجأة أخرى إذ أن الزوجين سيواجهان مصيرًا مجهولًا مع جنين في رحمها سيرث الهّم والمعاناة وسيكون منبوذًا من الجميع، بينما يتمنى ابن الجلاد لو أنه جاء أيام السلطة والهيبة فتبدو النزعة السلطوية في كلامه وفي إيحاءاته من خلال السوط الذي كان يستخدمه الجلاد وسوف يؤول إليه بالميراث، فما يزال الجلاد حيًا في حديثه ورغباته واستدعاءه لماضيه.      
الزوجة: لقد كان يفعل ما يريده هو لا ما تريده العدالة. باسم القانون رمّل نصف نساء المدينة، ويتم النصف           الثاني. 
ينمو الحدث المسرحي إذ يبدو ابن الجلاد في حالة من التناقض والارتباك النفسي فهو يبدي مخاوفه من الآخرين فترتفع لديه درجات الضعف والهوان وفي نفس الوقت يتمنى أن يصبح جلادا كي لا يبقى في تلك الحالة ويكرر على مسامع زوجته صورة الجلاد ووقعها على الآخرين كمحاولة أخيرة للثبات وردع نوازع زوجته بوصفها أحد المحتجين أو الذين طالهم ظلم الجلاد، وتتجلى حينئذ صورته لدى الآخرين أيام سطوة أبيه وكيف كان الجميع يتوددون له ويطلبون رضاءه، تتضخم ذاته كاعتراف ضمني بأنه متورط مع أبيه في جرائمه ضد المواطنين بتنعمه في السلطة وتؤكد زوجته تلك الفكرة وتناقشها معه لإثبات ميراث الغضب الذي يتجلى له الآن.     
ابن الجلاد: ابن الجلاد الذي كنتم ترتعبون ما إن يذكر اسمه في أي مكان حتى ولو تحت الأرض.. تتراجف   أبدانكم لو طاف بكم أحد حراسه.
الزوجة: وها أنا ذا الليلة اتطهر من ذنبي.
يستعيد ابن الجلاد وزوجته الصدفة التي تقابلا فيها حينما سرق اللصوص أمتعتها فظهر حينئذ بوصفه المنقذ وشغفت به متحدية أهلها كما يستعيدان يوم الزفاف في مشهد تعبيري تكتمل به رؤية أرتو حول مسرح القسوة بوصفه نموذج مسرح علاجي بالسحر ينبثق من الحركة والتعرية العنيفة للصراعات المتأصلة في اللاوعي الإنساني الجمعي، فمنذ تلك الليلة عرفت الزوجة أنها سقطت في لجة الهم والقلق برغم نقاء سريرتها إذ قاطعها أهلها وسجن أبوه الجلاد عمها، ومن ثم أعلنت الزوجة التطهر وفق رؤية أرتو عن طريق العصف بحواسها أو التطهير النفسي عن طريق البوح بمكنون صدرها والاعتراف بإثمها. يتصاعد الحدث المسرحي فيصل إلى الذروة حينما تصر الزوجة على الضغط على ذنبه بوصفه ابن الجلاد فيحتد بينهما الجدال حتى يصفعها فتسقط على الأرض، وحينما تعتدل تؤكد له بأن الجنين هو الذي وضعها في سجن أبدي لأن صفات الجبروت والطغيان سوف يرثها بالتبعية من أبيه ومن قبله جده الجلاد فتشرب العشب الذي يجهض الجنين فيصل الحدث المسرحي إلى الذروة إذ تبدو القسوة في أعلى تجلياتها وفي قمة ثورته محاولا أن يخرج ما احتسته لكي تتجشأه يخنقها فتفارق الحياة، حينئذ يناجي ابن الجلاد الجنين المجهض، إذ تمثل تلك المناجاة تطهيرًا كما كان يراها أرسطو.
ابن الجلاد: أنت مثلي، جلاد أم ضحية؟ من منا الجلاد ومن الضحية؟ قدري الذي ورثته عن أبي دون ذنب.
يبدأ ابن الجلاد في طرح التساؤلات حول ماهية الجلاد والضحية فيتأزم مع استمرار قذف الحجارة على نافذته فيخرج سوط الجلاد ويدور حول نفسه في مشهد تعبيري يضرب به في كل اتجاه حتى يلتف حول رقبته وجسده، يتوقف قذف الحجارة والطرق على الباب ويدخل ضوء النهار كاستعارة درامية تضفى على النهاية المفتوحة رمزًا ودلالة ليطرح السؤال نفسه هل مات ابن الجلاد أم تطهر تمامًا من إثمه وإثم أبيه؟ أم أُصيب بالجنون؟ فيأتي دور المتلقي ليجيب على السؤال حسب رؤيته واستيعابه فيضع نهاية المسرحية بنفسه.   
إن غياب عنصر الزمن في مسرحية “الجلاد” يؤكد على تاريخية الفكرة وديمومتها طالما أن هناك حاكمًا ومحكومًا فسوف يوجد جلاد وضحية، تتشكل حسب كل عصر، وسوف يعاني الوارثون حتمًا سواء كانوا من نسل الجلاد أو من نسل الضحية؛ وهو ما عالجه الماجد في الديودراما. تتميز المسرحية بحبكة قوية، إذ نجد أن الشخصيتين تتحركان وفق حدث محكم يتطور وينمو ويصل إلى الذروة استخدم فيه الماجد لغة ثرية ورصينة تزيد الحبكة خصوبة، بينما جاء البناء الدرامي للمسرحية متسقًا مع موضوعها المتناغم مع الطرح السياسي، كما أنه جاء متوافقًا مع الشكل أو القالب الدرامي الذي اختاره وهو الأرسطي الإيهامي الذي يعول عليه كشف حالة اللاوعي لدى الشخصيتين.
تعتبر ديودراما “الجلاد” من المسرحيات التي تحرك العقل وتشعل أفكاره وتحرض على اتخاذ موقف ما من الحياة، كما تحث على ضرورة قراءة التاريخ وخصوصًا صفحات الاستبداد لنتعلم منها، تبحث المسرحية عن المثقف الواعي الذي يستوعب دروس الطغيان وتؤكد على ضرورة وعي المتلقي، وخصوصًا في المنعطفات السياسية التي يمر بها وطنه. استطاع الماجد تقديم رؤيته الإنسانية الجديدة التي تتناول مسألة الجلاد من زاوية خلفاء الجلاد والضحية معًا في قالب درامي تجسده شخصيتان متماسكتان في لغة مسرحية مكثفة الدلالة وحبكة متماسكة لتكون عملًا فارقًا في مشروع الماجد المسرحي.  


ترجمة عبد السلام إبراهيم