العدد 869 صدر بتاريخ 22أبريل2024
الإيقاع .. الإيقاع .. الإيقاع
أولاً ما الإيقاع؟
ببساطة يا عزيزي ومن دون الدخول في دهايز التعريفات التي قد تربكك. الإيقاع هو التوافق، هو الإنضباط. هو جوهر أي فن. بل هو جوهر الكون.
الإيقاع يا عزيزي هو العزف المتناغم بين عناصر أي عمل فني. وعكسه هو النشاز، هو الارتباك، هو الوقوع في هوة الرتابة أو الفوضى.
والانضباط لا يعني أبدا الميكانيكية، لا يعني تقسيم ( الجمل أو الألوان أو الحركات ) إلى مسافات متساوية ومتوازية. للأسف هذا ما يفهمه البعض . لذلك أصررت ألا أربكك بتعريفات قد تصل بك إلى هذا المفهوم. الإيقاع هو أن تكون ( كممثل ) نغمة ضمن لحن أكبر يشكله ممثلون أخرون وعناصر أخرى. الإيقاع يا عزيزي هو ( كل ) تصنعه جزئيات تتناغم فيما بينها، فإذا ما شتّ عنصر منها أوقع المنظومة كلها في خلل. ومن ثم فقدت ايقاعها. فقدان الإيقاع هو الخطوة الأولى للدخول في جحيم الملل. والملل نقيض الفن، أي فن.
إعلم يا صديقي أن هناك وهم منتشر عن (الإيقاع) يتمثل في القول: (هذا إيقاعه سريع، وذلك إيقاعه بطيء) مميزين ومستحسنين ذلك الذي نظن أنه سريع الإيقاع.
لا البطء ميزة ولا الإسراع ميزة. الميزة في الانضباط، في التوافق، في الانسجام.
إن إيقاعك (الذي تظن أنه سريع ومن ثم هو حسن) قد يفسد منظومة العمل بالكامل. وحينها ستُحمّل أنت الآخرين الذنب، ظناً منك أنهم كانوا أبطأ مما يجب. وهي واحدة من أسوأ أخطاء الممثل، أن يجر زميله (زملائه) إلى منطقة من الإحساس يظن أنها الأفضل والأنسب، فيضطر هذا الزميل مجاراته فإذا بهما وكأنهما في مباراة عنوانها (من منا الأسرع في النطق؟ من منا الأعلى صوتا ؟ من منا الأكثر... إلخ. فينهار العمل ككل وينفّض عنهما وعن العمل كله الجمهور.
وإذا كانت الموسيقى هي البيئة الأصل للإيقاع. فاعلم يا صديقي أن عليك أن تتعلم الموسيقى. تتعلمها لا لتكون موسيقيا محترفا (عازفا أو مؤلفا). بل تتعلم قواعدها وتستمع إليها ( بأنواعها المختلفة ) و تتعرف على تقنياتها، لتستوعب معنى الإيقاع، ولتكن عازفا ماهراً على آلتك الخاصة التي هي أنت ( جسداً وصوتاً ).
ممثل لا يفهم الموسيقى ولا يتذوقها ولا يستطيع تحليلها وفك شفراتها، هو ممثل ضعيف من أولئك الذين يظنون أن التمثيل هو أن يحفظ كلمات ويلقيها حين يطلبون منه ذلك.
لذلك يا صديقي لا يوجد معهد يعلم التمثيل على أصوله العلمية إلا وكانت مادة الموسيقى من مواده الأساسية. فالموسيقى يا عزيزي هي جوهر الفنون. وأنت كممثل جماع فنون.
عقبات أمام الممثل
اعلم يا عزيزي أن هناك بعض العقبات ستواجهك حين تتعرض لأداء شخصية ما. وأول خطوة لتجاوز هذه العقبات هي أن تعرفها ومن ثم تكون مستعداً لها.
وتعد العقبة التي أسميها ( المعرفة المسبقة ) هي العقبة الأهم التي لا ينتبه إليها كثير من الممثلين. ألا وهي أنك تعرف ما لا تعرفه الشخصية. وليتضح القصد تعالى نتخيل هذا المشهد. الشخصية تجلس في منزلها ( تقرأ أو تستمع للموسيقى أو.. أو .. ) تسمع جرس الباب، تقوم بهدوء لتفتح فتفاجىء أن من بالباب هو الابن الذي كان غائبا لسنوات. المفاجأة ستطلب منها رد فعل ما ( وفقا لطبيعة الشخصية وتاريخها و.. و.. ) لكننا سنتوقف هنا عند (المفاجأة) .. الشخصية فوجئت. لكنك كممثل تعرف مسبقا (باعتبارك قرأت العمل وتعرف تفاصيله ) أن الذي يدق الجرس هو الابن. هنا يا صديقي لب فن التمثيل. ولعلك تتذكر الأن أننا وصفناه بـ ( الكذب ) أنت هنا ستكذب وتدعي أنك لم تكن تعرف. وهنا تحديدا تكمن الصعوبة. (أنا أعرف، ومطلوب مني أن أبدو وكأنني لا أعرف).
خذ المثال الأخر. الشخصية تناقش شخصية أخرى، يحتد النقاش، الشخصية الأخرى ستتهور وتصفع الأولى على وجهها. رد فعل الشخصية التي فوجئت بالصفعة ربما يكون صفعة مقابلة، وربما يكون صمت مفعم بالأسى، وربما يكون بكاء على انهيار علاقة و.. و.. لكن سيبقى الأصعب هو كيف أبدو وكأنني لا أعرف أنني سأصفع ؟ رغم أنني أعرف أن ذلك سيحدث؟
تلك يا عزيزي هي أصعب العقبات في علاقتك بالشخصية ؟ أنك تعرف ما لا تعرفه هي. فكيف ستتجاهل ما تعرفه؟ ذلك ببساطة هو التمثيل، الذي هو كذب. وكلما كنت كذوباً كلما كنت صادقاً. هنا نعود إلى الـ(تدريبات) وإلى الـ(بروفات) المتعددة. أنت ستحاول وستحاول وستحاول حتى تنسى – أو للدقة – تتناسى أنك ستصفع، حتى يبدو وكأنك فوجئت.
والأن راجع الجملة السابقة وتأملها جيدا .. ( يبدو وكأنك .. ). هنا ربما ستفهم أكثر ما سبق وأن قلناه عن عدم وجود ما يدّعون أنه تقمص كامل. وهو في حقيقته ( إدعاء بعدم المعرفة ).
عقبتك تلك يا عزيزي لن تتجاوزها إلا بكثرة المحاولات. وبتدريب نفسك على تجاهل ما تعرفه. ولعلك فهمت الأن كيف ولماذا يخرج رد فعل أحدهم إما باهتاً ( أقل من الفعل ) وإما مبالغاً فيه ( أكبر مما يستحق) . هنا أيضا ستتذكر القاعدة الذهبية التي كررناها أنفاً، ألا وهي ( كل شيء بقدر ). ولن تصل إلى هذا الـقدر الملائم إلا بتكرار المحاولة، حتى يصيح فيك المخرج ( هو ذا ). فانتبه ولا تتعجل.
أما ثاني أهم عقبة يا عزيزي فيمكن تسميتها بـ ( حب الذي أكره ). ولتفهم المعنى دعنا نختار واحدة من أسوأ شخصيات الحياة مطالب أنت بأن تؤديها ( كما لو كنت أنت هي كما يقول فن التمثيل). أنت الأن مطالب بأداء شخصية ( متحرش، أو قاتل بالأجر، أو قواد أو .. أو .. ) كيف ستكون أنت هذه الشخصية التي تكرهها في الحياة. هناك خياران لا ثالث لهما. إما أن شعورك بكرهها سيطغى عليك فستأتي كلماتك وردود أفعالك مغلفة بهذا الكره، فتخرج منك وكأنك مجبر عليها، وحينها ستفشل في إقناع المتفرج بأنك تتلذذ بفعل تراه جميلاً أو من حقك. وإما أن تتفهم دوافع الشخصية وتبرر لها أفعالها. وتحاول أن تحبها أو على الأقل لا تكرهها.
إعلم يا عزيزي أن كره الشخصية هو المسمار الأول في نعش فشلك.
لكن كيف تحب شخصية كريهة، أو على الأقل تبرر لها ما تفعله؟ هنا سنعود حتما إلى أهمية علم النفس. فلن تبرر للشخصية أفعالها إلا إذا فهمت دوافعها، ولن تفهم دوافعها إلا إذا كنت دارساً لعلم النفس وبخاصة منهج التحليل النفسي. فإذا لم تكن قد فعلت ذلك فسارع بفعله. وتذكر أنك (تلعب ) شخصيات. فكيف ستلعب ما لا تفهمه.