العدد 774 صدر بتاريخ 27يونيو2022
قرأنا كثيراً عن المنافسة بين فرقتي نجيب الريحاني وعلي الكسار، وكيف أن كل فرقة كانت تريد أن تكون الأشهر وفي المقدمة! هذا الأمر كان واضحاً في العاصمة، وكانت المنافسة على أشدها، ولا نستطيع الجزم بمن هو الفائزة في هذه المنافسة الريحاني أم الكسار!! ولكن الأمر كان له وجه آخر في الأقاليم! ففي يوليو 1919 أعلنت جريدة الأهرام عن مجموعة مسرحيات سيقدمها نجيب الريحاني «كشكش بك» في تياترو المجلس البلدي بطنطا بناءً على طلب كثيرين من سكانها، مثل: مسرحية «ولو»، ومسرحية «1918 – 1920»، ومسرحية «إِش». كما خصص الريحاني حفلة خصوصية للحريم فقط، وكانت التذاكر تُباع من الخواجات فيكتور وفريد عصاعيصو!
وكنت أتوقع أن أجد مقالات تبين ردة فعل أهالي طنطا لمسرحيات الريحاني، لا سيما وأنها عروضه الأولى في طنطا! وللأسف لم أجد هذا في أيام التمثيل، ولكني وجدت بعد شهر من التمثيل كلمة عنوانها «التمثيل الهزلي: مقارنة بين مصر والأقاليم» نشرتها جريدة «مصر» في نهاية أغسطس أبانت عن السبب!! قالت فيها الجريدة: لدينا الآن رسائل شتى من كثير من كرام الكاتبين يعبرون فيها عن رأيهم في التمثيل الهزلي الشائن. إلا أن كثيراً منها لم يُصرح كاتبوها بأسمائهم، وهذا يضطرنا لعدم نشرها. فلو شاءوا فليوفونا بالأسماء حتى نتمكن من نشرها وحفظ أسمائهم. وقد جاء من حضرة محمد أمين حسونة بميت غمر أن جوق نجيب الريحاني نزل ضيفاً في بلدهم، وعند رفع الستارة وجد ثلاث فتيات (خليعات) لا غير! فاضطر لمبارحة تلك المدينة. وجاءنا من حضرة فوزي عبد الله بالزقازيق أن هذا الجوق لم يجد من الإقبال ما يحببه في الإقامة فرحل. وجاءنا من إسماعيل سلامة بطنطا أن تلاميذ المدارس هناك حينما علموا بمقدم هذا الجوق قابلوه على المحطة، وطلبوا منه عدم عرض رواياته فرحل. هذا شعور أهل الأقاليم نرويه لسكان العاصمة لينظروا كيف يُحارب التمثيل الشائن ممن يسمونهم الفلاحين!
وهذه الحادثة ربما تحمل بعض المبالغة، إلا أنها متوقعة واحتمال حدوثها كبير جداً! ففي هذه الفترة – وتحديداً – فترة الحرب العالمية الأولى، كانت الهجمة شرسة ضد التمثيل الكوميدي بصفة عامة، وكانوا يصفونه بالتمثيل الشائن، مقارنة بينه وبين التمثيل الكلاسيكي المتبع قبل الحرب! وهذه الهجمة انتهت بانتهاء الحرب، وقبول الجماهير للتمثيل الكوميدي، لا سيما بعد اشتهار مسرحيات كشكش بك للريحاني، ومسرحيات بربري مصر الوحيد الخاصة بعلي الكسار. والدليل على ذلك إعلانات جريتي الأهرام والمقطم في عامي 1928 و1929 عن تمثيل الريحاني في طنطا لتمثيل مسرحية «ليالي الملاح».
وآخر خبر وجدنا للريحاني متعلقاً بمدينة طنطا، نشرته جريدة «سفينة الأخبار» في أبريل 1929، قالت فيه: «المهرجان العظيم على مسرح الباتيناج بطنطا يوم الاثنين 8 أبريل سنة 1929، حيث تمثل فرقة الأستاذ نجيب أفندي الريحاني والسيدة بديعة مصابني أعظم رواية جديدة ظهرت على المسرح المصري وهي «مصر في سنة 1929» استعداد مدهش، مناظر جديدة، رقص شرقي، تمثيل راق. ممثلين وممثلات أكفاء، فهملوا وشجعوا التمثيل الراقي.
علي الكسار
كان حظ علي الكسار في طنطا أفضل كثيراً من حظ الريحاني، ولعل هذا بسبب وجود أمين صدقي بوصفه شريكاً للكسار في إدارة الفرقة، بالإضافة إلى أنه مؤلف الفرقة الأهم في ذه الفترة. وأول عروض تمت لفرقة الكسار وأمين صدقي في طنطا كانت في شهر أغسطس 1920، كما أخبرتنا جريدة الأهرام دون ذكر لأسماء المسرحيات!!
أما أول مسرحية مذكور اسمها، كونها مُثلت في طنطا من قبل فرقة الكسار، فكانت مسرحية «شعر العسل» في أغسطس 1922 بتياترو البلدية. وفي أبريل 1923 نشرت الصحف إعلاناً بعنوان «الحفلة التمثيلية الكبرى بتياترو الباتيناج بطنطا»، جاء فيه: «مساء الاثنين 7 مايو القادم الساعة 9 ونصف مساء يمثل جوق أمين صدقي وعلى الكسار الرواية الوطنية الجديدة التي نالت أعظم استحسان وهي «البربري في الجيش»، باستعداد عظيم جداً 60 ممثل وممثلة، جوقة أوركسترا، جوقة راقصات، مطربو الماجستيك، الشيخ حامد مرسي».
أما جريدة «الكمال» فنشرت في أغسطس 1924 إعلاناً تحت عنوان «الليلة التمثيلية الكبرى»، جاء فيه: «على مسرح البلدية بطنطا في مساء الاثنين 11 أغسطس سنة 1924 الساعة 9 ونصف أفرنكي مساء يمثل جوق أمين أفندي صدق وعلي أفندي الكسار لأول مرة الرواية الوطنية الكبرى «إمبراطور زفتى» باستعداد كبير، منولوجات وطنية، ألحان وطقاطيق فنية، جوقة راقصات، ظهور بربري مصر الوحيد لأول مرة على المراسح بملابس الإمبراطورية ومن حوله جوقة الراقصات، 60 ممثل وممثلة، أوركسترا كامل. تباع التذاكر من الآن بمحل الخواجا رفول بيرس بشارع البورصة، وتوفيق أفندي فريد وكيل اللطائف المصورة بميدان الساعة، وعلى شباك التياترو ليلة التمثيل».
وفي العام التالي أعلنت جريدة الأهرام عن قدوم الكسار إلى طنطا، بإعلان عنوانه «قوة الجاذبية الضاحكة شيخ المضحكين يتبارى»، قالت فيه: «لو ذهبت إلى مسرح تياترو البلدية بمدينة طنطا يوم الأربعاء 16 سبتمبر الساعة 9 ونصف مساء لأدهشك جداً ما تشاهده هناك من عجائب المضحكات وغرائب الطرب والرقص والموسيقى والألحان والغناء في حفلة شرقية يحييها لأول وآخر مرة على هذا المسرح أول نابغة في فن الكوميدي المضحك الشرقي العظيم والفنان المصري المدهش علي أفندي الكسار في رواية «عثمان حايخش دنيا»، يمثلها باستعداد مدهش ويتبارى فيها بين أفراد فرقته فيضحك الثكلى بجاذبيته المضحكة. لا تنسوا يوم الأربعاء 16 سبتمبر فهو يوم المباراة والتمثيل. تطلب التذاكر من شباك تياترو البلدية».
وفي سبتمبر عام 1928 عرضت فرقة الكسار مسرحية «بدر البدور» في طنطا كما أخبرتنا جريدة البلاغ، وبعد شهر واحد وجدنا فرقة أمين صدقي تعرض في طنطا!! وهذا يعني أن الشريكين – صدقي والكسار – انفصلا!! ووجدنا مقالة طويلة منشورة في مجلة «مصباح النيل» بتاريخ أكتوبر 1928، كتبها «علواني بكتوت» عن أول عرض مثبته الفرقة في كازينو العائلات بطنطا، مع مقدمة مدح لأمين صدقي وفرقته، كونها جاءت بعد ذهاب فرق كوميدية جوّالة – سنتحدث عنها كثيراً فيما بعد – أمثال: فرقة أحمد المسيري، وفرقة الجزايرلي. يقول الكاتب في مقالته تحت عنوان «التمثيل في طنطا .. روايات الأستاذ أمين صدقي»:
وشاء ربك ألا تُحرم مدينة طنطا من التمثيل الراقي بعدما ملّت تهريجات أدعياء التمثيل من أضراب: محمد يوسف، والمسيري والجزايرلي، بعدما أوشك فصل الصيف أن يدير لنا ظهره. فقد تعاقد أصحاب «كازينو العائلات» مع الأستاذ النابغة أمين أفندي صدقي المُمثل والمؤلف المعروف على أن يمثل جملة روايات على مسرح الكازينو. ولسنا ندري بالضبط مقدار المدة التي يستغرقها تمثيل فرقة صدقي في هذه المدينة؟ ولعلها تكون مدة طويلة، فليس من شك في أن الجمهور الطنطاوي يود من صميم فؤاده أن يطول عهد تمثيل هذه الفرقة، لأنه جمهور راق يميل ميلاً شديداً إلى أن تقيم فرقة كفرقة الأستاذ أمين في مدينته لتوالي تمثيلها الراقي. فقد أصبح التمثيل ضرورة من الضروريات لا سلوة يتسلى بها الناس. كنا قبل أن تحل هذه الفرقة بالمدينة تشاهد تهريج أدعياء التمثيل، مرغمين قصد قضاء الوقت. وبرغم تدفق الناس على مشاهدتهم مرغمين أيضاً كنا نسمع السخط من النظارة على التهريج، ليس إجمالاً ولكن عن كل موقف من المواقف. ولا نحب أن نشرح ما كان يأتيه هؤلاء الأدعياء من المواقف المخجلة، والألفاظ الخارجة عن حدود الأدب. فليس هنا مقامه، ولا نحب أن نشغل فراغاً في نقده. فقد حكم جمهورنا الراقي بنفسه عليهم حكمه القاسي، فذاقوا من مرارة هذا الحكم الفاقة والاحتقار فولوا مدبرين. وممثل كصدقي النابغة جدير بأن يشغل تمثيله الفني أقلامنا تلك، التي كنا نضن بها، تجرى على صفحات القرطاس ناقدة التهريجات السابقة، مع اعتقادنا بمقدرة الأستاذ وكفاءته. لا يمكننا أن نحرق بخور الثناء على كل مواقف الرواية، فليس من شك في أن كل رواية مهما كانت متقنة الأدوار محبوكة الأطراف مخرجة إخراجاً فنياً لا تخلو من هذات يرتكبها المؤلف، أو المدير الفني، أو يسببها ضعف الممثل أو الممثلة. هذه قواعد مسلم بها من الجميع. وها نحن نبدأ بنقد أولى الروايات التي شاهدناها على مسرح كازينو العائلات تلك الرواية «إيدك على جيبك». لا نقول شيئا عن المسرح وعدم لياقته بفرقة كفرقة الأستاذ أمين صدقي! فالذي يغلب على ظننا أن الفرقة عندما تنتهي مدة التعاقد التي بينها وبين أصحاب «كازينو العائلات»، ستسارع حتماً إلى اختيار مكان ملائم لمقام الفرقة في عالم التمثيل هذا، إذا كان في نيّة مديرها الإقامة أكثر من المدة التي تعاقد عليها مع أصحاب الكازينو!! رُفعت الستارة عن منضدة حولها بضعة مقاعد وحاجب ينتظر حضور قاضي المحكمة برهة، لا تعدو أن تكون دقيقة، حتى دخلت سيدة غرفة المحكمة، وألقت سؤالاً على الحاجب بخصوص ميعاد حضور القاضي، وعن اسمه، وهل هو يتأثر بجاذبية الجمال أم لا، ولست أدرى كيف يفوت على أستاذنا المؤلف صدقي، أن المحكمة لا بد لها من كاتب يقوم بتدوين المناقشات، التي تدور بين القاضي والخصوم وغيرهم. ولا بد أن يكون هناك محامون، وإذا كان ثمة سؤال من السيدة للحاجب عن مدى تأثير الجمال في نفوس القضاة، فليس يكون في غرفة القاضي، تلك التي يكون فيها كثير من المتقاضين! وسؤال كهذا لا يمكن أن يجيب عليه حاجب بمثل ما أجاب هذا الحاجب، على مرأى ومسمع منهم! وغير هذا نلاحظ أن القاضي عوضين بك، لم يجلس للفصل في قضايا الجمهور، بل شاء المؤلف أن يترك وقتاً واسعاً للبربرى السباك ليقوم بدور القاضي ذلك الذي قضى عليه موقفه الصعب أن يكون قاضيا للجلسات على طول الخط. وفي الحقيقة قام البربري بدوره خير قيام وساعدته الظروف على أن يكون بطلاً كبيراً في الرواية. أما الأم عقيلة القاضي فليس هناك غبار على دورها. فقد مثلته بإتقان إلا أننا نلاحظ عليها عدم تمكنها من اللغة العربية، فقد كان كل كلامها باللغة العامة، وزوجة القاضي لا بد أن تكون متعلمة! أما الابنة فقد أجادت في تمثيل دورها إجادة تامة إلا أننا نأخذ عليها عدم اندهاشها لما اكتشفت أن البربري السباك قام بدور والدها في إعطاء خطيبها الوعد بالزواج! فقد كان من الواجب وهي ابنة قاض، أن تغضب لكرامة والدها ومظهره كمظهر البربري يؤلم نفسها طبعاً أن حكمت الظروف أن تنسب لأب بربري. أما خطيبها فقد كان يغلب عليه العبط في كل حركاته. وهذه الصفة لا تليق بقدر وكيل (فابريقة) وخطيب ابنه قاض أصاب من التعليم قسطاً وافراً. أضف على ذلك العمدة الفلاح، فقد كان مظهره لا يلائم حالته الجديدة التي نشأت عن اقترانه بالمرأة الأفرنكية! فمهما كانت طبيعته لا يمكن أن يظل على حالته الأولى، بل الواجب أن يجاري زوجته، ولو قليلاً في تجميل هندامه وترقية لهجته. بقي دور حضرة القاضي ويغلب على ظننا أن الذي قام به هو الأستاذ أمين صدقي، وهو دور مُثّل بمتانة ودقة متناهية تشهدان بمقدرة الأستاذ. أما دور العاشقة ذات الوجهين «أُولجا» و«عزيزة هانم ليمتد» فقد كان غير متين حقاً، إذ إنه كان من الواجب عليها أن تتكلم لغة أجنبية وهي في دور «أولجا» خصوصاً مع قاض كعوضين بك. وكان من الواجب عليها أيضاً أن تتبين حقيقة الأمير الطرابلسي بسرعة. فقد كان مظهره غير جدير بأمير مهما كان من أمراء مجاهل أفريقيا، وقد كان أيضاً عندها ألف دليل ودليل على أنه ليس أميراً من هذيانه الذي لا يصدر إلا عن السوقة والذين في طبقة العامة. هذه بعض هنات لا يمكن أن تذهب بجودة الرواية، وحسن سبكها. والواقع أن كبار الممثلين يرتكبون مثلها ولا تخلو رواية منها كما ذكرنا آنفاً. إنما أردنا نقدها ليتسنى لمدير الفرقة أن يطلع عليها، فيأخذ حذره من الوقوع في أمثالها، ولا شك عندنا في أن صدر الأستاذ أرحب يتسع للنقد ولا يتحرج. فهو مؤلف قبل أن يكون ممثلاً، ولعل الظروف تمكننا من حضور رواياته المقبلة حتى نستطيع توفيتها حقها من التقريظ والنقد.
والحق يُقال: رغم نجاح فرقة أمين صدقي المؤقت في طنطا، إلا أن فرقة أمين صدقي كان عمرها قصيراً طوال تاريخ المسرح، لأن أمين صدقي مترجم ومعرب ومقتبس أكثر من كونه ممثلاً أو إدارياً! لذلك كانت فرقة الكسار هي الأهم أثراً في طنطا، فقد مثلت فيها مسرحية «ابن الأمباشي» على مسرح البلدية بطنطا بطولة علية فوزي وحامد مرسي في سبتمبر 1929. كما مثلت الفرقة مسرحية «بوابة جحا» على تياترو بلدية طنطا بطولة عقيلة راتب في أبريل 1930 كما قالت جريدة «سفينة الأخبار».