تقرير زكي طليمات عام 1931 الجزء الأول

تقرير زكي طليمات عام 1931 الجزء الأول

العدد 524 صدر بتاريخ 11سبتمبر2017

يُعدّ تقرير زكي طليمات عن فن التمثيل وخطة إصلاحه - الذي قدمه إلى لجنة سياسة التعليم العام بوزارة المعارف في الرابع من مارس 1931 – من أشهر التقارير المسرحية، في تاريخ المسرح المصري والعربي. فهذا التقرير نسمع عنه، ونقرأ عن وجوده وحقيقة صدوره تاريخيًا! وإذا حاول أحدنا قراءته أو الكتابة عنه سيفشل فشلاً ذريعًا؛ لأن هذا التقرير – حتى هذه اللحظة – لم يُنشر في أي كتاب أو صحيفة، منذ أن تقدم به طليمات منذ خمسة وثمانين عامًا. وهذا التقرير، قدمه طليمات إلى الوزارة بعد عودته من بعثته في فرنسا بأكثر من عامين، مستغلاً وجود وزارة الوفد، التي ساندته بسبب وقوف زوجته الصحفية روز اليوسف ومجلتها المسماة باسمها مع حزب الوفد - وكانت في الوقت نفسه ضد حزب الأحرار الدستوريين الذي تعمد تجاهل طليمات ومشاريعه ومكانته ومؤهله بعد عودته من باريس - ولأهمية هذا التقرير العلمية والتاريخية سأنشره كاملاً في عدة مقالات بجريدة (مسرحنا)؛ بوصفها الدورية المتخصصة المسرحية الوحيدة الباقية على قيد الحياة في مصر، بعد إيقاف مجلة (المسرح)!
التقرير يقع في عشرين صفحة – عدا صفحات العناوين الخارجية والداخلية - مكتوب على الآلة الكاتبة، ومؤرخ في الرابع من مارس 1931، ورفعه زكي طليمات؛ بوصفه السكرتير الفني لمعهد فن التمثيل إلى سياسة التعليم العام بوزارة المعارف العمومية. والتقرير به عناوين لموضوعات كثيرة، وضعها طليمات في فهرس التقرير، وهي: موجز في تاريخ فن التمثيل في مصر وبيان المجهودات التي بذلت في سبيل نشره. والأسباب التي جعلت هذه المجهودات لا تعطي النتيجة المرغوبة. ونصيب فن التمثيل من رعاية الحكومة واهتمامها به حتى اليوم وما يحسن اتباعه لاستحداث المسرح القومي. وهذا العنوان ينقسم إلى أربعة عناوين، هي: ما قامت به وزارة المعارف نحو المسرح المصري. وما يجمل أن تكون عليه خطة الإصلاح المقبلة. ومذكرة خاصة بفرقة التمثيل الحكومية. ومذكرة خاصة بتنظيم رياضة التمثيل بالمدارس للمساعدة على إيجاد جمهور فني. وكما قلت سأنشر التقرير كاملاً وفقًا لترتيب عناوينه، مع التعليق على بعض النقاط المهمة، التي تحتاج إلى تعليق.
قال زكي طليمات، تحت عنوان (موجز في تاريخ فن التمثيل في مصر مع بيان المجهودات التي بذلت في سبيل نشره): «كان أمرا محتما بعد أن غمرتنا موجة الثقافة الغربية في أواسط القرن الماضي أن يحسن المصريون التعرف إلى فن جديد هو فن التمثيل وإلى ملهى جديد هو المسرح. وإذا نعتنا هذا الفن بالجدة فذلك لأن فنوننا خلو منه فالأدب العربي لم يحفظ لنا ضمن مخلفاته الزاخرة قطعة تمثيلية واحدة وما برحت الشكوك تحوم حول احتمال نضوج هذا الفن ضمن الفنون المصرية القديمة بحال خلف على أثره تحفًا فنية كمخلفات (سوفوكل) و(أشيل) و(أرستوفان) في الأدب الإغريقي القديم. غير أن هذا لا ينفي أننا تعرفنا إلى مظاهره الأولى واستشعرنا ماهيته بحكم السليقة البشرية العامة التي أوجدت من سائر الفنون دنيا أخرى دنيا معنوية نتلمس في رياضها ونشواتها عزاء مما ينالها في دنيانا المادية وتسمع في أجوافها صدى نزعاتنا وخلجات قلوبنا. فالإنسان الأول قد رسم ونحت الصخر ورقص وغنى وقلد أصوات الطير والحيوان قبل أن يفكر في ماهية الفن وقواعده وقوانينه. كذلك لا بد أن تكون مصر قد تعرفت إلى هذا الفن في الأزمان الغابرة ولكن في غير لغتها الأصلية فقد غزاها الإغريق وأقاموا بها حقبة طويلة من الزمن والإغريق هم مؤسسو الدرامة وواضعوا قواعد التمثيل. ثم جاء الرومان إلى مصر وهم تلامذة الإغريق وخلفاؤهم في فنونهم وآدابهم ولكننا على كل حال لا نستطيع أن نحدد ما عسى أن يكون قد خلفه هذا التعارف لافتقارنا إلى المخلفات الأثرية. فحريق مكتبة الإسكندرية قد قطع بيننا وبين الكثير من آداب الماضي وفنونه الصغيرة. وإذا فرضنا جدلاً أنه قد تأصلت أرومة لهذا الفن في مصر أثناء إقامة اليونان والرومان فإن الروح الجديدة التي جاء بها الغزاة الفاتحون من العرب لم تكن لتغذي هذا الفن الدخيل الذي خلفته الثقافة الإغريقية. فإن العربية في حماستها الأولى وانصرافها إلى صيانة فكرة الألوهية السامية قد مالت إلى تحطيم الأصنام وإخفاء معالم كل جماد يعبر عن المشاعر الإنسانية من زخرف وتصوير. وقد هزت الفنون المصرية على أثر ذلك هزة عنيفة. ولا يغرب عن ذهننا أن الفن العربي في دوره الأول بل وفي إبان مجده مبعثه الذهن لا الحاسة فإن الفنان العربي حينما استشعر أن بعض مناسك الدين تستنكر عليه أن ينسخ عن الطبيعة عمد إلى الخطوط والأشكال الهندسية – وهي وحي الذهن واستنباطه – فجعلها أساسًا لفنونه الزخرفية. ولا شك في أن هذه روح لا تساعد على إنعاش فن التمثيل وهو الفن السافر الذي أساسه العاطفة وعماده الاستيحاء من الطبيعة. ولم يكن المغول من أتراك وتتار – وهم من حكموا مصر بعد أمراء العرب على ثقافة ينبعث معها تراثنا من الثقافة الإغريقية بل أنهم أفسدوا علينا هذا التراث المجيد بعد أن حكموا البلاد عشرة قرون متوالية. وعليه لم يكن غريبًا بعد ذلك أن لا يكون لهذا الفن عندنا كيان أو أثر أثناء هذه الأجيال التي مرت علينا منذ الفتح العربي. وكل ما يمكن أن نشير إليه كظاهرة أولية لهذا الفن هو مهرجان العجم في عيد الحسين بن علي كذلك يذكرنا الشاعر القصاص وعازف الرباب بفن الجوالة من الشعراء الغنائيين بأوروبا أثناء القرون الوسطى. ثم كان مقدم (بونابرت) إلى مصر وكانت بوادر الثقافة اللاتينية – وهي ثقافة ترتكز على الكثير من ثقافة الإغريق والرومان معًا – ويحفظ تاريخ الحملة الفرنسية إلى مصر خبر تأسيس أول مسرح في هذه البلاد فقد أنشأ (بونابرت) دارًا للتمثيل في القاهرة وأسماه (مسرح الجمهورية والفنون) وكانت تلعب فيه الجوقات الفرنسية وكان ملهى الخاصة من الفرنسيين والأجانب. وكان القرن التاسع عشر عصر البخار والقاطرة التي طوت المسافات بين البلاد وكانت روحه الثائرة ونزعته إلى الحرية الواسعة ثم كانت أخيرًا نهضة مصر تحت لواء المصلح محمد علي باشا مقرونة بتلك الحوادث الجسام التي جعلت عزلة مصر عن أوروبا أمرًا مستحيلاً. وعادت البعثات العلمية التي أوفدها مؤسس البيت العلوي الكريم إلى أوروبا تحمل قبسًا من حرية تلك البلاد في تفكيرها وآدابها فوق ما تحمل من علومها وفنونها فامتدت أواصر القربى بين وادي النيل والشاطئ الآخر من البحر الأبيض المتوسط وتزعزع ركن الثقافة الشرقية أمام غزوات الثقافة اللاتينية التي لم تقو قرون المغول والتتار على محو جميع آثارها والتي تمتاز بما تبعثه في النفس من حرية البحث والنقد في العلم والدين وبما ترمي إليه من إيجاد باعث الجمال. وما جاء عهد إسماعيل الكبير إلا وكانت البلاد مهيأة لتطورات اجتماعية غربية النزعة شملت الكثير من مرافق حياتها واعتنقت معها قسطًا وافرًا من الحرية وفتح الباب على مصراعيه لكل ما تبعث به أوروبا إلينا. وكان تشييد (دار الأوبرا الملكية) واستجلاب الأجواق الأجنبية للعمل فيها أكبر ظاهرة من نوعها لاهتمام الحكومة المصرية بتعريف المصريين إلى فن التمثيل وكان لهذه الظاهرة المباركة دويها في سائر بلاد الشرق العربي إذ سرعان ما نزح إلى مصر نفر من السوريين سبق لهم أن قاموا بنقل فن التمثيل إلى بلادهم باللسان العربي. أجل قد تعرفت سوريا إلى هذا الفن باللسان العربي قبل أن نتعرف نحن إليه ولكن يلوح لنا أن الحكم العثماني القديم في تلك البلاد وما يلحق به من مبادي عريقة في التحفظ والجمود لم يكن ليسهل على الممثلين مهمتهم رغم ما كانوا يحرقونه من بخور الزلفى والتمجيد لحكام البلاد بأناشيدهم الافتتاحية والختامية في حفلاتهم التمثيلية. هبط (مارون النقاش) [والأصح سليم النقاش] القاهرة رفقة نفر من أدباء قومه يحملون معهم بضعة روايات منقولة باللغة العربية عن روايات أفرنجية أنزلوا بها الكثير من التشويه والتحريف كما حشوها على غير قاعدة بالأناشيد والأغاني فشاهد الجمهور المصري لأول مرة روايات مسرحية تمثل باللغة العربية ومن ثم كان تعرفنا لفن التمثيل العربي. وظهرت إلى جانب اسم (النقاش) أسماء أخرى أهمها (أبو خليل القباني) – وقد نزح هو أيضا من سوريا إلى مصر – و(سليمان القرداحي) و(مراد رومانو) و(إسكندر فرح) وجلهم من أدباء السوريين. ثم جاء إلينا (سلامة حجازي) فكان أول ازدهار لهذا النوع من التمثيل الغنائي الناقص وظهر (جورج أبيض) و(عبد الرحمن رشدي المحامي) بعد أن قدم إسكندر فرح و(عزيز عيد) الكثير من الروايات الدرامية والكوميدية الخالية من الغناء فكان دور انتقال للرواية المصرية المؤلفة وللرواية المعربة ولصناعة الممثل ويسير على أثرهما اليوم (يوسف وهبي) هذا عدا أصحاب الفرق الرحالة في الأقاليم والمديريات. ويقوم إلى جانب هذا (المسرح الأدبي) – كما أسماه بعض الكتاب وذلك أتحفظه ولكتابة أغلب رواياته بالعربية الفصحى – مسرح هزلي وغنائي ذو صبغة محلية مقرونًا بأسماء (نجيب الريحاني) و(علي الكسار) و(أمين صدقي) له أكبر الأثر وأصدق الجهود في نشر هذا الفن بين الطبقات الصغيرة بل أرى أن قيام هذا المسرح حادث في تاريخ الفن ببلادنا لأنه اختط خطة جريئة بتعميم اللسان العامي في سائر رواياته وباقتصاره على إخراج الروايات المؤلفة والممصرة فوفق إلى إيجاد نماذج حية تلخص كل منها شخصية مصرية صادقة. وكما يبدو لنا فإن فن التمثيل العربي قد تقلب في أدوار مختلفة اقترنت بأسماء من ذكرت من أصحاب الأجواق مما جعل تاريخ هذا الفن في مصر هو تاريخ الأجواق التي قامت بنشره. ولبعض هذه الأدوار خصائصه من حيث نقل الرواية عن اللغات الأجنبية ومن حيث محاولة وضعها وتأليفها ثم من حيث فن الممثل والمخرج وما يحيط بهما من الصناعات والفنون المسرحية وإنني أتجاوز عن تناولها بالشرح لضيق المقام. ومما تقدم نرى أن فن التمثيل باللسان العربي فن جديد في مجتمعنا ليست لنا فيه تقاليد موروثة ولم يصبح بعد شعبة من الأدب العربي الحديث وإن عدت دوره اليوم ملهى أهليًا وكل ما بذل من مجهودات في سبيله إنما هي محاولات قام بها من ذكرت من الأسماء لنشره وتعريفه إلينا وما خلع كلمة (نهضة) لكل محاولة بذلت أو تبذل لهذا الغرض إلا ضرب من الإسراف في تعظيم شأن هذه المحاولات يخرج الكلمة عن معناها الحقيقي. التوقيع (زكي طليمات) 4/ 3/ 1931».
الملاحظة الأولى: ينكر زكي طليمات أي مظهر تمثيلي في تراثنا لفن المسرح، ويستثنى من ذلك ظاهرة مهرجان العجم في عيد الحسين بن علي، والمعروف بمسرح التعازي. والجدير ذكره إن هذا المهرجان لم يكن قاصرًا على العجم فقط، بل كان موجودًا في القاهرة عام 1886، ونشرت تفاصيله جريدة (الحقوق) تحت عنوان (الحسن والحسين)، قائلة: «اعتاد مسلمو الفرس في أكثر أماكن وجودهم إحياء الليالي العشر من أول محرم الحرام باجتماعات أخوية وتلاوة أخبار وخطب دينية تذكارًا لمقتل الإمام الحسين بن الإمام علي كرم الله وجه، وفيها يجددون النواح والتأسف على شهيد كربلاء ومن قتل معه من أخوته وأولاده وأحفاده إشارة إلى ما كان عندما أمر يزيد بن معاوية بأن يجهز كل من بقى من نسل الإمام علي من نساء وأطفال ويردوا إلى مكة. ولكي يجعلوا هذا الاحتفال تامًا يتبرع بعضهم لتشخيص القتلى فإن الإمام الحسين لم يمت إلا بعد ثلاثٍ وثلاثين طعنة رمح وسيف وهكذا من معه من ذوي القربى فيندفع بعضهم إلى عمل حلقات منها حاملة الخناجر يثخنون جباههم والدم يسيل على أجسامهم ومنها رافعات السلاسل الحديدية ونحوها يضربون بها أعضاءهم ومنها عاريات الأوساط العليا يقرعون صدورهم ونحو ذلك مما يذكّر الناظر أنهم يشهدون مشهد كربلاء. ففي هذا المحرم أخذ الإيرانيون بالاجتماع ليلة بعد ليلة في تكيتي الحمزاوي والجمالية يتبادلون عبارات الأسف والأسى على ما كان في تلك الأزمنة الغابرة ويتناوبون الدعوات وعمل المبرات ويتلو خطباؤهم المواعظ والتأبينات إلى أن كانت الليلة العاشرة وهي الليلة الكبرى فاجتمع أكثرهم في تكية الجمالية ومن هناك خرجت حلقاتهم يتبعها المولولون والمتفرجون فمروا بمقام سيدنا الحسين رضي الله عنه حيث أخذ الضجيج والعويل بارتفاع وأصحاب الحلقات بإتمام ما أخذوا على أنفسهم من العمل فاحتدم الخطب وانكمشت أنفس الناظرين من ذلك المنظر المحزن إلى أن وصلوا إلى تكية الحمزاوي ودخلوها مضرجين بالدماء مكبلين بالحديد والضربات منقطعي الأصوات من شدة الولاول زرق الصدور من كثرة القرع وبعد هنية انسحبت حلقة الدم وبعدها بقية الحلقات وانصرف الناس فوجًا بعد فوج».
الملاحظة الثانية: قول طليمات: «ويحفظ تاريخ الحملة الفرنسية إلى مصر خبر تأسيس أول مسرح في هذه البلاد فقد أنشأ (بونابرت) دارًا للتمثيل في القاهرة وأسماه (مسرح الجمهورية والفنون)». والجدير ذكره أن هذا المسرح أشار إليه الجبرتي في تاريخه الشهير المعروف بـ(عجائب الآثار في التراجم والأخبار)، وأرخ إشارته في يوم السبت الموافق 27/ 12/ 1800، وقال فيها: «وفيه كمل المكان الذي أنشأه بالأزبكية عند المكان المعروف بباب الهواء، وهو المسمى في لغتهم بالكوميدي. وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عشر ليال ليلة واحدة، يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلي والملاهي مقدار أربع ساعات من الليل، وذلك بلغتهم. ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة». وهذا المسرح تم هدمه في ثورة القاهرة، وبُني على أنقاضه المسرح القومي في العتبة الآن.
الملاحظة الثالثة: قول طليمات: «نزح إلى مصر نفر من السوريين سبق لهم أن قاموا بنقل فن التمثيل إلى بلادهم باللسان العربي. أجل قد تعرفت سوريا إلى هذا الفن باللسان العربي قبل أن نتعرف نحن إليه..... هبط النقاش القاهرة رفقة نفر من أدباء قومه يحملون معهم بضعة روايات منقولة باللغة العربية عن روايات أفرنجية أنزلوا بها الكثير من التشويه والتحريف كما حشوها على غير قاعدة بالأناشيد والأغاني فشاهد الجمهور المصري لأول مرة روايات مسرحية تمثل باللغة العربية ومن ثم كان تعرفنا لفن التمثيل العربي». وهذا القول – وبالأحرى الاعتراف الصريح – بعدم وجود رائد للمسرح العربي في مصر اسمه يعقوب صنوع، وهو أمر تحدثنا عنه من قبل في مقالة مستقلة بعنوان (متى سنعترف بأكذوبة ريادة يعقوب صنوع) في عدد مسرحنا رقم (459).


سيد علي إسماعيل