السيميولوجيا.. فن الحياة تجليات جديدة في المسرح المصري المعاصر

السيميولوجيا.. فن الحياة تجليات جديدة في المسرح المصري المعاصر

العدد 775 صدر بتاريخ 4يوليو2022

توجد العلامات حولنا، وتحيط بنا، فهي موجودة في كل مكان، نحسها وتحسنا ونتعايش معها يوميا، فهي –تكاد تكون في كل شيء- فرائحة الزهور علامة، وبرودة الجو علامة، وحرارة النار علامة، وإشارات المرور المنبثة في الشوارع علامة.
وهكذا نجد عالمنا مليء بالعلامات التي تحمل في طياتها آفاق أوسع للمعاني والدلالات.
ولعل فن المسرح، هو من أكثر الفنون استخداما للبعد السيميولوجي، فالإيماءات والكلمات والحوار المسرحي –بالتأكيد- يحمل في طياته كثيرا من العلامات، وكذلك حركة الممثلين على خشبة المسرح.
وقد استفاد المسرح المصري الجديد، يقوم العرض المسرحي على مجموعة من الشفرات الجمالية، وهي (تلك الشفرات التي تميل إلى الاحتفاء بالتضمين، والإيحاء، وتنوع التفسيرات)- على حد تعبير” دانيال تشاندلر” .
والعلامة كما يشير د. محمد عناني “عنصر من عناصر الشفرة.ومعنى الشفرة فهو أي نظام رمزي يتفق عليه المرسل والمستقبل للدلالة على الأشياء والمعاني”
وهذا ما قام به (الدراماتورج) د. سامح مهران في مسرحية “الطوق والإسورة” من إخراج ناصر عبد المنعم، والذي أعاد بناء الأحداث وفق متطلبات العرض المسرحي، فهناك اختلاف عن البنية الروائية عند يحيى الطاهر عبد الله، واختلاف جذري أيضا عن السيناريو السينمائي.
العرض المسرحي مكتوب بصيغة تجريبية مستفيدة من علم (السيميوطيقا)، حيث نجد رحلة أبطال العرض “حزينة” و”فهيمة” و”مصطفى” هي رحلة غير محسوسة بالعين المجردة ؛ لكننا نشعر بها من خلال صور إشارية دالة.
على سبيل المثال نجد “الرحاية “التي تظهر في معظم المشاهد، وتعمل “حزينة” على تدويرها، هي علامة على الزمن وأثره على الشخصيات، وكأن مصائر هذه الشخصيات تطحن مابين راحتي الرحى.
 ويقدم العرض ما يمكن أن يسمى بالتشفير المضاد، حيث يرصد - بمقدرة فائقة – مجموعة من الممارسات والتقاليد الخرافية الموجودة في صعيد مصر، ليس لمجرد الرصد بل لنقدها ومسألتها، ووضعها على مائدة الحوار الفني، باعتبارها ذات تأثير قوي على بناء الشخصية . وبما لها من تأثير متنامي على الذاكرة والمخيلة الجمعية.
وقد ظهر ذلك جليا من خلال بعض المشاهد الدالة ومنها ذهاب “فهيمة” للمعبد الفرعوني” بحثا عن حل لمشكلة حملها والتبرك، حسب المعتقدات الشعبية - بعد عجز زوجها “الحداد”، عن منحها ذلك، فيواقعها رجل المعبد فتحمل، وتنجب بنتا.
وكذلك “حكاية الشيخ الفاضل” ذلك الرجل الصالح الذي يتداول أهل القرية قصته، فهو يرى في مكانين في نفس الوقت، ويمشي على الماء.
وهذه أساطير خرافية تتردد كثيرا في الريف المصري، يقدمها العرض بطريقة ساخرة، كاشفة لزيف مثل هذه الأساطير.من خلال مجموعة من الحوارات الساخرة بين رجال ونساء القرية. 
وقد استطاع “مهران” كدراماتورج، وناصر عبد المنعم كمخرج الكشف عن الأساس الاجتماعي لبعض الظواهر المختلفة والتي يعتبرها البعض عادة في مجتمعاتنا الريفية، من خلال تقنية مسرحية ب” استخدام التناص في صورة المحاكاة التهكمية “، عبر لغة درامية ذات بعد سيريالي. 
  وقد ظهر ذلك –أيضا- من خلال تجربة الفرق المسرحية المستقلة التي استفادت من “علم السيموطيقا”، ولعبت بعض الفرق على هذا الجانب، من خلال مجموعة من العروض متشعبة الدلالة.
لأن هذه التجارب قامت، في كثير منها، على الربط المعرفي بين الفن كعلم ورسالة وبين القضايا المجتمعية.
ولعل ذلك هو أحد أهم  طموحات علم “السيموطيقا”، وهذا ما تشير إليه د.فريال غزول قائلة: “علم العلامات أو السيموطيقا، محاولة جادة لربط المعرفة الإنسانية بعد أن أدى الإفراط في التخصص إلى عزل حقولها الواحد عن الآخر”.
ولعل من أكثر الفرق المسرحية استخداما لهذا المفهوم “فرقة الشظية والاقتراب”، التي أسسها هاني المتناوي والمخرج الراحل محمد أبوالسعود.
   الشظية والاقتراب.
تأسست فرقة “الشظية والاقتراب” عام 1990 من مجموعة من الطلبة الهواة بجامعة القاهرة هم هاني المتناوي “ممثل ومدير الفرقة” و”محمد أبو السعود” المخرج و”إيهاب عبد اللطيف” مصور فيديو وفوتوغرافيا و”محمد فاروق” ممثل ومساعد المخرج الذين قدموا أثناء فترة الدراسة عرضين مسرحيين هما “دير جبل الطير، و”العميان” إلا أن هذه الفرقة لم تعلن عن نفسها بإطارها التنظيمي إلا في عام 1993 من خلال مهرجان المسرح الحر الثاني الذي أعادت فيه عرض “دير جبل الطير” الذي نال كثيرا من الإعجاب وحصل على جائزة أفضل عرض مما جعل د. هدى وصفي ترشحه للعرض على مسرح الهناجر لمدة أسبوعين.
وهو عرض دال على توجهات الفرقة التي تحمل رؤية خاصة للعرض المسرحي تحاول تنفيذها من خلال توليفات لأنوع مختلفة من الفنون لتقديم فرجة مسرحية ممتعة بالدرجة الأولى، تتماس مع قضايا الواقع وإن جاء طرحها لهذا الجانب في قالب أسطوري.
و”دير جبل الطير” عبارة عن دراسة ميدانية وتوثيقية قام بها المخرج محمد أبو السعود في أحد الأديرة القبطية بالمنيا مبنى على أحد الجبال مسمى بنفس الاسم، وقد اعتمد أبو السعود على جمع المادة أثناء الاحتفال الطقسي الذي يقام سنويا لذبح الطيور على قمة الجبل، هذا الطقس الذي يعتقد أهل المنطقة أنه من خلاله يفتح باب تحقيق الأمنيات، ومن خلال هذا الطقس الأسطوري تم تجميع عدة حكايات متنوعة مرتبطة به مثل حكاية العشق المحرم الذي مارسه رجل وامرأة في هذا المكان فتحولا إلى حجر بعد أن حلت عليهما اللعنة، وقد حولت الرؤية الإخراجية هذا المشهد إلى مشهد ظل سيلويت حيث الفتى والفتاة خلف ستار أبيض يقومان بحركات موحية بأنهما يمارسان العشق وقد اعتمد أبو السعود على حيلة فنية ذكية وهي تضخيم الأبعاد الحقيقية للجسد دون أي تلامس، إلا أن لجنة التحكيم قد رأت أن هذا المشهد فاضح بدعوى إثارة الغرائز هذا من ناحية، رغم أن المخرج حاول تفادي تلك النظرة من خلال استخدامه للظل المجسم.
ومن ناحية أخرى رأت اللجنة أن العرض يساءل المقدسات المتمثلة في أحد الطقوس الخاصة بدير قبطي، وبالفعل تم استبعاد العرض من المشاركة في تمثيل كلية الآداب في مهرجان المسرح بجامعة القاهرة ليحل محله عرض مسرحي آخر.

أهل الكهف
في عام 1995 قدمت الفرقة عرض “بريسكا” وهي عبارة عن بروفة لإعادة الكتابة الكلاسيكية لمسرحية “أهل الكهف” لتوفيق الحكيم بشكل مرتجل مضفرة بنص شعري للشاعر أحمد يماني عنوانه “يوتوبيا المقابر” ونص آخر للشاعر ماهر صبري هو “أحلم أني المسيح” وقصيدة “الكنيسة الباردة” للشاعر محمد متولي كما استند العرض إلى العديد من اللوحات الفنية لأشهر فناني عصر النهضة التي تم استخدامها عبر شاشة السينما لإثراء المشاهد المسرحي وتشكيل الفعل الحركي لأجساد الممثلين، في إطار حبكة درامية تتداخل فيها الأبعاد الزمنية عبر مشاهد متتالية تقوم على الإبهار البصري، من خلال عدة وحدات متداخلة نفذها المخرج باقتدار منها: إشغال الفضاء المسرحي بجسد الممثل ليعبر بالإيماء عن اضطهاد المسيحيين، صاحب ذلك وضع عمود كنائسي للتعبير عن المكان المسرحي، وتم تركيب كافة حركات اليمائية الدموية على فكرة الصليب الملون بالأحمر.
كذلك يظهر ـ جليا ـ في هذا العرض الاقتباس من الأسفار الإنجيلية وإن جاءت مجسدة في إطار من الخطاب الحسي الذي يظهر أفعال الاضطهاد التي مورست ضد “بريسكا” ككائن درامي يطل بدلالاته على تناقضات الواقع الآني.
وقد أجاد فيها الممثلون “حلمي مرسي” الذي “قام بدور “الصديق وهاني المتناوي “العاشق” ومصطفى بيومي “الأب” ومحمد النجدي “الراعي” وسحر حسين “بريسكا” وماهر صبري “الابن” وهايدي عبد الغني.
وقد تعرض هذا العرض ـ أيضا ـ لسيف الرقابة فقد تم تجهيزه للمشاركة في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي لكن اللجنة المنوطة باختيار العروض المصرية المشاركة ـ “وهي لجنة الرقابة على المصنفات الفنية” كادت أن تمنعه من الخروج إلى النور فقد رأت ضرورة حذف وتعديل النص المعد للعرض خاصة في المشاهد المتضمنة للنصوص الشعرية الحديثة وقد تغلبت الفرقة على هذا الإجراء المتعسف بأن فتحت باب المسرح للجمهور لمشاهدة العرض كاملا في أثناء قيامها بالبروفات النهائية، مع التزامها بتقديم نسخة من النص المعدل  إلى لجنة الاختيار، وقد ضربت بذلك عصفورين بحجر كما يقول المثل.
ثم جاءت اللجنة العليا لاختيار العروض للمسابقة ـ التي لم تكن أقل حدة في مآخذها على نص “بريسكا” خاصة اعتراض بعض أعضائها على عدة جمل مبتورة في سياق النص الشعري داخل المسرحية مثل عبارة “أحلم أني المسيح” التي رددها الممثل ماهر صبري وهي نفس عنوان قصيدته التي دخلت في سياق النص الأصلي، كما اعترضوا على حركات الممثلين الذين تقمصوا شخصيات الحواريين الذين يتقربون إلى الممثل، معتبرين ذلك إساءات للمقدسات بل أكثر من ذلك قال احد أعضاء اللجنة أن الممثلين أشبه بالمثليين محتجا بطريقة أدائه وإلقائه للحوار وأن إشاراته وحركاته ـ في حد ذاتها ـ إشارات جنسية مثلية.
وكان من نتيجة ذلك أن عرضت “بريسكا” على هامش المسرح التجريبي وقد لاقت ترحيبا كبيرا من الجمهور والنقاد، كما فتح للفرقة مجالات أوسع خاصة من الناحية الإنتاجية فقد فتح لها مركز الهناجر للفنون برئاسة د. هدى وسفي ذارعيه فقدمت “بريكسا” لمدة 63 ليلة عرض وهي تجربة تعد الأولى بالنسبة لإحدى فرق المسرح الحر.
ومن طرائف هذا العرض أنه حين تم عرضه في مهرجان “أيام عمان” المسرحية في عام 1966 فوجئ الجمهور الأردني بلوحات الرسام العالمي “رودان” تدخل في سياق العرض المسرحي عن طريق الشرائح الملونة ومكبرة على خشبة المسرح وقد ضمت لوحات رودان صورا لرجال ونساء تستعرض حالات الجسم البشري، وقد تم استخدام هذه التقنية كبديل عن تقنية الظل التي أثارت جدلا كثيرا في عرض “دير جبل الطير” إلا أن الجمهور استقبل هذه التقنية باستغراب شديد واستنكار أشد مما لاقاه العرض السابق من لجنة التحكيم، فبرغم شهرة هذه اللوحات وذياع صيتها إلا أن توظيفها داخل العرض المسرحي أثار حفيظة المشاهدين الذين اعتبروها نوعًا من الخلاعة والفن الذي يدعو إلى الإباحية بل إن البعض وصف العرض بأنه فاسد أخلاقيا، وأوصله البعض الآخر إلى حد الزندقة.
وقد منع العرض في ليلته الثانية بحجة تعطيل آلة الكمبيوتر المسجل عليه خطة الإضاءة المسرحية، إلا أن بعض الجمهور الواعي أصر على استمرار العرض واحتشد أمام باب المسرح وبالفعل تم تقديمه متأخرا عن موعده الأصلي لأكثر من ساعتين.
بعد ذلك دخلت الفرقة مرحلة جديدة من خلال تقديم نصوص صعبة ومربكة مثل “الأيام الخوالي” تأليف هارولد بنتر 1966 وقد ترجمها إلى اللغة العامية المصرية الشاعر محمد متولي وقام ببطولتها خالد الصاوي وشيرين الأنصاري ومنال حسين، وقد استخدمت فيه تقنيات السينما والفيديو.
ثم جاء عرض “ساحرات سالم” لآرثر ميللر 1997 وقد قدمته الفرقة تحت عنوان “البوتقة ـ أو القدم اليسرى لليل” وهو نص اقترحته د. هدى صفي ليقدم على مسرح الهناجر، وهو أيضا يقوم على فكرة العلامات، وقد جاء العرض مواكبا لتصاعد حركات الإرهاب الديني في مصر خاصة قضية مصادرة د. نصر حامد أبو زيد ودعوى التفرقة بينه وبين زوجته د. ابتهال يونس وقد أثرت هذه القضية ومثيلاتها على فضاء العرض المسرحي الذي كان يسعى لإبراز الجانب التنويري في المجتمع من خلال مضمون فكري يخاطب ويحاكم كل مفتشي الضمائر وكل من يستولي على سلطة عن طريق إرهاب الآخرين.
وتعد “ساحرات سالم” من الأعمال النادرة التي استخدم فيها شكل خشبة مسرح الهناجر بشكل المعتاد من خلال صالتيها الرئيسيتين ولم يفعل ذلك طوال تاريخ المسرح المصري سوى المخرج الراحل كرم مطاوع في مسرحيته الشهيرة “ديوان البقر”. وقد شارك في بطولتها خالد الصاوي ونيرمين زعزع وخالد صالح ونورا أمين ومعتزة عبد الصبور وهاني المتناوي.
ثم كانت درة الفرقة عرض “فيدرا” عام 2001 هو عبارة عن صياغة مصرية لأسطورية “فيدرا” قام بها محمد أبو السعود وأخرجها هاني المتناوي وهي على حد تعبير الناقدة د. نهاد صليحة تختلف عن فيدرا هيبوليت وفيدرا سينكا وكوري وراسين، وإن كانت جميعها تتفق في حالة القهر والمعاناة حيث النظام الأبوي الديكتاتوري والحرية غير المنطلقة التي تمثلها فديرا ولكن أبو السعود لا يحل هذه العقد، ولا يحلها الممثلون، لكنهم يحاولون طرح أزمة جيل كامل من خلال رؤية خاصة تتجاوز النص الأصلي للأسطورة، من خلال اللجوء إلى وصف أدق التفاصيل الماضوية من خلال الإسقاطات الواقعية مع الاعتماد على لغة شعرية وقد قام بدور فيدرا باقتدار الروائية والفنانة نورا أمين.


عيد عبد الحليم