بعض النظريات الحديثة في الدراما الشاعرية

بعض النظريات الحديثة في الدراما الشاعرية

العدد 645 صدر بتاريخ 6يناير2020

لاشك أن المنظرين الذين كرسوا اهتمامهم لمشكلة الدراما الشعرية ليسوا كثيرين، وان كانوا كذلك ، فان استنتاجاتهم مقروءة بين سطور أعمالهم التي تتناول نظرية الدراما عموما. فمصطلحات مثل الدراما الشاعرية Poetic Drama، والدراما الشعرية Verse Drama، ودراما النثر الشعري Prose Poetic Drama، والشعر الدرامي Dramatic Poetry تتكرر في الكتابات النقدية عن الدراما والمسرح، ولكن، حتى الآن، لا تكاد توجد نظرية كاملة للدراما كنوع أدبي . فمثلا ، يساوي (ت. س . اليوت T .S . Eliot) بين الدراما الشاعرية والدراما الشعرية:  فهو يرى أن الدراما الشاعرية يمكن أن توجد ان لم تكن مكتوبة بالشعر . ويقرر ( جرانفيل باركر Granville-Barker) أن الدراما الشاعرية ليست ببساطة الدراما المكتوبة شعرا، وبالتالي فان الدراما المكتوبة شعرا تصبح مصطلحا فنيا بشكل خالص ، يتم تطبيقه علي أي إنتاج درامي مكتوب شعرا . وبغض النظر عن المناقشة غير المريحة للشعر المنظوم باعتباره السمة الرئيسية للدراما الشاعرية ، فمن الممكن تقسيم الكتاب في هذا الموضوع الي مجموعتين. فبعضهم مثل (دينيس دونوه Denis Donoghue) أو (فرانسيس فيرجيسون Francis Fergusson) أو (ج .ل . ستيان J.L. Styan) يناقشون الدراما الشاعرية في إطار بناء المسرحية ، أو لغتها ، أو العلاقات بين عناصرها وتماسك العناصر المادية لتكوينها . ويتعامل بعضهم مع مشكلة التراجيديا أو مع مشكلة تسامي الواقعية؛ فالدراسة الشاعرية بالنسبة لهم هي تجاوز الواقع البسيط والإشارة إلي مرتبة أعلي من الحياة والكون. ومن الممكن أيضا نميز مجموعة ثالثة من النقاد، الذين يناقشون الدراما في إطار كل من البنية والواقعية المتجاوزة .
 ودعونا نبدأ بتلخيص نقدي للآراء التي تتناول ظاهرة الدراما الشاعرية في إطار بنيتها .
 يناقش ( دينيس دونوه)، مؤلف كتاب « الدراما الشعرية البريطانية والأمريكية الحديثة Modern British and American verse drama»، الدراما الشاعرية ومحدداتها . شعر الدراما ليس بالضرورة بناءا لفظيا ؛ فهو يلازم بنية المسرحية ككل . ونتيجة لذلك، شعر الدراما ليس موجودا في أي جزء من المسرحية ولا في أي عنصر من عناصرها، ولكنه يوجد في الطريقة التي تعمل بها جميع العناصر وتعاونها . فالقصيدة تتكون من كلمات، ولذلك فان ما يتم اختياره باعتبار أنه وحدة التكوين الشاعري – الكلمة المفردة، والوحدة في التركيب اللغوي، وبيت الشعر – هي بالضرورة مسائل لفظية . أما الوحدة في المسرحية فليست من ضمن المجال اللفظي . واذا عزلنا لحظة واحدة من ألاف اللحظات المتجاورة في المسرحية، فينبغي أن نعتبر أن وحدة التكوين المسرحي، والتي هي كل ما يحدث في تلك اللحظة، مفهومة بشكل متزامن . فالكلمات يتم نطقها، والإيماءات يجري أداؤها، والحبكة تندفع إلى الأمام، ويتم نقل صورة مرئية علي خشبة المسرح نفسها . والمصطلح الذي يشمل كل هذه العناصر هو « الموقف Situation» . فالمسرحية هي تتابع للأحداث والمواقف المجسدة، وهي مختارة ومرتبة لإنشاء المعادل الموضوعي للموتيفة التي هي حدث المسرحية . وكل موقف في المسرحية، مثل الكلمة أو شطرة – البيت في القصيدة الشعرية، يعني تقديم مساهمة أساسية في كمال التكوين . والمضمون المثالي لهذه المتطلبات هو « الوحدة العضوية Organic Unity . أطوار الوحدة، لأننا بينما نستمتع بكمالها، ندرك أيضا عمل العلاقات المتكاملة . ووفقا ل(ج.ل. ستيان ) – وهو منظر بارز آخر – فانه يجب تعريف الموقف بشكل كاف وأنه يبرر المسرحية ككل . وينشأ المعنى الأساسي من المعالجة التكتيكية للممثلين في أدوارهم باعتبارهم عدادات بشرية في لعبة إستراتيجية، من ترتيب الشخصيات في الموقف .ويتلاعب المؤلف بالموقف، بينما يبدو أن الشخصية تنمو وتتطور بداخله . وبينما تتطور الشخصية، فانها تكشف في المقابل العلاقات . وبالتالي يفهم المشاهد خلق الشخصية، وتطور الموقف، وتفصح عن موضوع المسرحية .
 تساهم مواقف معينة توضح المسرحية في كمالها. ويقارنهم (دونوه) بالكلمات في القصيدة . ويقرر (ستيان) أن الموقف الذي يتم التلاعب به بواسطة المؤلف توضح العلاقات وموضوع المسرحية.
 هذه الآراء حول دور الموقف في المسرحية ربما ترتبط برؤى قدمها (فرانسيس فيرجيسون) في كتابه « فكرة المسرح the Idea of a Theater» . فبمناقشة مشكلة الواقعية الحديثة عند كتاب دراما مثل ( ابسن ) و ( تشيكوف)، يوضح أن كليهما كانا قادرين علي أن يبتكروا في الدراما الواقعية نوعا معينا من الشعر المسرحي، المتنكر في الشكل التقريري ؛ انه شعر المسرح كما يعرّفه ( جان كوكتو )، وليس فقط شعر الكلمات : انه يقوم علي الحساسية النثرية وفن التمثيل، ويمكن أن يٌرى فقد أثناء الأداء، أو من خلال تخيل الأداء . وقد استطاع (ابسن) و(تشيكوف) تعريف الحدث الدرامي من خلال حبكاتهما والمواقف في مسرحياتهما، والذي أخذ شكلهما وإيقاعهما، ويحدد الشكل الدرامي . وقد قاما بتمثيل الحدث وفقا للتوصيف الأرسطي: ليس باعتبارها سلسلة من الأحداث، ولكن كحركة للنفس، وليس فعل الفرد، بل الفعل الأكثر عموما، الذي يشارك فيه الجميع بشكل متناظر، والذي نراه محددا بواسطة الشخصيات وعلاقاتهم . وبالتالي يقبل كلا الكاتبين الدراميين الشفهي ويعلوان به . وشعر الدراما الشاعرية ليس هو شعر الكلمات، ولكنه شعر العلاقات الإيقاعية ومفارقات المواقف التي ينشئها المؤدون . فشعر (تشيكوف) يختفي وراء السطح، مع أن شكل المسرحية ككل ليس سوى شعر بالمعنى الواسع : انه تماسك عناصر التكوين المادية .
 وبالتالي، لا يناقش ( فرانسيس فيرجسون) بنية الدراما الشاعرية فقط، والتي يجب أن تكون متماسكة مادامت عناصر معينة هي المعنية، بل انه يلمس أيضا مشكلة تسامي الواقعية البسيطة . فالدراما عند (ابسن) و (تشيكوف) ليست شاعرية فقط بسبب بنيتها، بل في نفس الوقت بسبب إعلائها للشفهي .
 ويجب أن يكون لمواقف الدرامية معينة تماسكها الخاص، ليس فقط لتوضيح المسرحية من خلال الارتباط أو التباين . بل يتم تعريف الجمهور، في اطار حالة معينة، بالعديد من العناصر التي تنشئ الموقف .
 ومن بين هذه العناصر، يؤكد (هارلي جرانفيل باركر Harley Granville-Barker)، وهو ممثل ومنتج، علي إسهام الممثل:
 اللغة في المسرح ... ليست ببساطة لغة لفظية. فالفنان في اطار مـادته . وعندئذ يجـب علي الكـاتب الدرامـي  أن يفكـر في الكلام الحــدث والدرامي، عــلاوة عـلي  الخلفية التصورية البنيوية. ويفكــر الفــنان أيضا في  النسبية لكل عنصر في مادته بالقياس الي العمل الذي في يده، وفائدته لإحداث التأثير الذي أن يحدثه . ولكن هنــاك عنصـر رابـع ومهـم في وسيـلة تعـبير الكاتــب الدرامي – ألا وهو شخصية الممــثل .. فإذا لم يكن دوره  ممتلئا بالقدر الكافي، فليس لديه خيار في أدائه ســوى أن يملئه بنفسه .
 لقد كان اهتمامنا حتى الآن بمشكلة البنية ولغة الدراما . فقد كان ينظر الي لغة الدراما ليس فقط باعتبارها الحوار، بل إنها تضمنت عناصر أخرى أيضا . ولكن اللغة نفسها تعد أحيانا العامل الرئيس في الدراما ولأن الدراما حوار مجسد، فلابد أن تتميز عن الأنواع الأدبية الأخرى . ولم يناقش (نورثروب فراي Northrop Frye) في كتابه « تشريح النقد Anatomy of Criticism» مشكلة الدراما الشاعرية ( اذ يساوي بين كل أنواع الدراما ولا يميز الدراما الشاعرية كنوع مستقل ) ومع ذلك يضيف الكثير إلي نظرية لغة الدراما .
 تٌعرّف ملائمة الأسلوب لصفة داخلية أو موضوع بأنها لياقتــه أو ملائمة محتواه. فاللياقة هي صوت الشاعر، وتعديل صوته بحسب الموضوع أو الحالة المزاجية واللياقة كأسـلوب فهي في أنقى صور النثر الخطـابي. لـذلك من الواضـح أن اللـياقة فــي  الدراما هي حيث لا يظهــر الشاعر بشخصـه. فالدرامـا يمكــن أن توصف، في رؤيتنا الحالية، بأنها شعر ملحمي أو فن قــص يتم استيعابه باللياقة. فالدراما محاكاة للحوار أو المحادثة، ويجب أن تكون المحاورة البلاغية سلسة جدا. وربما تتراوح بين مجموعة الكلام وصولا إلي نوع stichomythia( وهو نوع من الحوار الذي تقــول فيه شخصيتان سطور الشعر بالتبادل) عنـدما يكــون  الأســاس هو الــوزن في الشعــر، ولها صعوبــة مزدوجــة فـي في الشعر؛ إذ لهـا صعوبــة مزدوجــة في التعبـير عن شخصيـة المتحدث وإيقاعه في الكـلام، ومع ذلك يتـم تعديلها وفقا لمــزاج المتحدثين الآخرين .
وتعد اللياقة Decorum ، وفقا ل (فراي)، التصنيف الرئيسي في الدراما مثل الشعر، وطبقا ل ( اريك بنتلي )، هو المقوم الأساسي المؤثر في شاعرية الدراما .
 والحوار الطبيعي هو الحوار القريب من الكلام الفعلي بأقصى ما يمكن . ولأن الدراما كلام منطوق، فيجب أن تحتفظ بعلاقة مميزة باللغة المنطوقة . في عقلية دراما الطبقة الوسطي التي تقدم هذه الطبقة سوف نلاحظ انحراف المذهب الطبيعي نحو الحياة ونحو اللا فن .
 والنوع الثاني من الحوار الدرامي هو البلاغة النثرية Prose Rhetoric، اذ يرى (اريك بنتلي Eric Bentley) :
 يمكن اعتبار أن البلاغة النثرية أكثر طبيعية من بلاغة الشعر، ليس فقـط لأن الناس يتحـدثون النثر، ولكن لأنه يعتمد بشكــل كبير علي أنماط من الحياة، أو تحديدا، علي أنماط من فنـون  أخرى، أكثر من اعتماده علي الأدب . والمسرح في البلاغــة النثرية، استند بشــدة علي مؤسستين : هما الكنيسة والمحكـمة فعادة ما يطلق الناس علي المسرحية النثرية اسم « العظة «، وهم بذلك يشيرون إلي مضمونها، ورغم ذلك هناك علاقـــة طبيعية بين الوعظ وأسلوب الحوار في كثير من المسرحيــات النثرية .
 والنوع الثالث من الحوار هو « الشعر البلاغي Rhetorical Verse» . فعندما نبتعد خطوة عن الكلام اليومي العادي، نصل إلي الدراما الشعرية Verse Drama والتي هي ليست شعرا بالمعنى الكامل، ولكن « الوزن» من جانب، يعمل علي غرار النثر البلاغي . وهناك شيء يسميه الألمان « العاطفة Pathos» وهي الملمح الأساسي للأسلوب القديم في المسرح وتعد الآن خطئا ؛ اذ تنطوي علي شكل مبالغ فيه في اللغة والإلقاء . وكلمة « عاطفة « لا تنقل فقط ذلك، بل انها تنقل أيضا شعور الغبطة المصاحب لها .
 والنوع الأخير في أنواع الحوار المسرحي هو الشعر وهو الأكثر أهمية . والتمييز بين الشعر البلاغي والشعر الخالص والبسيط كالتالي .
 يتناول الخطيب اللغة كما هي، ويحشد كلماته بكل المهارات المهنية المستخدمة علي منبر الخطابة وفي قاعة المحكمة . ولكن الشاعر لا ينظر الي الكلمات بهذه الطريقة، فاللغة أدوات يصوغها ويعيد صياغتها وهو يستخدمها . فالخطيب يقوم بتحسين العبارات، محترف لإعادة الصياغة . أما الشاعر من الناحية الأخرى، فانه يحب أن يصل إلي الفكرة قبل أن تكون فكرة، وقبل أن تصاغ في كلمات . فمعه يمضي البحث عن الكلمة والتفكير في الفكرة معا، فتكون النتيجة لغة جديدة، وصياغة جديدة ومزج جديد للكلمات . ويعترف ( بنتلي) أن الشاعر الدرامي يستطيع أن يستخدم الأربعة أنواع من الحوار الدرامي، وبالتالي يمكنه يجذب أنواع متعددة من الجمهور . ويؤكد علي تفوق الشعر في الدراما : فهي في رأيه تملك أوسع مجموعة، لكونها قادرة علي استيعاب كل أنواع الحوار .
 وبينما يناقش (ج . ل . ستيان) و ( ت زس . اليوت) الدراما الشاعرية ( أو أمكانية استخدام الشعر في الدراما ) يهتمان بكل من صور المشكلة التي أشرنا إليها في بداية هذه المقالة – فهما لا يتناولان الشعر كوسيلة للدراما الشاعرية فقط، ولكنهما في نفس الوقت يشيران إلي مشكلة تجاوز الواقعية .
 يقارن ( ستيان) دور اللغة في الدراما بدور التشبيه في الشعر . فهي يجب أن تحمل ما يدور علي خشبة المسرح وتميزه وتتحقق من جدواه من خلال المسرح فقط. وبهذه المقولة يقترب ( ستيان ) من (جرانفيل باركر ) و (فيرجسون) . فالشعر يمكن أن يجعل الدراما دقيقة، ليس فقط لكي يعمل الممثلون بها، بل لكي يتفاعل معها المتفرجون أيضا . ويمكنها أن تفعل هذا وخصوصا حيثما لا يمكن تمثيل موضوع المؤلف بتفاصيل الحياة الفعلية . ومن خلال الشعر الدرامي يستطيع أن يضمن العمق والكثافة، بينما يكون تأثير الشعر في المسرح بنفس النظام مثل تأثير الكلمات في القصيدة : سوف يزيد معنى وقوة ومجال المؤلف . فالشعر يوجد للتعبير عن نماذج الفكر والشعور وتحديدها، وإلا أصبحت غير قابلة للتعبير والتعريف . وهذا هو السبب الرئيس في استخدامه . فالشعر يمكن في عمق وقوة المعنى الكلي للفعل علي خشبة المسرح، وبشكل غير مباشر في الكلام المنطوق . وإذا استخدم الكاتب المسرحي الشعر اليوم، فان ذلك يحدث لأنه يريد بالأساليب التقليدية أن يجعل مسرحيته بيانا أو مقولة عامة . ولذلك يرفض التمثيلي من أجل الشكل الدرامي التمثيلي . وبهذا ربما يؤثر في معالجة موضوعه ككل : ربما تصبح خشبة المسرح منصة حضور متقطع لفكرة مجردة، وربما يصبح الممثل مريونيت، يمثل بطريقة ملائمة لدرجة التجريد . اللغة هي مظهر واحد من مظاهر الصورة الأصلية للمسرحية الموجودة في عقل الكاتب الدرامي .
 وتعليق (ستيان) علي استخدام الشعر في الدراما يصبح بالتالي أطروحة في مجال الدراما الشاعرية عموما . وبغض النظر عن حقيقة أن الكاتب الدرامي يستخدم الشعر في نطقه، فانه في نفس الوقت ينجز معنى أوسع وأشمل من أي كاتب يستخدم النثر .
 وفي البحث عن صياغة منهجية متسقة لنظرية الدراما الشاعرية لم يتبق لنا سوي أراء ( ت .س . اليوت )، الذي يناقش مشكلة لغة الدراما الشاعرية وبنيتها وجاذبيته للمشاهدين .
 المشكلة التي وجدها ( اليوت) مثيرة، هي لماذا يكون لدى الدراما الشاعرية شيئا تقدمه للجمهور ولا تملكه الدراما النثرية . فشعر الدراما هو مجرد حلية، زخرفة إضافية، وإذا كانت متعة الاستماع إليه تمنح الناس التذوق الأدبي عندما يشاهدون المسرحية في نفس الوقت فلا لزوم له . الشعر يجب أن يسوغ وجوده دراميا ولا يكون فقط مجرد شعر جيد مكون في الشكل الدرامي . ومن هذا نستنتج أنه لآ ينبغي أن نكتب المسرحية بالشعر حين يكون النثر ملائم لها دراميا . ويجب أن يكون المتفرجين مهتمين بما يمارسونه حتى يكونوا واعين تماما بالوسيط . وعند مناقشة اللغة في الدراما يميز ( بتنلي) أربعة أنواع من الحوار الدرامي ؛ ويستنتج (اليوت) تمييزا ثلاثيا بين النثر والشعر والكلام العادي، الذي يكون في معظمه في مستوى أدنى من النثر أو الشعر . ولذلك إذا أخذنا في اعتبارنا التمييز المشار إليه آنفا، فسوف يتضح أن الشعر علي خشبة المسرح طبيعي أو مزيف مثل النثر، أو تبادليا، أن النثر طبيعي مثل الشعر . ومع ذلك – يقول (اليوت ) – فان الإعاقة التي تعاني منها الدراما في اللحظة الحالية، أن النثر يجب أن يستخدم بشكل مقتصد للغاية في الواقع و وينبغي علي كتاب الدراما أن يستهدفوا شكلا من الشعر يمكن أن يقال فيه كل ما يجب قوله، وعندما نجد بعض المواقف مستعصية علي الشعر، فذلك لأن الشعر شكل غير مرن . ويجب أن يتعود المتفرج علي النظم لدرجة أن يتوقفوا عن إدراك أنه نظم . فالنظم سوف يصبح شعرا عندما يصل الموقف الدرامي الي نقطة الكثافة التي يصبح عندها الشعر نطق طبيعي، لأنه يكون عندئذ اللغة الوحيدة التي يمكن التعبير عن العواطف من خلالها . فمن المهم للمسرحية أن تكون قادرة علي قول أشياء داخلية بدون عواطف، وكذلك تنطلق وتحلق دون أن يكون ذلك مبالغة، خاصة وأنها تهتم بالحياة المعاصرة . وإذا كان للدراما الشاعرية أن تسترد مكانتها فيجب أن تدخل في منافسة مع الدراما النثرية . فالناس مستعدون أن يسمعوا الشعر من شفاه أشخاص يرتدون ملابس من عصر قديم ؛ ولا بد من جعلهم يسمعونه من أناس يرتدون نفس ثيابهم، ويعيشون في بيوت مثل بيوتهم ويستخدمون السيارات والهواتف وأجهزة التسجيل مثلهم . وما يجب أن يفعله الكاتب الدرامي هو تقديم الشعر في العالم الذي يعيش فيه الناس، ولا ينقل المتفرجين الي عالم مختلف تماما عن عالمهم، عالم خيالي يكون فيه الشعر مقبولا . وبشكل عام، مهما كانت وسيلة الاتصال التي سوف يستخدمها الكاتب الدرامي، فيجب أن تعطي الدراما مفهوما ما للنظام في الحياة، اذا كانت دراما شعرية . وبالتالي يجب أن تعطي الدراما صورة لظروف الانسان، والقوانين التي تحكمه والتاريخ، ومشكلة الجريمة والعقاب . وفي الفقرة الوحيدة يسمح ( اليوت) للدراما الشاعرية أن تكون مكتوبة بالنثر، علي الرغم من أنه في كل المقالات الأخرى يساوي بين الدراما الشاعرية والدراما الشعرية .
 أمام عيني الآن نوع من السراب اسمه كمال الدراما الشعرية
 والتي يمكن أن تكون إعدادا للفعل الإنساني والكلمات، مـثل مثل تقديـم وجهين للترتيب الدرامي والترتيب الموسيقي فــي نفس الوقت. وللمضي بعيدا قدر الإمكـان في هـذا الاتجاه، دون أن نفقد بالعالم اليومي العادي الذي يجب أن تتوافق معه  الدراما، يـبدو لي أنه الهــدف الصحيـح للشعر الدرامي . لأن وظيفة الفن في نهاية المطاف هي فرض نظام موثوق به علي  الواقع، وعن طريق استنباط مفهوم ما لنظام الواقع لكي نصل  إلي حالة الهدوء والسكينة والمصالحة .
من بين كل الأشكال الأدبية تملك الدراما القدرة علي اعادة خلق عالم كامل ومنظم . فقد حاول ( اليوت ) توجيه المتفرجين إلي الإحساس بالوعي الديني من خلال إظهار نظام خارق للطبيعة في العالم الطبيعي . وبالتالي، من خلال الإيقاع والبنية الدرامية للدراما الشعرية، يجب أن يلمس الكاتب الدرامي مأزق الإنسان . وبداية من البنية، يصل ( اليوت ) في كتاباته لمشكلة عمومية الدراما الشاعرية، والمتمثلة في تجاوز المذهب الواقعي وتقديم تصور لنظام أعلى في الحياة والعالم .
 ويشارك ( كيتو H.D.F. Kitto) في كتابه «الشكل والمعنى في الدراما Form and Meaning in Drama « (اليوت ) في نفس رأيه بدرجة ما . فكتابه ليس معنيا بالدراما الشاعرية أو نظريتها، بل معني بالدراما الدينية . ومع ذلك، يطبق نفس السمات علي الدراما الدينية والدراما الشاعرية، وغالبا يستبدل مصطلح «ديني» بمصطلح « شاعري «، لذلك لدي عذر في اعتبار أن نظريته في الدراما الدينية متعلقة بالدراما الشاعرية أيضا .
 فما تقدمه لنا الدراما الدينية هو الرهبة والفهم . وينشأ تطهيرها الحقيقي من أننا عندما نرى الأشياء الرهيبة تحدث علي خشبة المسرح، نفهم لماذا حدثت، أو ان لم تحدث بنفس القدر، فإننا علي الأقل نرى أنها لم تحدث بالمصادفة، وبدون مغزى . اذ يصلنا شعور بأن الكون مترابط علي الرغم من أننا لا نفهمه تماما .
 يبني الشاعر التراجيدي مسرحيته بطريقة تجمع بين تصرفات الشخصيات، كونها من المحتمل أن تكون، لكي تؤدي الي نتيجة حتمية سواء في المستقبل أو في الماضي، أو في كليهما . وربما يقال ان هذه النتيجة توضح جدوى القانون الالهي في شئون البشر . وقد ترتكب الشخصية الرئيسية أو الشخصيات أخطاء جسيمة تؤدي بهم إلي كوارث، أو ربما يكونوا من الأشخاص الذين يتأثرون بأفعال الآخرين غير المشروعة، وفي هذه الحالة قد تنتهي المسرحية بسعادة بالنسبة لهم . وهذه مسائل اللامبالاة . فهناك شيء واحد ثابت : وجود نظام عالمي يرمز الي حضور الآلهة .
 ويمكننا أن نقول ان الشاعر التراجيدي يمزج سمتين تبدوان متناقضتين، ولكنهما في الواقع تخدمان كل منهما الأخرى وتعززانها : حدة التفاصيل وأكبر احتمالات العمومية . وطبقا ل ( ايرينا سلافينسكي Irena Slawinsky)، كانت الدراما الشاعرية تقاتل ضد الواقعية البسيطة من أجل تحقيق المستوى الذي يمكن من خلاله عرض المشكلات الإنسانية العامة . فالاهتمام الرئيس للدراما الشاعرية هو حقيقة أنها احتجاج علي شاعرية الواقعية . فالدراما الشاعرية ليست للقراءة، ولكن لكي تفسر، وأن التفسير لا يجب أن يحدث فقط في اطار هنا والآن ، ولكن أيضا في إطار دائما وفي كل مكان . فهي تلمس المشاكل العامة للبشرية – تلك التي يصعب حلها ؛ والتي نكتشف فيها الحقيقة المستقلة عن الزمن والمكان . والحقيقة هي أن تقودنا الي جوهر العالم واكتشاف تلك القوانين في عالمنا والتي لا نراها علي الفور في حياتنا اليومية . وبالتالي تلمس الدراما الشاعرية المشاكل العامة لأي إنسان – مشاكل الوجود والقوانين الأبدية التي تحكم العالم والتاريخ . في هذا النوع من الدراما يكون مجال الإشارة غير محدد – فالدراما الشاعرية يجب أن تكون تركيبية، اذ يجب أن تكون من مستويين . وتصبح كل الأحداث في الدراما الشاعرية عمومية : إذ أنها تحدث علي مستوى الحياة، ولكنها تشير في نفس الوقت الى البنية الداخلية لوجود الإنسان . والعنصر المحدد هنا هو الطابع المجازي للفعل – وهو أهم ملمح في الدراما الشاعرية . فحقيقة أن الدراما الشاعرية هي مستويين تعني ببساطة وجود مجالين للإشارة : بغض النظر عن حقيقة أن الدراما تقدم «جانبا من الحياة « ففيها منظور دائم للإنسانية .
..................................................................................
• واندا رولفيتش Wanda Rulewicz تعمل استاذا للدراما بجامعة وارسو .


ترجمة أحمد عبد الفتاح