فينومينولوجيا المكان المسرحي (1)

فينومينولوجيا المكان المسرحي (1)

العدد 842 صدر بتاريخ 16أكتوبر2023

مثل السيرك تلك كانت الحركة العامة والأضواء والجو الذي يملكه أي مسرح، ومقدار كبير من الإضاءة الباهرة ومقدار كبير من الارتفاع في الهواء ... ولكن المسرح كان ضخما لدرجة أني لم أتذكره مطلقا أني رأيت خشبة مسرح، فكـل ما أذكره أنني شعرت أنه يعمل كما يعمل المسرح . وأشك ان كنت قد رأيت خشبة المسرح . 
 المقطع السابق من كتاب الشاعرة والكاتبة الدرامية جرترود شتاين “محاضرات في أمريكا”، تصف فيها تجربتها في زيارة المسرح للمرة الأولى وهي طفلة، وتوضح بطريقة نموذجية ما يمكن أن تفعله فينومينولوجيا المكان: فضلا عن محاولة تفسير ما كان موجودا بمعنى موضوعي، وتنقل تجربتها المباشرة وإدراكها للمكان. ومن الناحية الموضوعية، هناك بالتأكيد خشبة مسرح، حتى إن لم تدركها كطفلة، أو لم تعيها بالقدر الكافي لكي تترك فيها انطباعا دائما. وباستخدام المصطلحات التقنية الفينومينولوجية، يمكن أن نقول إن خشبة المسرح كانت جزءا من أفقها الإدراكي (أو خلفيتها) ولم تظهر كشكل في حد ذاتها . وبدلا من ذلك، تتذكر كيف تأثرت مباشرة بالمعنى العام للحركة في المكان من حولها، والإضاءة والبريق والتجربة المادية للارتفاع – وكلها مؤثرات للعمارة ووضعها داخلها . 
 ومن الافتراضات الأساسية لهذه الأطروحة أن التجربة المسرحية مشروطة بالخبرة المباشرة بمبنى المسرح . ورغم ذلك فان الخطاب المسرحي الأكاديمي حول المكان المسرحي يهمش أو يتجاوز المباني نفسها، اذ يركز في غالبا على المساحات التي تبتكرها عروض بعينها أو الفراغات الخيالية والموقع في النصوص المسرحية . باختصار، يكمن التركيز بحزم على ما يحدث على خشبة المسرح، بينما تظل باقي القاعة في الظلام عموما . وبالتالي فان وصف جرترود شتاين هو تذكير منعش بأنه يمكن أن تكون لنا تجربة حيوية في المسرح حتى بدون رؤية خشبة المسرح مطلقا . وإنها مثال لما يمكن أن تحققه هذه الأطروحة، حتى ولو كانت فينومينولوجيا عمارة المسرح التي قدمتها هي ثلاث جمل فقط . كما لا توجد أيضا الكثير مثلها . ولكنها نقطة انطلاق جيدة، وسوف أعود إليها في الأفكار التالية في هذه الدراسة . إنها تكتب عن كيفية الشعور بالمسرح كمسرح ؟، بالإضافة إلى فتح احتمال لا يبدو المسرح كمسرح، وهو بالطبع نقد نواجهه فيما يتعلق ببعض مباني المسرح . فالمسرح القومي في لندن، مثلا، بجماليات المادية الواضحة يوصف بأنه ممتنع أو لا يستجيب .
 هدف الفصل الأول هو مراجعة الأدبيات الحالية عن فراغ المسرح والعمارة. ويأخذ في اعتباره مجموعة واسعة من النصوص لمؤلفين من مختلف المجالات من ضمنها دراسات المسرح والنظرية المعمارية والفلسفة وعلم الاجتماع، علاوة على مجال الاستشارات المسرحية الهجين، الذي يسعى الى التوسط بين المعماري الذي يبني المسارح والمحترفين الذين يستخدمونها . والقصد هو توفير مسح واسع لعدد من المناهج، وانتقاء الرؤى الفينومينولوجية المهمة للدراسة . ويبدو أن النصوص (أو مقاطع النصوص) ولاسيما الملائمة لفكرتي موزعة عبر مجموعة واسعة من العمل الأكاديمي، مما يجعل من الضروري نصب الشبكة على نطاق واسع . 
 وسوف أبدأ حرفيا بالعمل الأساسي، واستدعي الخلفية كمجال للمادية والجوهرية التي تدعم الممارسة المسرحية . لقد كان الأداء المسرحي يوسف بأنه تذبذب بين المساحة المادية والمساحة الخيالية . فكما أن تجربة المتفرج الفرد أو الممثل تتذبذب بين كونها موجودة هنا والآن في مبنى المسرح ويتم نقلها إلى واقع آخر معنوي أو سردي أو تجريدي، فان المسرح كشكل فني يتذبذب أيضا بين التركيز، من ناحية، على خلفيته المادية، ومن الناحية الأخرى على إبداع المساحات الخيالية المستبعدة من واقع المبنى أو المكان نفسه . التوتر بين المساحة المادية والمكان الخيالي هي احدى الجدليات المميزة للممارسة المسرحية، العلمية والتاريخية. فمثلا، يستخدم روبرت ويمان مصطلحات مثل “مكان التمثيل على خشبة المسرح locus“ و”مقدمة خشبة المسرح أو مساحة التمثيل المحايدة platea “ للدلالة على جانبي هذه الجدلية: فالمكان، ويقتصر عموما، الى حد كبير، على المساحة المرتفعة على دعامات خشبة المسرح في أشكال الممارسة المسرحية المبكرة، ويمثل المواقع الخيالية عن طريق مرجعية إشارية (مثل العرش الذي يدل على القصر). و”مقدمة خشبة المسرح أو مساحة التمثيل المحايدة “ من الناحية الأخرى، يشير الى الساحة المفتوحة على نفس مستوى المتفرجين وتتميز بجو احتفالي وإمكانية التفاعل بين المؤدين والجمهور – وهي مساحة أولا وقبل كل شيء “هنا here” بالمعنى الفوري. وفي الأشكال اللاحقة في الممارسة المسرحية، أصبح مكان خشبة المسرح ومكان التمثيل المحايد منفصلان عن موقعهما المحدد وتطورا إلى مفاهيم توصف بأنها طرق الأداء وتميل، إما تميل الى التمثيل والإيهام (موقع التمثيل على خشبة المسرح) أو تميل الى الأشكال الأدائية (مساحة التمثيل المحايدة ) . 
 وفيم يلي سوف أبحث أمثلة للفنانين المشاركين في المساحة المادية لمبنى المسرح بطرق يمكن تفسيرها بأنها “عودة إلى الأرضية، أو إلى الصيغة الأدائية لمساحة التمثيل المحايدة. ويبدو أن هذا يحدث غالبا بعد فترة من التركيز المتزايد على مسائل الخيال والإيهام، ويتم تحفيزها غالبا برغبة في المشاركة من جديد في الواقع المادي للمساحة المشركة بين المؤدين والجمهور . 

الأرض تحت أقدامهم: 
 مبنى المسرح ليس أرض المسرح إذا فهمنا أن الأرض مكان المنشأ، وترمز الى جذور ممارسة المسرح في الطقوس أو الاحتفال الجماعي. ويتحدث مارتن بوشنر عن الأرض بهذه المصطلحات؛ كمنصة خشبة مسرح مرتفعة ومتحررة من هذه الأرض التي يطمح اليها المسرح لأنه يعد بالمزيد من المرونة فيما يتعلق بالمواقع الخيالية، والنطاق الأوسع والعمومية والاستقلالية. وبالنسبة له، بمجرد أن يتحكم المسرح في أرضه، فانه يستخدمها لكي يمثل الأماكن بعيدة المنال. ويرى أن الكيانات الرمزية للأرض وخشبة المسرح المرتفعة باعتبارهما نقيضين يحددان قطبية السعي المسرحي، حيث يتجه المسرح نحو تحرر أكبر من واقع الأرض، أو يعود إليها بحثا عن الأرض المفقودة، على أمل العثور عليها في دائرة الطقوس أو في غبار المواقع المخصصة للأداء . ويمكن القول ان المسرح في القرن التاسع عشر هو الأقرب إلى التحرر الكامل من الأرض، حيث تم انجازه تقنيا بما يكفي لتحقيق الإيهام المثالي وأي مكان متخيل أو فنتازي بعيد المنال. ثم تبعتها حركة مضادة حتمية في أوائل القرن العشرين، عندما كان المسرح يبحث عن أرضه المفقودة، ويسعى مرة أخرى الى الارتباط بمكان معين بشكل لا ينفصم. وعلى هذا النحو، يمكن رؤية مبنى المسرح باعتباره المكان المادي الذي يحدث الأداء المسرحي على جزء من أرضيته، أو ربما بشكل أدق: باعتباره أساس العالم الخيالي الذي يخلقه. 
 وأهتم بالكيفية التي تناول بها المنظرون والفنانون فكرة “خشبة المسرح كأرض“ لكي تعني حرفيا مكان من أجل الوقوف عليه، وجعله التقاطع الأساسي بين الجسم وبنية العمارة . وتحديدا، أريد أن أوضح، بمساعدة مثالين متباينين كيفية تنظير هذا التقاطع بشكل مختلف. ويتضمن كلا المثالان استحضار للأرض والأقدام، وكلاهما جاءا من النصوص في أوائل القرن العشرين . إذ يصف مارتن بوبر في نصه الذي صدر عام 1913 “مشكلة فراغ خشبة المسرح The Space Problem of the Stage“ خشبة المسرح بأنها الأرض التي لا يمكن مشاركتها، مؤكدا على أنها خاصية أساسية لها حقيقة لدرجة أنه يمكن إزالتها من التجربة اليومية ومن مادية وجود المتفرجين الحاضرين بشكل طبيعي. وفي رأيه أن خشبة المسرح مثل الآخر لا يمكن الوصول إليها برغم حضورها المادي الواضح: 
 ربما تبدأ خشبة المسرح على بعد بضع خطوات أمامنا،  ويمكننا قطع هذه الخطوات القليلة، ولكننا نعلم أننا لـن  ننجز شيئا بهذه الطريقـة . ويمكن لأقدامنا التأكد أنهــا   تخطو على خشبة المسرح . لأن هذا المكان من نــوع  مختلف عنا، لأنه تم ابتكـاره وتحقيقـه من خلال حيـاة ذات كثافة غير كثافة حياتنا، لأن أبعادنا لا تصلح لها .
 وامتلاك هذه المعرفـة كشعـور هو جـوهر التجربــة   الحقيقية للمشهد . 
يؤكد بوبر أنها خاصية اللاواقعية وعدم إمكانية الدخول هي التي تحدد مشهد فضاء خشبة المسرح، وهو تأكيد يضعه بالقرب من خشبة المسرح المرفوعة لإنهاء القطبية المذكورة آنفا . وهذا مثير لأن اقتراب بوبر من أدولف آبيا، الذي يقدم مثالنا الثاني عن اتصال القدمين بالأرض . وقد كان نص بوبر “ مشكلة فراغ خشبة المسرح The Space Problem of the Stage “ مكتوبا لكتاب برنامج عروض آبيا في مستعمرة الفنان في مدينة هيليرو ويقول بوبر انه شارك في التجريب المسرحي الذي يقوم به تحت رعاية آبيا في ذلك الوقت ( دون تحديد شكل هذه المشاركة بالتحديد) . ومع ذلك، كما توضح هذه الطرفة، يبدو أن آبيا نفسه كان مهتما على الأقل بالواقع المادي لفراغ خشبة المسرح ( أي في خصائصه المادية ) مثل اهتمامه بالخاصية غير المادية التي أبرزها بوبر . 
 يحكى أنه عندما كان آبيا تلميذا، وكان فعلا آنذاك فاجنري متعطش (من أشد المعجبين بفاجنر)، استجوب صديقا في مدرسته، كان من حسن حظه أن تم اصطحابه لمشاهدة عرض في فيستسبيلهاوس في بيروث، حول شكل الفراغ في هذا المسرح . فحقيقة أن صديقه لم يستطع أن يتحدث إلا عن الواقع الخيالي المصور على خشبة المسرح، وكأنه رأى فعلا غابات القرون الوسطى والقلاع من الأوبرا، أصابت آبيا بإحباط كبير . وقال كاتب سيرته الذاتية “ كيف أنه كان مشغولا وهو تلميذ في سن الرابعة عشرة بمفهوم الفراغ في المسرح واستمر في الاستشهاد بالقصة التي يرويها آبيا نفسه : 
  أحد أصدقائي في المدرسة الداخلية شاهد مسرح تانهوزر  في ألمانيا ونقل لي معلومات غامضـة عنه . حاولت أن أن ـوقفه واستفسرت عما إذا كانت الشخصيات موجودة بالفعل في المكان وكيف كان يبدو المكان . لم يفهمني .
 وتذكرت أني كنت مصرا، وسألته يائسا في النهايــة “أين كانت أقدامهم؟“. 
وفيما بعد، في عمله الرائد، يخلق آبيا فراغات يتم تقاسمها، حيث توجد أقدام المؤدين والمشاهدين على نفس الأرضية (فراغ شبيه بمقدمة المسرح). إذ لم يسمح لها تركيزه على الواقع المادي لخشبة المسرح وعناصرها السينوغرافية أن تختفي في الخيال، مثلما اختفت خشبة مسرح فاجنر أمام زميله في المدرسة. وليس من قبيل المصادفة أن آبيا عبر عن اهتمامه بالجانبين المادي والبدني لفراغ خشبة المسرح باستدعاء أرضية خشبة المسرح . 
 غالبا يعي الفنانون والمؤدون بحدة أهمية الأرضية في تأسيس ممارسة أو أداء. فمثلا يتحدث المخرج المسرحي مايك الفريدز عنها كنقطة تقاطع قوية بين الممثل وخشبة المسرح، كمجال للحركة، وكموقع يتم فيه اختبار الجاذبية بشكل ملموس. وبالتالي يصر على أن أرضية خشبة المسرح هي نقطة البداية لأي حل تصميمي أو تخطيطي: «أهم جزء في اعداد المشهد هو الأرضية . فالأرضية تخلق مساحة دينامية سوف يتم أداء الحركات عليها. والتركيز على الحوائط ( مثلما تفعل أكثر الصور المنعكسة ) تخلق فقط ديكور سطحي». هذا الفهم لأرضية خشبة المسرح كمجال دينامي تُدرج فيه المسارات والتوجهات نفسها وتصبح مرئية للجمهور. ومن الملائم في سياق الرقص بوجه خاص، كما تؤكد مصممة الرقصات آما تريزا دو كيرسماكر: «في المستقبل أعتقد أننا سوف نصنع أرضيات. فهي، مع الصمت، لا تزال شريك الأول». 
....................................................................................
- ليزا ماري بوللر تعمل أستاذا للمسرح بجامعة ميونخ 
- هذه المقالة هي الفصل الأول من كتابها «theater architecture as embodied space» 2015. 
 


ترجمة أحمد عبد الفتاح