مسرح اللاجئين الميلودراما وفقدان الحداثة (2-2)

مسرح اللاجئين  الميلودراما وفقدان الحداثة (2-2)

العدد 754 صدر بتاريخ 7فبراير2022

 إن تحديد طبيعة هذا التأثير، بمجرد أن ندرك أهداف وضرورات تأكيدات الميلودراما المبكرة والمثيرة وعلاقتها الوثيقة بحساسية الجمهور المعاصر المؤلمة، ليس بالأمر الصعب، لكنه يعتمد بشكل حاسم علي اعتراف ما بالطريقة المحددة التي تعرفنا من خلالها علي إغراءات النوع العاطفية والمثيرة في تقنية جمالية متماسكة . وربما الصورة الأجدر بالملاحظة لهذا التطور الشكلي المبكر، والتي أشارت إليه مسرحيات بكسيريكورت المبكرة رغم أنها ظاهرة بوضوح في مسرحية هولكروفت وتطورت بقوة علي مسارح لندن، هو التجريد السريع لتشكيل الثورة التاريخي للفعل - وهو مسار خاص ومحاصر للأزمات – في سلسلة جمالية منهجية تسترشد بمنطق متتابع لتكثيف وتسريع الصدمة المؤلمة . وقد أسفر هذا التجريد عن نمط دينامي، قابل للامتداد بلا حدود، وقابل للضغط والتمدد الكبير، وقابل للتكيف مع سرديات وسياقات أكثر تنوعا وتنظيما، ورغم بدت في وقت مبكر، من خلال ما وصفته كارولين ويليامز Carolyn Williams، في مناقشة الميلودراما الفيكتورية، بأنها حركة متذبذبة بين اللحظات الاستيعابية والانطوائية والتطابق العاطفي والمشاهد المذهلة المنبثقة عن العنف الصادم . 
 وقد بلغ تطور هذه النزعة الجمالية التي يمكن فهمها علي أنها علامة أساسية للطابع الشكلي الحديث للميلودراما، التي وصلت إلى لحظتها المحتملة ذات الكثافة الأكبر في عشرينيات القرن الثامن عشر عندما اقترب هذا النوع من الحياة الأسرية والشعبية ووصل تأثيره وبنائه إلى إيقاعات وسرعة العالم الصناعي المدني. ورغم ذلك، يتضح ظهورها قبل ذلك بكثير، في تكوين السرد الأساسي للميلودراما والتقاليد المسرحية، من اعتمادها السريع السائد علي اللوحات المذهلة للمجتمع المثالي والأفعال الأولية للعنف المقتحم، وخضوعها النموذجي الفوري المتسارع، والتبادل الإيقاعي بين مشاهد الانهيار والاستعادة، والهروب واللجوء، والرعب والكوميديا، وفقدان المنفي والعدالة التصالحية. ويتضح تكوينها أيضا في التطور المبكر للشخصية الميلودرامية، ولاسيما ذات الطابع الشرير، حيث يؤدي تقديم أنواع الشخصيات النموذجية اجتماعيا ولكنها مشحونة مرجعيا، ومجازيا بشكل أكبر من شحنها رمزيا، إلى إنشاء شخصيات مجردة ومستقطبة ومكثفة ومتعاطفة وكارهة – الشخصيات التي تحمل مجموعة متنوعة من المحفزات العاطفية لردود الفعل هذه. فقد كانت هذه التطورات التحويلية مدفوعة ومحددة بشكل تدريجي من خلال الأعمال الإبداعية الفردية، علي الرغم من عدم وجود تاريخ رسمي مناسب للميلودراما المبكرة، فلم يتطلب الأمر سوى إلقاء نظرة علي تاريخ المسرح لتحديد بعض المسرحيات والعروض الأكثر تأثيرا وإبداعا. ففي هذه المسرحيات والعروض نجد رغم ذلك تاريخا لا يزال غير مميز لدمج الميلودراما التدريجي للفعل الدرامي وتطور طاقاته من أجل الصدمة الضاغطة والعرض المستوعب المكثف، علي نحو متزايد القوة، والاستغلال المنهجي للحالات العاطفية غير المستقرة التي قدمتها هذه التقنيات . وأحد هذه الأعمال هي مسرحية ويليام باريمور William Barrymore «فارس الدم الأحمر» عام 1810، والتي تقدم مثالا طيبا لما تم انجازه في هذه المجالات في أول عقد كامل لازدهار الميلودراما . 
مسرحية ويليام باريمور « الفارس الأحمر» 
أول ميلودراما رائعة لمسرح أستلي للفروسية، هي مسرحية باريمور التي استمرت لمدة 175 ليلة بشكل غير مسبوق، وحققت لمنتجيها في العرض الأول ثمانية عشرة ألف جنيه.
 وقد كان من المتنبأ به أن تكون تقليدية، بحبكة مستمدة بأجزاء متساوية من مسرحية شيللر «اللصوص Die Rauber» ومسرحية شكسبير «مكيال بمكيال Measure for Measure» في إطار مقتبس لكي تركز الميلودراما علي الحياة الأسرية المنهارة والأخطار الرومانسية، وتحكي قصة جهود السير رولاند الشريرة لفرض نفسه علي السيدة إيزابيلا زوجة أخيه الأكبر الدوق ألفونسو الذي كان مسافرا في حملة صليبية (وقد عاد الآن متنكرا). وعلي الرغم من أجواء القلق التي سادت إنتاج مسرحية «فارس الدم الأحمر»، فقد كانت مليئة بالحيوية – في ذروة صعود بونابرت، عندما لم تكن المخاوف من الغزو الفرنسي والتخيلات وعنف الفوضى الشعبية نشيطين فحسب، بل كانا شديدين، بالتالي كانت لحظة المخاوف والأوهام من الاستيلاء غير الشرعي والزواج القسري والاغتصاب في غياب الأزواج والآباء، من بين جميع الجنود والرجال المرعبين، حقيقية تماما – أكثر من مجرد نجاح مدوي. وكان أيضا من الواضح جدا أنه عمل شكلي ومسرحي قوي، استغل الإمكانيات المذهلة لمسرح أستلي لإنتاج دراما مثيرة ذات قوة وسرعة وشدة غير مسبوقين – بطريقة تتوافق بشكل واضح مع تطور تلك الحرب المذهلة. وبإعادة إحيائها وتذكرها في النصف قرن التالي، وبعد فترة من استدعائها باعتبارها لحظة افتتاحية لأجمل أيام ازدهار مسرح أستلي الشعبي، ظل هذا العمل لعقود من الزمن مثالا لأدراك الميلودراما المبكر لقدرة الشكل الهائلة علي تحقيق المتعة والإثارة . وفي عام 1830، قدم جورج دانيال (George Daniel) طبعة كمبرلاند من مسرحية ميلنر H.M. Milner «ماسانيلو Masaniello» وهي ميلودراما ذات طابع مميز، مثلت خروجا صارما عن فترة تطور النموذج الأولى، من خلال التذكير بالحنين الواضح لأيام الشباب عندما توفي عدد من الجمهور المتحمس في مسرح أستلي في ليلة طويلة مليئة بالحيوية وتركوا فجوة في عرض «فارس الدم الأحمر» . 
 لم يكن صعبا توقع المنهج الدرامي الذي قدم ردود الأفعال هذه، لأن مسرحية باريمور هي من عدة نواح عمل درامي صارم ومتطرف، وقد تم تحريك آليات قوته بكاملها منذ البداية. يرتفع الستار ليكشف واد خشبي صغير، وبداخله لوحة للشوق الرعوي تناسب عصرها، تجلس الأم علي مقعد ريفي تحت شجرة بلوط ذابلة، وأكاليل الحزن تلف رأس ابنها. بجانبهما خادمة شابة غارقة في خطاب غرامي قوي. «عهد الحب الحلو»، تندب الأم للصبي في السطر الافتتاحي، «اقبل قبلة الأم! للأسف هذا كل ما تبقي لتمنحه». في الوسائط المتطرفة، يمكننا أن نقول، وصورة الجذب التي يرثى لها مع جاذبية واضحة للمشاهدين المهددين بالغزو، وقد خرج رجالهم للحرب ولكن الصورة حطمت اللحظة التالية أيضا من خلال التنبيه، واقتحام أقصى خوف متخيل في الواقع: «اضغ !»، الأم تبكي «ما معنى هذه الأصوات القتالية؟ البعيدة يا عزيزتي ايما ودعني أعرف أسوأ قرارات القدر». 
 عودة ايما سريعة تقريبا، مدفوعة بالذعر والتسرع: «بعيدا .. بعيدا يا سيدتي العزيزة – الأمان ليس هنا». يظهر بعيدا في أعلي التلال مجموعة جياد. تتناول مسرحية «الفارس الأحمر» تراجعنا ! يتشتت انتباه الأم من هذا الذكاء، فتخطف طفلها إلى حضنها، وتندفع تتبعها ايما، يلي هذا التراجع السريع ظهور مجموعة من الجنود علي الجياد وعلي أرجلهم، مع وصول مفاجئ علي خشبة المسرح لحشد كبير من الفلاحين المذعورين عند مدخل الحدود في مجموعات مسلسلة. وبينما تتصاعد الموسيقى، يحتشد الفلاحون في الكواليس بينما تتجمع القوات خلفهم ويندفع الشرير العظيم السير رولاند وهو يرتدي ملابس حمراء بالكامل عبر الجبال علي ظهر حصانه، ويقترب فجأة ويحتل وسط خشبة المسرح بينما يرفع الفلاحون أصواتهم بترنيمة الولاء الرهيب لشهرته وقدرته. وفي اللحظة التي حددها للمطاردة مع ألف علامة لأولئك الذين يجدون السيدة ايزابيلا وابنها ويعيدونها مع ابنها، ومع أنهم يشعرون بالظلم، إلا أنهم سرعان ما يطيعون، ويغنون مع الجوقة أثناء المغادرة : « لأن هذا أمر السير رولاند العظيم / فمن يجرؤ أن يقول لا « . 
 المشهد مميز في ذاته لسرعته الشديدة وقوته، فهو يتحرك في بضعة لحظات من الاستنباط الاستيعابي للانعكاسات والمشاعر والقلق إلى إدراك مذهل ثم صادم في فعل مذهل للكابوس والأفكار نصف المدروسة. قد يبدو لنا هذا تطورا مبتذلا، ومع ذلك، يجب أن يحمل في نظر الجمهور قوة رنانة بعمق واستحضر أفكارا حقيقية جدا عن حاضرهم ومستقبلهم . 
وغم ذلك فان التوحيد الجذري للفعل هو مجرد بداية لتسلسل طويل من ثلاثة مشهد يكرر دينامية التأرجح السريع للأول ويضاعفها : في المشهد الثاني «في غابة كثيفة» نجد إيزابيلا تحمل تمسك ابنها مرة أخرى في لوحة رعوية آسرة (وإن كانت بدائية) وهي الآن ليست في حالة حزن وحب، ولكنها في يأس محموم ومشتتة، وهي تبكي «أيا ولدي» . «إلى أين نطير؟» يطمئنه الطفل، فعقله البريء مازال رائقا، وقد أصبح صوته الآن أكثر تأثرا بالخوف المثير للشفقة «داخل الكهف يا أمي حيث لن يفكر عمي القاسي أن يبحث فيه». وفي أعقاب كلماته، تدخل أيما مرة أخرى في حالة انزعاج، ولكن من تهديد أقرب بكثير وغي مرئي: «ابتعدي يا سيدتي العزيزة ! نحن مطاردون – اصغ أسمع خطا – ابتعدي .. ابتعدي!». وفي لحظة يبدأ المشهد الثالث في الكهف مع لوحة أخرى طبيعية وأكثر بدائية لازابيلا وابنها، جالسين في المنتصف يملؤهما الرعب لدرجة انهما «لا يستطيعان التماسك». وعلي جزء جانبي من الصخرة، هناك نقش يشير إلى محنتهما مقدما: «في هذا الانسحاب البائس سعت زوجة ألفونسو وطفله إلى ملاذ من محاكمة الفارس الأحمر. الآن تدفع الأم طفلها إلى صدرها في فزع وعجز «تغطي وجهه بالدموع» و«ويبدو الطفل مثيرا للشفقة في وجهها»، ويعزيها بسذاجة: «لا تبكي يا أمي العزيزة! فان السماء لن تدع عمي يؤذينا. فتجيبه «الجميل البرئ»، «هناك أملنا الوحيد. قوة الله تعالى! الذي يعرف أمنيتنا، سوف يهبني رؤية ألفونسو ثانية!». 
 لا بد أن الرصاصة التي أنهت المسرحية قد هزت الجمهور بشكل ما لكي يعودوا إلى حاضرهم، لأن البندقية بين السيوف تجعل الفرسان يبدون وكأنهم حلم، ولكن لا بد أنها اكتسبت قوة نتيجة لذلك، لأن تضميناتها أكثر من تحد مزعج . فمن بين العناصر البارزة في هذه البنية، التي يمكن أن تصل إلى تشخيص أكثر الأعمال إثارة في هذا النوع، هي بالتالي تعزيز الفكر والرعب. ففي مفارقة حادة مع الإطار الأخلاقي التعويضي الذي تتسم به مسرحية بكسيريكورت، فان الحدث الدرامي في مسرحية باريمور يقدم العالم الذي تكون فيه الفضيلة محمية بالاستخدام الحاسم لقوة القتل – حيث يتم ضمان سلامة الوطن من خلال أعمال الحرب المستمرة، من أجل فهم شروط اللحظة السياقية للمسرحية . وهذه النقلة، التي تميز بالشروط الصارخة اقتباس الميلودراما من منظور نوع تعليمي محافظ من الاستعادة الاجتماعية في المقام الأول، إلى نوع متشدد ومثير للسلطة الإمبريالية، يمكن أن تفتح الباب لعقود من الشوفونية وأعمال كره الأجانب، وكلها تحث علي مخاوف مماثلة من عالم الحب الثنائي، والنظام المحاصر والمهدد بالكراهية والقسوة والفوضى غير المنطقية . 
التكييف العاطفي: 
 ربما يكون الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في هذه البنية الجمالية المتذبذبة، مع ذلك، ليس سيكولوجيتها الدينامية الضمنية التي فرضتها، ولا البنية المستقطبة للحدث والنضال، ولكن الدينامية النفسية التي فرضتها وعززتها وأنتجتها – وهي عملية انغماس عاطفي وتباعد غير مستقرة يدعو بالتناوب إلى الارتباط الودي الذي يحفز الرفض الدفاعي والانسحاب. فكما توضح مسرحية باريمور، يتحقق التكثيف العاطفي ومؤثرات الصدمة – أي، السرعة والقوة التي تُقدم من خلالها – ولكن الدرجة التي تستطيع المسرحية أن تستدعي حركة البندول من جانب إلى آخر، من الانغماس الاستيعابي إلي التنصل من الخوف . وبمصطلحات نفسية أدق، فان ما نجده هو الجمالية التي تستدعي تبادلا مكثفا ومركزا بين ما وصفته تريزا برينان بأنه انتقال الأثر السلبي والإيجابي – فالأول يستتبع التوقع الاستيعابي السلبي لنماذج الطيبة المثالية أو الحب، والأخير يستتبع التبني الدفاعي للعواطف العدائية أو المتناقضة والأحكام، والاستئثار وكبت المشاعر العاطفية باعتبارها مؤثرات سلبية مثل الكراهية أو الخوف منعكسة أو ملقاة إلى الخارج، بسهولة علي آخرين، من خلال الفعل الغاضب وغالبا العنف – ينتج تكرار الكل تأثيرا قويا من التسلية، أو موائمة استجابة الجمهور العاطفية والمثيرة. 
 هذه القراءة تقلب كثيرا من الافتراضات التقليدية للميلودراما رأسا علي عقب. وربما الأكثر وضوحا، أنها توحي بأن مفاهيم الميلودراما –التي ما زالت شائعة اليوم– باعتبار أنها زائفة عاطفيا، وأنها دراما غير واقعية، مليئة بالشخصيات التي تفتقر إلى الاهتمام النفسي، وتتميز بأنها تقاليد مبتذلة ومضحكة، ولا يصدقها سوى السذج وتمثل خطأ فادحا في الفهم. بل علي العكس من ذلك، يبدو في هذا الضوء أقرب إلى التعبيرية الحسية، إنها دراما مؤلمة عاطفيا وحاسمة نفسيا، ومبنية وفقا للتقاليد التي تتطابق مع الأنماط المستقرة للاستجابة المؤثرة، وتساعد علي ابتكارها وتعزيزها، وذات مصداقية بالنسبة لأولئك الذين كانت تجارب العنف والتفكك أكثر استدامة. وقد كان إيريك بنتلي ومايكل بوث علي صواب في وصفهما للشكل بأنه «النزعة الطبيعية لحياة الحلم»، ولكن توصيفهما اخطأ التمييز باقتراحهما أن عالم حلم الميلودراما هو العالم الأفضل الذي يقدم العزاء أو الإيمان التعويضي ورعاية الرؤى أو استعادة المجتمع الأخلاقي لمن وقعوا ضحية الواقع العدائي الحديث. بل بالعكس، كما لاحظ عدد من النقاد بحلول عام1830، أن الإطار الأخلاقي للميلودراما الذي بدا أنه أكثر عناصر الشكل زيفا، وسادت ادعاءاته في وقت مبكر وطغي عليها ميل هذا النوع لتقديم رؤية كابوسية لعالم يتسم بالسلبية العاجزة والخسارة الكارثية ضد العنف، التي يتم التلاعب بها بشكل أكثر فعالية من جانب أولئك الذين يتجاهلون الاعتماد علي المجتمع في السعي الدؤوب لأنانية الربح . فإذا بدا أن البنية الأخلاقية تقدم رؤية مواساة، فان بنيتها العاطفية تعزز بدلا من ذلك المنظور المضاد، وتشجع وتعزز العمليات الطفولية للانسحاب الدفاعي، وإسقاط العنف، وتخفيف القدرة علي تشكيل العلاقات العاطفية الحميمة في مواقف أقل تكلفة، وتقوي مشاعر الاغتراب الشرعية الإيذاء، وتبديل استهلاك الوهم الحسي السلبي من أجل أداء أكثر تعقيدا والأداء الذي يتطلب تحديد الهوية واعمل الجماعي . 
تشبث الميلودراما بالوعي الجماهيري 
 تقلب هذه القراءة أيضا المفاهيم التقليدية للتاريخ الشكلي والاجتماعي لهذا النوع، حيث يُنظر إلى التطور المتتالي للميلودراما، القوطية والرومانسية والأسرية والاجتماعية والنفسية والإثارة السينمائية، علي أنه تحرك تدريجي نحو الواقعية حيث تضعف قبضة الشخصية الخيالية في هذا النوع علي العقل الشعبي . وإذا تناولنا بجدية المفهوم الذي يرى أن الميلودراما توظف باعتبارها شكلا تعليميا للتكييف المؤثر، وإنتاجه واستهلاكه التدريجي في تشكيل حساسيات وعواطف جمهورها، فمن الممكن أن يُرى هذا المسار العام بدلا من ذلك باعتباره تكثيف تدريجي ودعم تدريجي لقبضة الميلودراما علي انتشارها العميق والواسع في وعي الجماهير. وبدلا من الإشارة إلى تحول أكبر نحو الواقعية، فقد يُنظر إلى ظهور الميلودراما الأسرية بأنها تغلغل الشكل في عالم أقرب إلى الحياة اليومية والعلاقات بين الشخصية، والميلودراما النفسية كاستيعاب بنيتها الداخلية لمفهومي الهوية الشخصية والخاصة، والميلودراما السينمائية كانعكاس لهيمنة الشكل وصيغ التخوف الإدراكي في نهاية القرن العشرين. 
 بدلا من اقتراح فك التشابك التدريجي عن الميلودراما، فان هذا الرأي يعني ضمنا التخلي عن أجزاء أكبر من الخيال لتأثيره، حيث يصبح تأثير تكييفه الفعال راسخا بشكل متزايد، وتصبح الحاجة إلى التأثيرات المثيرة مستمرة، وأكثر داخلية، وارتباطا بالتجديد اللحظي للتجربة الحية . وفضلا عن اقتراح إضعاف النوع بمرور الوقت، يشير هذا الرأي إلى دمج الميلودراما في الوعي، مع التمثيل الميلودرامي التدريجي للواقع النفسي والاجتماعي حيث يصبح العاطفي شكلا معياريا للشعور والفكر . ومع وضع هذا الرأي في الاعتبار، فمن الصعب أن نتجنب استنتاج أن التاريخ الطويل للإهمال النقدي للميلودراما، وبمعنى آخر فان تكوين المفهوم الرومانسي للثقافة الأدبية التي أبعدت الميلودراما من الاعتبارات النقدية الشرعية، يرجع إلى عدم القدرة علي فهم تأثير الشكل بشكل أقل من عدم الرغبة المخيف، فضلا عن عدم الرغبة في الإغراء لأدراك الاعتماد المتزايد، للاعتراف بمدى المشكلة. ومن المفارقات، أن الدليل علي هذه مثل هذه النتيجة ربما يكون أكثر وضوحا مباشرة في سلاسل تقييم الميلودراما النقدي الحديث: جهود روبرت هيلمان وايريك بنتلي لتقديم الميلودراما ليس فقط كنمط مركزي للوعي الحديث، بل كنمط درامي جوهري، نسخة من التجربة الخالدة، وبالتالي تدل علي وجودها العضوي الطبيعي في الثقافة والفكر. 
 كانت وجهة نظري هنا جدلية بشكل متعمد، ولكن لا يجب اعتبارها اتهام و حجة لتبني الازدراء التقليدي أو تجاهل هذا النوع مرة أخرى. بل علي العكس، إنها جهد لاقتراح ضرورة استفسار الأسلوب المنتشر الذي شكلت من خلاله الميلودراما الثقافة الحديثة. وفي هذا الصدد، فانه أيضا جهدا لزعزعة مجال الدراما الحديثة. لأنه علي الرغم من الاهتمام بالزيادة الكبيرة في الاهتمام بالميلودراما، إلا أنها تظل شكلا موجود علي هامش مجال الدراما، ويسجل بالكاد في الجهود المبذولة لفهم تاريخ الدراما الحديثة. ورغم ذلك، استمرت الدراما تنظر إلى إبسن والواقعية أو بوشنر والطليعة باعتبارهما التقاليد باعتبارها تقاليدها الأصلية، وبالتالي تحدد الدراما الحديثة بأنه ليست الميودراما. وبالتأكيد من هذه الملامح الواقعية الطليعية تطورت الدراما في القرن العشرين، ولكن لم يكن أي معيار لهذه التقاليد أي تأثير علي الثقافة الحديثة أكثر من الميلودراما التي حاولوا وحاولنا الهروب منها، وباستمرارية تعريف المجال وفقا لهذه المصطلحات، فإننا فعلنا شيئا أكثر من مجرد تشويه تاريخ الدراما الحديثة: فقد شوهنا – ويمكنني أن أجادل، بأننا تبرأنا وأنكرنا – الدور الذي لعبته الدراما في الحداثة . 
.....................................................................................
• نشرت هذه المقالة في theater journal 61 (2009) 175-190 by the Johns Hopkins University Press
• مايو باكلي يعمل أستاذا بقسم اللغة الانجليزية بجامعة روتجرز بالولايات المتحدة الأمريكية . من أبرز كتبه : «التراجيديا تسير في الشوارع: الثورة الفرنسية وظهور الدراما الحديثة». 


ترجمة أحمد عبد الفتاح