المسرح: الصور والأشياء .. «مقاربة أولى»

المسرح: الصور والأشياء .. «مقاربة أولى»

العدد 581 صدر بتاريخ 15أكتوبر2018

فى مستهلِّ كتابه “حياة الصورة وموتها”، يشير “ريجس دوبريه” إلى إمبراطور صينى جافاه النوم بسبب خرير المياة المنسالة من شلال مرسوم فى لوحة جدارية، فطلب من كبير الرسامين فى قصره محو الشلال المرسوم فى الصورة كى يستطيع النوم.
ويشير المفكر الفرنسى إلى نصيحة طبية أخرى لأحد كبار معمارىِّ النهضة الغربية، وهى تُماثل فى جوهرها حكاية أرق الإمبراطور، حيث ينصح المصابين بالحمّى بتأمل رسوم تُمثل المنابع والأنهار والشلالات، فلذلك تأثير متقدم على الأجسام المعتلة، فإذا ما أصاب الأرق أحدا ما فليتأمل ينابيع الماء، فسيصبح النوم يسيرا عليه، هذه المقولة أو النصيحة آتية هذه المرة - كما هو واضح - من الثقافة الغربية ذاتها، لا من مثال ثقافى وجغرافى ناء ومختلف.
الحكاية الأولى تعنى إيمان الإنسان القديم بالصورة بحيث كان يستطيع سماعها، وتعنى انتقال صوت الماء المرسوم من الصورة إلى المعيش واليومىّ، فالماء المصوَّر الذى كان يزعج الصينى هو ذاته الذى يهدئ الغربىّ، وفى المثالين معا حضور يخترق التمثيل.
إن الصورة، هنا، تشتغل بوصفها سلطة فعلية، فرطوبة الماء الذى يتأمله المشاهد تمرّ إلى جسده، وصوت الشلال المنقوش يفضّ سكون الليل الملكىّ، والرائى يتماهى، متوحدا، عبر البصر مع المرئيات خارج الفضاءات الطقوسية وكل الروابط السرية المقدسة .
هذا الانتقال الذى يجعل الصورة مؤسسة لواقع، ويعطيها وجودا مركزيا تصدر عنه شخصيات ومصائر وتحولات، نقيضا للتصور الشائع الذى يجعل الواقع مصدرا للصورة ومهيمنا عليها، هذا الانتقال ذاته هو ما يمكن أن يكون مدخلا ملائما فى تصورى لقراءة المسرح خاصة فى تحولاته الراهنة، بكل ما يتحرك على خشباته ويموج من شخصيات وإشارات وصور وعلاقات ورموز0لأنه ـ أى المسرح ـ أكد مبكرا سلطة الصورة لا سلطة الواقع كما كان متواترا وشائعا، ونقض فكرة المرجع، سواء كان ذاتا أو واقعا أو تاريخا، ونقض كذلك مبدأ التماثل أو المحاكاة، فلا يمكن أن ندرسه باعتباره محاكاة لنموذج مستقل عنه، أو علامة على شىء يتجاوزه، وذلك لأنه سعى، جوهريا، إلى تأكيد صوره ورموزه وإشاراته بوصفها فاعلية لا بنية مغلقة، مجردة، مكتفية بذاتها، وإلى تأكيد الوقائع كسياقات اجتماعية ومعرفية لا كمصدر قبلى أو إطار سببى للعرض، وهذا يعنى أن المفاهيم الأساسية ليست هى فقط التى التقط المسرح تغيرها، وإنما المرجعيات التى تستند إليها أيضا.
ولتفصيل جزئىّ لتلك النقطة التى أراها أساسية، وأعنى خروج المسرح الآن عن السياق الثقافى وكسره المرجعيات الفنية والنقدية المرجعية أو التى استمرت كذلك طويلا وعميقا، فإننى أود الإشارة إلى عدد من الأنساق المهيمنة التى طالما هيمنت على صناعة المسرح وصاغت تجربته وسياقاته المتعددة، وكيفية خروج المسرح الآن عنها .
من تلك الأنساق بناء العمل الفنى عبر التتابع الزمنى والتعاقب البصرى للسرد والحوارات والمشاهد، وانتظام ذلك فى وحدة عضوية وعلاقات منصهرة متكتلة، حيث كانت الجماليات النابعة من مفهوم الوحدة والخيال الانصهارى تشكل جوهر التصور لا إلى طبيعة العمل الإبداعى فحسب، بل وظيفته أيضا.
وحين نتأمل الكتابات النقدية المصاحبة لعروض المسرح ومواسمه فى مراحل متعددة، نكتشف أن مفهوم الوحدة بصيغه المختلفة – كما يرى كمال أبو ديب - كان من بين المرتكزات النقدية الأساسية، فقد شغل المفهوم مكانة مركزية تماما تجلت فى سعى جيل كامل من المبدعين إلى إنتاج أعمال فنية تمتلك وحدة عميقة، غير أن أحدا لم يتساءل عن مشروعية الجماليات النابعة من مقولة الوحدة أو يكشف طبيعتها التاريخية، وبالتالى نسبية القيمة ومفهومها المتضمنين فيها والمشتقين منها.
لقد دخلت مقولة الوحدة الثقافة العربية وكأنها مطلق تصورى ونقدى، واستمرت هكذا على مدار عقود متصلة، غير أن المسرح ابتداءً من التسعينيات وما تلاها جاء نقيضا لمفهوم الوحدة وإطارها التصورى، فلم يجسد جماليات الانصهار والوحدة، بل جسد جمالية مغايرة قائمة على التجاور، متمثلا نمطا من التناول الفنى يحل العين محلّ الأنا، ويعتبر اللقطة البصرية تكوينا جماليا مكتفيا بذاته فى غِنىً عن استدخال الذات المحللة أو المعلقة أو المنفعلة.
ففى العرض، وبشكل مجمل، تعبر جماليات التجاور عن نفسها فى تجليات متنوعة متضاربة يجمعها أمر ناظم واحد هو تعدد المشاهد وتراكمها فى فضاء لا تشكله بنية متكاملة موحدة كما كانت البنية فى عروض الستينيات كمثال استدلالى لا أكثر، هذا التحول ليس عارضا أو عابرا، وذلك لأن حلول العين محلّ الأنا رافقه انحسار لجماليات الانفعال والإيهام والتوحد، لأن هذا الحلول يمثل انعداما لامتلاك العالم، بتعبيرات أخرى، يمكن أن نقول إن تحولا جذريا قد طرأ على العرض المسرحى هنا يتمثل فى الانتقال من الرؤية التى تتسم بالحدية والحس المأساوى إلى الرؤية الضدية المفارقة، المتهكمة والجارحة.
ويرتبط ذلك بانهيار فكرة المركز، حيث لم يعد للعمل مركز أو بؤرة يفيض عنها، بل تشكلت بنيته عبر التنوع والتناثر وتعدد الأنماط، إن الوحدة انهارت، ومعها انهارت الذات، ومرجعيتها الاجتماعية والمعرفية.
وهكذا يشكل المسرح فى تصورى تحولا جوهريا من الذات إلى العالم، من الذهن إلى الأشياء، من المجرد إلى المادىّ، ومن النمط إلى المفرد المتعين، فى سياق يكسر التتابع الزمنى للحدث والبنية والسياق، وينقض مبدأ الوحدة العضوية والمركز والمرجعيات، ويحيل جماليات الانصهار والتكتل إلى جماليات التجاور، ويكسر المعنى الأحادى للمشهد عبر إشاعة تكوينات مختلفة، بصريا ودلاليا، داخل تكويناته وإحالاته.
وربما لهذا البعد الانتقالى فى تجربة المسرح الراهنة، تلك التى تؤسس جماليات مغايرة ونقيضه، ليس فقط فى المفاهيم، وإنما فى المرجعيات المعرفية والاجتماعية التى تستند إليها، كما سبقت الإشارة، ربما لهذا خيم مناخ من النسيان على علاماته الفارقة وعروضه المحورية، سوى ومضات إدراك واستبصارات نقدية تتجمع الآن كاشفة عن نسق التحولات التى أحدثها المسرح، فى عملية هى أقرب إلى التأسيس لا إلى الاستعادة، ومساءلة السياق الذى همش هذه النتاجات لا إلى إعادة اكتشافها فقط، وهو ما جعل الكتابات النقدية الآن فى بعض تجسداتها وكأنها فعل اكتشاف لا آلية تحليل وسؤال منهجى. لقد صاغت تجربة المسرح خاصة فى العقود الثلاثة الأخيرة تصورا مغايرا لبناء الصور والعلامات والجسد باعتبارها تمثلات ذات، وليس باعتبارها تمثل وجودا موضوعيا،خارجيا ومنفصلاعن الذات المدركة، وهو ما يشكل، فيما أرى، واحدة من تحولات المسرح الجذرية، وهنا أشير فقط كمثال استدلالى إلى تجربة سعد الله ونوس فيما يخص كتابة النص، وذلك لأن تلك التجربة، في تصورى، هي الأكثر تمثيلا للحداثة المسرحية، وذلك من منظور محدد وصورة معينة، المنظور هو الانتقال من كتابة الجماعة التى شكلت نصوصه الأولى “ حفلة سمر من أجل خمسة حزيران، الفيل يا ملك الزمان، والملك هو الملك .. وغيرها “ إلي كتابة الذات الفردية التى شكلت تجاربه الأخيرة “ ملحمة السراب، الأيام المخمورة، طقوس الإشارات والتحولات “ أما الصورة، فهى صورة الذوبان والتبدد، تلك التى أشار إليها “ مارشال بيرمان“ فى كتابه الكاشف “حداثة التخلف” مستعيرا إياها من إحدى فقرات البيان الشيوعى، تلك التى يجسد فيها ماركس واحدة من أعمق صور الحداثة وأكثرها امتداداً وكثافة. هذه الصورة هى الدراما المركزية للحداثة، بمداها الكونى وجلال رؤيتها، بقوتها المكثفة، تلميحاتها الكارثية الغامضة، هذه الصفات كلها صفات مميزة لخيال الحداثة، إنها من النوع الذى نعثر عليه عند رامبو أو نيتشه، الأشياء تتهاوى، المركز لم يعد صامداً، المقدس ينقلب إلي دنس، ويضطر الناس أخيرا لأن يواجهوا ظروف حياتهم وعلاقاتهم مع غيرهم من الناس بعقول متزنة، دون أوهام، وإذا تابعنا صورة التحول – الذوبان الحداثية هذه فسوف نجدها فى أعمال وعروض متعددة، خاصة في الثلاثين عاما الأخيرة،أكتفى الآن بالإشارة المجملة إليها مؤجلا استقصاءها التفصيلى إلى كتابة لاحقة.


محمود نسيم