العدد 627 صدر بتاريخ 2سبتمبر2019
لعل أحد الكلمات الحاسمة التي ستبقي طويلا في مفردات كل من المسرح العملي ونظرية المسرح , رغم أنها في حالة غير مدروسة نوعا ما , هي كلمة “التقاليد convention” . فمن وجهة النظر الاجتماعية عند اليزابيث بارنز فقد ولّد المجاز المسرحي تقاليد عملت كاتفاقات تأسيسية للمعرفة . ومع ذلك , فان هذا المجاز بالنسبة لها أيضا “صيغة إدراك Mode of perception” , وهو تصنيف ظاهراتي مثل تلك التصنيفات التي وصفها ارنست كاسيرر Ernest Cassirer أو سوزان لانجر Susanne Langer , والذي يقدم المفاهيم الاجتماعية التي تصنع المسرح – أو أي أشكال مصاحبة – وأي نزعة مسرحانية مناظرة في بيئات أخرى – محتملة . فالمسرح عند بارنز اذن , ليس نوعا من المعرفة بل هو نظرة علي المعرفة , التي تنشأ في تقاليد مقارنة الفلسفة الأخرى .
ولم تساعد نظرية المسرحانية التقليدية فقط في بناء علم اجتماع الفن الدرامي الأمريكي , كما في أعمال ايرفنج جوفمان Erving Goffman , وريموند كوهين Raymond Cohen , بل أيضا عدد آخر , المزيد من أنواع الخطاب الموجه فنيا . ولذلك مثلا , تقدم فكرة المسرحانية التقليدية منطلقا للجدال حول التلقي ومصداقية فن الرسم لمؤرخي الفن مثل سيفيتلانا ألبيرز Svetlana Alpers ومايكل فريد Micheal Fried . وفي اطار النقد الأدبي الماركسي ترقي المسرحانية الى تخيل التاريخ الذي يفهم من الخارج , أو سابق منطقيا علي الفكر , عند نقاد مثل تيري ايجلتون Terry Eagleton . والتوازي الذي أتبعه , يمكن رسمه كالتالي :
التاريخ/ الفكر – النص الدرامي – العرض الدرامي
التاريخ – الفكر – النص الأدبي
بمعنى أن النص الأدبي ينتج فكرا (هو نفسه انتاج) بطريقة مناظرة لعمليات الانتاج الدرامي علي النص الدرامي . ومثل علاقة الانتاج الدرامي بنصه , فانه يكشف عمليات النص الداخلية لعالمه في ظل شكل تأسيسها , فعلاقة النص بالفكر تشكل اذن ذلك الفكر الذي يكشف عن شيء من علاقته بالتاريخ .
وحضور مثل هذا المفهوم المناظر للتقاليد ربما يكون الأكثر انتشارا في كل الفكر البنيوي المنسوب الي سوسير , الذي تؤدي فيه تعسفية العلامة الي افتراض أن العلامات غير المحفزة , والمحفزة بشكل ضعيف , هي نتيجة لذلك صور لبنية اصطلاحية للغة التي يتم تداولها تاريخيا . وفي أشكاله الأكثر تطرفا , يؤدي موقف قابلية التداول التقاليد الي سرد متناقض بشكل يائس عن الفعل الانساني والحكم, مثل صيغة التحليل النفسي التي يستخدمها “ كاورد Coward و اليس Elis في كتابهما “اللغة والنزعة المادية Language and Materialism .
لقد عمقت التفكيكية القناعة واسعة الانتشار بأن العلامات التقليدية قابلة للتداول, وفي هذه الحالة يمتد النقد النسبي من العلامة – ولكن ليس بواسطة دريدا – الي مفهوم الحقيقة نفسها , وهو رأي لا يمكن أن يكون له معنى في بنائها المقنع . وأقترح اكتشاف فكرة المسرحانية التقليدية نفسها , حيث يبدو لي أن العملية التفسيرية لتناول التقاليد كمسلمة يبدو أمرا موحيا بالنسبة لنطرية سيميوطيقا المسرح وحصوصا التواصل الصادق .
• كوينس والأسئلة والترابط :
يعّرف ديفيد لويس David Lewis التقاليد داخل مجال أوسع لما يسميه “ مشكلات الترابط Coordination problems أو مواقف القرارات المستقلة .. الذي تسود فيه مصادفة المصلحة , بمعنى التي يكون فيها للناس مصلحة مشتركة في القيام بنفس كل الأفعال البديلة . فالترابط – بمعنى الفهم المتبادل – يمكن الوصول اليه ضمنيا , من خلال عملية الفكر التي تتلاقي في حدث فريد من نوعه . وعلي الرغم من ذلك في معظم الأحيان , يتم حل مشكلات الترابط من خلال السوابق. والسوابق الخيالية , وتلك المتداولة من خلال اللغة , جيدة مثل التجربة . وكلما زادت سوابق الموقف , مهما كانت مختلفة أو متشابهة , زادت درجة انتظام السلوك . هذا الانتظام , اذن هو ما يسميه لويس تقاليد . وبالنسبة للعلم اجتماع المعرفة , فان المسرح ومسرحانيته هما مسائل ذات فهم سابق أو شائع , فهم كما كانوا وكما يظن الناس أنهم كذلك , ويحافظون علي رقيهم مهما كانت معاملة الناس لهم .
فما هي بعض مشاكل هذه الرؤية للتقاليد ؟ أولا , مسألة الاهتمام المشترك حاسمة , فكيف نعرف ما هي الاهتمامات المشتركة بين الناس في موقف اجتماعي معقد مثل الأداء المسرحي المفترض ؟ وأي نوع الخطوات التقليدية , مثل الاتفاقات, سوف يكون ضروريا لضمان فهم مشترك ؟ . وكيف يمكن لعلم اجتماع المعرفة أن يقر تعريفا للمسرح لن يكون تاريخيا بلا معنى اذا كانت أهداف تعريفه لا بد أن تتغير جذريا ؟ . وبشكل معكوس , هل يمكن أن تكون هناك مسرحانية بدون سابقة معيارية ؟ . أو اذا كان تعريف المسرحانية التقليدية معياري بشكل نقي, فكم عدد المسارح التقليدية التي مكن أن تكون موجودة ؟ . أود أن اجادل بأنها فكرة بسيطة للمسرح التي تجعل فكرة مؤسسته القابلة للتداول ممكنة . وهذه الحجة تجادل قليلا , ولكني أتمنى في النهاية أن تصل الي فكرتها .
ولعل أحد الأمثلة الكلاسيكية لهذا النوع من مشكلات الاتصال التي يحاول فنانو المسرح حلها من خلال التقاليد تدخل في مجال أسئلة “ كوينس” من زملائه العمال وهم يجهزون لعرضهم الملكي في مسرحية “ حلم منتصف ليلة صيف”. وقد تطرق ج.ل. شتايان J.L. Styan هذه الفكرة في دفاع سيميوطيقي مضاد عن لغز شكسبير المسرحي عندما سأل يقول “ متي تتوقف التقاليد عن أن تكون تقاليدا؟ “ وسوف أضيف سؤال شتايان الي سؤال كوينس , عندما لا يحاول التدخل في تفسير شكسبير. ما نوع الأسئلة التي يطرحها العمال , وماهي اجاباتهم ؟ .
في المشهد الأول من الفصل الثالث يجهز كوينس مسرح الغابة . “ هذا مكان رائع ومريح لتجارب المسرحية .. انه مناسب ورائع. وسوف تكون البقعة الخضراء مسرحنا , وهذه الخميلة حجرة خلع الملابس . وسوف نؤدي المسرحية بالحركة أمام الدوق ساعة العرض “ . تفترض هذه القرارات أسبقية المسرح , حيث وجد “كوينس”شبيهه في المشهد الطبيعي , ويشير “بوتوم” “ هناك أشياء في هذه الكوميديا عن “بيراموس” و “ ثسبي” .. أشياء لا يمكن أن تسر . أولا لابد أن يسل بيراموس سيفه ويقتل نفسه . وهذا منظر لا تطيقه السيدات . فما قولك في ذلك ؟. “ ويعاني “ سناوت” من قلق مماثل عن دوره “ والأسد .. ألن يخيف السيدات ؟. يقلق المؤدون عن تنسيق تأثيرهم علي جمهورهم , ففكرة الخيال , الغريبة عليهم , ربما تكون غريبة علي الآخرين – ولاسيما بالنسبة للسيدات , اذ لا يفترض وجود سابقة. ولذلك يقترح “ بوتوم” افتتاحية , والتي تبدو فكرة جيدة فيما بعد رغم ذلك عندما يجد “ كوينس” الحل “ ولكن تبقي أمامنا مشكلتان , ادخال ضوؤ القمر الي الغرفة “ وأن يضعوا “ حائطا في الغرفة الكبيرة “ , لكي يتحدث من خلاله العاشقان. وبدلا من اعتماد العمال علي ترابط أقل تأكيدا لأفعالهم , فانهم يحلون مشاكلهم من خلال التفسير السردي , بمعنى أنهم يترجمون صورهم المسرحية الي تفسيرات حتي يتضح الحدث . اذ يفترض “كوينس “ أن ضوء القمر “ يجب أن يأتي من خلال أغصان شجرة وفانوس , ويقول أنه يأتي ليشوه سطوع القمر أو يقدمه . ففي الأداء في المشهد الأول من الفصل الخامس , لا تعتبر الأيقونة القمرية كافية , فقيرة جدا, فضوء القمر المتقطع يواجه صعوبة في تفسير نفسه للحشد الغاضب : “ كل ما أريد أن أقوله لكم أن المصباح هو القمر , وأنا الوجه الظاهر في القمر , وأن هذه الأشواك أشواكي , وهذا الكلب كلبي “ . وفكرة “بوتوم” لخيانة الجدار بسيطة وساحرة بنفس القدر عندما يتم اجراؤها كما يقترح من خلال أصابع “سناوت” (علي الرغم من أنه يمكن أن يكون أكثر كوميدية وسخفا اذا قدم علي المسرح كما هو أحيانا مع هذه اليد بين رجلي المؤدي) .
هذا الأداء الملكي المتواضع , الكافي بشكل غريب , يفي بكل متطلبات لويس من أجل الاتصال التقليدي . فالمؤدون لديهم اهتمام مشترك , واذا سار كل شيء بشكل جيد , فان مجموعة الرجال الكادحين الطموحة يتوقعون استحسانا ملكيا , مع بوتوم الذي يتصدر قائمة الستة بنسات في اليوم ( الفصل السادس المشهد الثالث) . وتستخدم الافتتاحيات كتعهدات لضمان فهم مشترك للأداء . ولكن مجموعة السوابق المتاحة للعمال يختلفون بشكل واسع عن كفاءة مشاهديهم , وكذلك في اتجاهاتهم تجاه الاتفاقات – في مسألة مثل النوع – فالمشاهدون والمؤدون يجدون اشد صعوباتهم في الترابط , وكما يلاحظ “ثيسيوس” :
“ مشهد قصير ممل عن الشاب بيراموس
وحبيبته ثيسبي , مضحك ومأساوي.
مضحك ومأساوي؟ ممل وقصير !
هذا ثلج يغلي , ثلج عجيب غريب
كيف يتفق هذان المتنافران ؟
لا تأتي صعوبة المؤدين من فشلهم في التواصل , بل تأتي من أنهم يتواصلون بجدية أكثر كثيرا مما يحتاجه الموقف . فالتقاليد ليست مواقف فهم مرتبة عادة , فهي فهم مفترض , ويفترض المؤدون الهواة القليل جدا في سياق مسرحية من تأليف شكسبير حيث تعتبر الكثير من الهويات المغلوطة والجنيات والتحولات السحرية , وأكثر من ذلك , أمرا مفروغا منه مع عدم امكانية تصديقه في العالم الحقيقي في الخارج . فقاعة كوينس للتجارب المسرحية المتفاوض عليه في الغابة هي فعلا مسرح , ولذلك فان مفهومه للتشابه ليس فقط ادراك نصف مكتمل للهوية , في مسرح يجعله يعتقد أن المكان المفتوح في الغابة هو ذلك المسرح . وعندما يواجه “كوينس” بعد فترة وجيزة بترجمة “ بوتوم” , لم يستطع الا أن يصرخ “ يا له من أمر متوحش ! يا له من أمر غريب “ وهرب من المسرح , لم يكن لديه سابقة ترابط لكي يساعد في كشف انعكاسه لكشف الهوية . وللاجابة علي سؤال شتايان , فان التقاليد تتوقف عن كونها تقاليد عندما تتوقف عن تسهيل الفهم المترابط , وأسئلة “ كوينس”, رغم غرابتها لم تفقد ملاءمتها المسرحية خلال الزمن .
• التقاليد الواضحة وعملية التواصل :
ومع ذلك يجب أن يكون هناك بديل تقليدي للتفسيرات العاملة لبهلوانات شكسبير , ويبدو لي أنه ربما كان هناك مثل هذا الجهد لنوع آخر للبهلوان عند بيل ايروين Bill Irwin . ففي تركيباته الدرامية يميل ايروين الي السماح بتشكيل التقاليد أثناء أداء الحدث – مع التفسيرات أحيانا , ولكنه في أغلب الحالات يعتمد علي دليل التكرار . ففي “ نيويورك الي حد كبير Largely NewYork “ , يرسخ تحكم ايروين من بعيد الطريقة التي يتم بها بناء السوابق للتقاليد الفريدة للأداء خلال عمله . وسواء كانت هندسة التحكم من بعد مفهومة من المشاهدين أم لا , وسواء سبق أن شاهد الجمهور التحكم من بعد في عملية من قبل أم لا , فان التتابع الافتتاحي يرسخ التحكم عن بعد بوضوح باعتباره مؤشر سيميوطيقي , مثل صيغة الاشارة التي يبدو أنها ترفع الستارة وتنزلها , وعموما لكي تتحكم في خشبة المسرح مهما كانت رغبات ايروين . ومع ذلك , فان هذا التقليد المنظم , الذي لا يبدأ من خلال الاتفاق بل من خلال التوضيح المتكرر لعمله , يتوظف بشكل مؤثر مثل أي افتتاحية من أجل انشاء سوابق يمكن أن تصبح منحرفة بشكل كوميدي , بمجرد أن يتم توجيه جهاز التحكم , ويتم الضغط عليه , فتحدث الأشياء الخطأ – اغراق ايروين في القطيفة أو رفعه بشكل رائع في الفضاء .
وفي أول أمسية عرض لمسرحية “ مسألة الطيران The Regard of Flight كان جزء من المرح في فن ايروين الدرامي هو “ كشف الحيلة Laying bare device” . فمؤثرات مثل الايهام الاعجازي المضاد للجاذبية , وجرف جسم منتصب خارج حدود التوازن الممكنة , يمكن تفسيرهما بعد ذلك بواسطة مدير خشبة المسرح باعتبارهما مؤثرات تقليدية بسبب انحناء كعب الحذاء . اذ لا تفسر الدراما عند ايروين كل شيء , فهي مثل القوة الخفية التي تهدد بشكل متكرر بأن تبتلعه تحت الستارة في نسيان واضح , أو القوة التي لا يمكن تفسيرها لاستحضار شكسبير بينما تلمح بحجم أعماله – خدعة تحافظ علي بقاء الناقد الشكلي المزعج في اللعبة لفترة . فكثير من خدع الأداء التقليدية صعبة جدا لدرجة أن بهلوان بارع مثل ايروين يمكن أن يؤديها كلها . ومع ذلك , حتى أفضل الحيل , مثل الترامبولين المصغرة التي يستخدمها ايروين ليراوغ الناقد في مشهد مطاردة , تبدو بالية علي مر الزمن ( حتي يتم القبض علية في النهاية) . فايروين الذي يجعل بناء التقاليد دراميا , ويصنع فكرة من شرحها , ويجعل حلها الواضح دراميا , لأنهم يصبحون أكثر تقليدية من كونهم محل اهتمام . والأكاديميون فقط , مثل الفضوليين , الذين سرقوا الجوقة في مسرحية “ نيويورك الى حد كبير” , تأثروا بما يكفي بالمسرح العادي حتى يفكروا في دراسته والغوص في بنيته – أو كما يفعل المتخصصين فيه الجالسين في المقاعد الأمامية .
يبدو أن هناك فرق ,اذن , بين التقاليد تعزز مسرح كهذا , وهي أنواع تقاليد – مثل الكتابة أو التشخيص impersonation – اللذان يسميهما أتباع هيدجر “الفطريPrimordial “ وهو مجموعة صيغ مؤقتة يتضمنها مفهوم التقاليد الشكلية. ففي مسرحية “ مسألة الطيران” يرى بيل ايروين في أغلب الأحوال أن يكون قادرا علي الرقص – أن يؤدي حركات لا تعني شيئا محددا الا أنها عن الرقص نفسه , يؤدي البديهة التي يمكن أن تكون لدينا فكرة عن الرقص قبل أن يكون الرقص عن عن شيء بعينه مفهوما . وتبعا لذلك , فان هربرت بلو Herbert Blau , أحد مخرجي أعمال ايروين الأوائل , يقترح أن “ ما هو عام في الأداء هو الوعي بالأداء “ . ففضلا عن النظر الي عمقه كتكرار للمعنى , ربما كان من الأفضل تأمل فكرة الأداء هذه كشيء منطقي بسيط , تعود اليها فكرة تحليل المسرحانية أحيانا لتتذكر ما الذي يدور حول الفكرة أحيانا .
ومع ذلك , الوعي وحده ليس تقليدا . وبالنسبة لنظرية بلو في عمومية الأداء , فلا بد من مشاركة وعي الأداء علي نحو ما , حتى لو كان لأغراض التأكيد الطقسية . فالاتصال الناجح لم يكن عنوانا عاما في عصر التفكيك , الذي يستند علي الجدال حول فشل التمثيل أن يمثل الأشياء التي يمثلها ( حتى في حالة مؤد مثل بيل ايروين الذي يقول لناقده “ أنا لست الآخر , كما ترى , انه أداء حديث , أنا لست مثل أحد “ ) . وفي اطار تطور النظرية , حان الوقت الآن أن نهتم بالجانب المظلم لفشل التمثيل , بمعنى أن نهتم بالمفهوم الذي يجعل افتراض الفشل نفسه ممكنا .
هناك اتجاه الداخل- الخارج نحو التفكيك فيما يتعلق بالحقيقة التي تبرز من خلال اتفاق الناس عليها , بمعنى أنه في مستوى فهم ما يصل التفكيك الي الناس بطريقة مقنعة , وحججها عن استحالة تمثيل الحقيقة مقبولة في ذاتها باعتبارها صحيحة . وقد جادلت الكتابات التفكيكية بحق ضد التفضيلات الثقافية لأنواع مختلفة من العلامات , وضد تعريفات نموذجية للحقيقة مثل الكوجيتو (أو مبدأ تأسيس وجود الكينونة) أو حضور الصوت الذي عمل باعتباره بلاغة موضوعية لتوزيع القوة بشكل غير متساو. مع أن خطاب التحليل التفكيكي , الذي يوحي كما يبالغ كوين W.V.O Quine بأن الحقيقة يمكن تضخيمها بمختلف النماذج التقليدية , لا تزال تعتمد في النهاية من أجل ترابطها علي تقليد الفريد تارسكي Alfred Tarski , مفهوم الحقيقة ما قبل النظرية المبتذل تماما هو ببساطة مقارنة ادعاءات العلامة لهدفها , ومع ذلك قد يتم تشكيلها . فالحقيقة ليست فريدة في علاقتها , فالحكم علي تطابقات الترابط هو الذي يفترض شيئا مثل الموضوعية التجريبية . فربما كان نوع نظرية تارسكي الكليلة التي تقدم مقولات مثل “ الجليد أبيض” صحيحا اذا كان الجليد أبيضا فقط , ولكن يجب أن يكون مثل هذا التصميم الأساسي والمطابقة صورة لأحكام الحقيقة في أي سياق للنشاط السيميوطيقي ذا كان التواصل الناجح أمرا لا يمكن تصوره . ولأن هذه الحقيقة – التشابه- ربما تبدو لأولئك الذين علموا أن العلامات أنساق للاختلافات ,وسوف استطرد بعد قليل في مثالين .
ويأخذ دونالد ديفيدسونDonald Davidson الحجة خطوة الي الأمام , مؤكدا “ في مشاركة اللغة بأي معنى مطلوب للتواصل , فنحن نتقاسم صورة العالم التي يجب أن تكون حقيقية في ملامحها الواسعة “ . وبدون هذا الافتراض الأساسي وبدون الاتصال الناجح , يمكن أن يكون غامضا ببساطة . وحتى مع الحذر السياسي , فقد أيد منظر مثل تيري ايجلتون هذه الرؤية حديثا . ولكن كيف نحدد اذن المشكلات السياسية في تقاسم هذه اللغة ؟ . ألا يجب أن تكون لغة طبيعية , كما يقترح ديفيدسون , ألا يمكن أن تكون نسق علامات آخر يعمل مثل اللغة .
لقد جعل ازايل هوروفيتش Israel Horovitz ناتجين علي الأقل من مشكلات تقاسم اللغة دراميين . ففي أحد مسرحياته “ الهنود يريدون حديقة حيوان برونكس The Indians want Bronx , اذ يقابل رجلان من نيويورك الهندي الشرقي “جوبتا” , الذي يحتاج قراءة التعليمات لمنزل ولده . وفضلا عن مساعدة الهندي في مذكرته أو استدعاء ابنه , يعذبه الاثنان , ويجعلانه البيدق في ألعاب ذكورتهما عن طريق السخرية منه باعتباره تركي . ولم يبذل الأمريكيين جهدا في فهم لغته . وعندما يبدو رجل واحد أقل وينفجر في التحدث بشكل أقل تعقلا الي “جوبتا” الذي يدرك بعض كلماته ويحاول أن يفهمه , يصبحا صديقين تقريبا . ولكن الشاب “جوي” شكوكي في النهاية ويخشي أن يكشف الهندي طيبته تجاه أصدقائه الذين يمكن أن يفسروها ضعفا , وعندما يعود الرجل الآخر يعذب “ جوبتا” لفترة أطول , باستدعاء ابن الهندي ثم يقطع حط التليفون , ويعاقب الغريب لأن “ جوبتا” لا يفهم ألعابهم الأمريكية , وفي النهاية يقطع يد “ جوبتا” بسكين . تنتهي المسرحية القصيرة وجوبتا وحده علي خشبة المسرح , يحمل سماعة التليفون - بسلكها المعلق- تتدلي أمام الجمهور بينما يكرر الكلمات الانجليزية التي يعرفها “ أشكركم”. لا يوجد ترابط , ولا اهتمام مشترك , بتجربة جوبتا مع الشباب , رغم أن السوابق تتأسس لأحكامه التالية , والتي من المحتمل أن تكون مستوحاة من الخوف . ومع ذلك فيما وراء العنف , هناك مشكلة سياسية أخرى نتأملها . وعلي الرغم من أن لويس لا يعتبرها مشكلة أخلاقية , فربما يكون ترابط السلوك حتمية أخلاقية , حتى لو كان اتفاق كلا الذاتان يجب أن يعمل بشكل منفصل . فالرفض المطلق لمحاولة مشاركة اللغتين , والذي هو هو موقف القوة في مسرحية “ الهندي يريد حديقة حيوان برونكس” , هي أحد الاهتمامات الحاسمة في نظرية الفعل الاتصالي , لأن الصدق والوصول الي اتصال هما , بالنسبة لمنظرين مثل كارول أوتو آبل Karl Otto Apel , اساسان لأخلاقيات بديهية جديدة تجعل تبادل الأفكار نوع جديد من الفضيلة .
وقد كتب هوروفيتش مسرحية أخرى هي “ درس اللغة الانجليزية الأساسي The Primary English Lesson “ ظلت فيها مساشل الترجمة وتقاسم اللغة أساسية . فلا يوجد طالب من الطلاب الخمسة يتحدث نفس اللغة , ومدرس الأمريكي يتحدث الانجليزية , والبواب بولندي , ولذلك فهم أقل قدرة علي تنسيق سلوكهم لدرجة أنهم نادرا ما يجتمعون . ومع ذلك هناك لحظات تفاهم , نقاط اتصال, مثل اللحظة التي تتعلم فيها الشخصيات أن لهم جميعا أسماء , علي سبيل المصادفة مع كلمات مثل la poubelle and patumiera ومعناهما “سلة المهملات “ . والدراما مفي هذه الكوميديا هي صعوبة الترجمة الطريقة التي يمكن بها تفادي أخطار بسيطة مثل الخنق من أجل زبيبة , اذا استطاع الناس أن يتكلموا. تستسلم أغلب الشخصيات في مسرحية “ درس اللغة الانجليزية الأساسي “ , ولكن في نهاية المسرحية “ديبي واستبا “ المدرس الذي اختصرت أسرته اسمها , يكتشف التزاما جديدا بالتواصل . التدريس والترجمة اللذان يؤسسان المجتمع يضاعفان نوع السياسة الاتصالية التي يؤيدها يورجن هابرماس Jurgen Habermas لنقل النظرية الاجتماعية الحديثة . ويغير هوروفيتش توجهه نحو الترجمة في مسرحيتين “ الهندي يريد حديقة حيوان برونكس “ , اذ تترجم جمل “ جوبتا “ للممثلين فقط , في ارشادات نص خشبة المسرح , بينما في مسرحية “ درس اللغة الانجليزية الأساسي “ يقول مترجم خفي الجمل الأساسية باللغة الانجليزية الي الجمهور , حتى يستطيع المتلقي أن يفهم المشكلات الأساسية وهدف الاتصال المفقود علي خشبة المسرح . الترجمة بين اللغات المتشابهة نسبيا ليست هي المشكلة , فشبكات الاعتقاد المختلفة ربما لا تتطابق بالضبط , ولكن كلا الشبكتين صحيحتين عموما , ويجب أن يسمح السخاء باجراء اتصالات بين التكافؤات السيمانطيقية للبدء في بنائها . وهذا لا يعني أن نقول ان القصائد يمكن أن تترجم الي تكافؤات شعرية , بل لكي نحتج بالأحرى بأن صعوبات التكافؤ يمكن تفسيرها , وأن هذا التفسير يؤكد ترجمتها المعرفية , ولكن قد يكون النص نفسه محرجا . فالترجمة العادية , مثل الفكر الضمني , تصبح مشهدا لترابط السلوك , لانشاء الانسجام الذي يساعد الأفعال الجماعية مثل صنع المسرح .
-----------------------------------------------------
• هذا المقال هو الفصل الخامس عشر من كتاب “ فلسفة الأداء المسرحي : التقاطع بين المسرح والأداء والفلسفة “ الصادر عن جامعة ميتشجان عام 2009 .
• مايكل كوين عمل حتى وفاته في عام 1995 استاذا للدراما بجامعة واشنطون – سياتل .. وله العديد من الكتب والمقالات أبرزها “ سيميوطيقا المسرح: نظرية المسرح في مدرسة براغ