مقهى المختلط .. ومسرح القهوة

مقهى المختلط  .. ومسرح القهوة

العدد 689 صدر بتاريخ 9نوفمبر2020

 في عام (1969) ظهرت تجربة فريدة وجديدة هي «مسرح القهوة» علي يد المؤلف المسرحي ناجي جورج، والذي اختار لعرضه «مقهى المختلط» بالعتبة بعد أن اتفق مع صاحبيها رأفت خليل الذي كان يعمل مفتشا للتموين وخليل خليل المحاسب بشركة النصر لصناعة السيارات، اللذان وافقا على الفور بدون إيجار بل إن خليل قام بدور مدير خشبة المسرح في العرض الثاني من عروض الفرقة، وظل ملازما لها حتى في عروضها التي أقيمت في أماكن أخرى. وقد تولى الفنان سمير سليمان أحد مخرجي الثقافة الجماهيرية ـ وقتها ـ عملية الإخراج لكن ترك الفرقة لظروف خاصة، ثم أكمل المشوار من بعده المخرج التليفزيوني اللامع محمد فاضل.
وقد قدمت الفرقة عرضين الأول مسرحية «قهوة المعلم أبو الهول» في يونيو (1970)، والثاني مسرحية «إني اعترض» سنة (1971)، وقد سجل التليفزيون المسرحية الأولى.. وعرضها.. كما قامت برامج ثقافية في الإذاعة والتليفزيون  باستضافة الفرقة سواء على الشاشة أو في الإذاعة وقد تكلف إنتاج العرض الأول عشرين جنيها تم جمعها من أعضاء الفرقة وشارك في بطولتها كل من وفيق فهمي، وفاروق فلوكس وعزيزة راشد وسيد عبد الكريم ومحي الدين عبد المحسين وقاسم شحاتة ويسري ناصر ومجدي وهبة ومجدي يوسف وإسماعيل ذهني وسعيد الدسوقي.
وتدور أحداثها حول المعلم «أبو الهول» صاحب مقهى يهتم بالأحداث السياسية والاجتماعية من خلال أحاديث الزبائن الذين يشاركهم الأحاديث لكنه عنيد أمام مصلحته، فكل ما يهمه هو سلامة أمواله التي يقاتل من أجلها، فهو نموذج للإنسان الجشع المحب لذاته نموذج رأسمالي صغير يريد أن ينجو بمصلحته ونفسه دون النظر إلى مصلحة الآخرين، ويتجلى ذلك واضحا في حواره مع أحد الزبائن المتحمسين للحرب ضد العدوان حيث يقول له في جملة حوارية:
«شوف يا أستاذ.. لا مؤاخذه في دي الكلمة.. كل واحد في الحاجات د يشوف نفسه. أحبك.. أحبك بس مش أكتر من نفسي.. ولا غلط الكلام ده يا عبدالسميع أفندي».
والنموذج الثاني الذي تقدم المسرحية هو «فهيم» شخصية المثقف.. الشاب المهموم بقضايا مجتمعه، وإن كنت لغته الخاصة ذات الطبيعة المتعالية المتثاقفة جعلته غير متصل عمليا بواقعه، فهو شخصية خيالية في ظل واقع ملتبس ـ خاصة إذ نظرنا إلى اللحظة التاريخية التي كتب فيها النص ـ وهي السنوات التالية لهزيمة يونيو (1967) التي أحدثت هزة عنيفة في بنية المجتمع المصري وأوجدت حاجزا نفسيا وانكسارا عميقا، ربما مازالت آثاره باقية حتى الآن.
وهناك نموذج ثالث طرحته المسرحية وهو شخصية «عبدالسميع» الموظف المصري البسيط.. الذي فقد ابنيه في حرب (1948).. فاستغرقته الأزمة واستسلم لها.. يعيش مستغرقا الماضي وكأن الماضي مجرد ديكور يحيط به.
والنموذج الرابع هو «زعرب» عامل من عمال المناجم.. كان في سيناء عندما اندلعت الحرب.. فقد أصابعه أثناء الانسحاب عندما شارك العمال من زملائه في تجير المنجم.
والنموذج الخامس، وهو نموذج آخر للانكسار يتمثل في شابين تخرجا حديثا من الجامعة.. يحلمان بالهجرة لأمريكا.. ولا يشغلان أنفسهما بما يدور من حولهما، بل كل ما يشغلهما ويدور في ذهنهما هو حلم الثراء والهجرة والمستقبل المتخيل.
وهناك نموذج أخر يمثله «عوض» ماسح الأحذية..الذي نزح من الصعيد بحثا عن القمة عيش، أما النموذج الأكثر دلالة على الحالة فهو «الأخرس» أكثر زبائن المقهى مداومة على الحضور.. والذي تعتصره الأزمة من داخله.. لكن تعوزه إمكانية التعبير.
وتبدأ المسرحية بمشهد لغارة تتم خارج المقهى فيأمر المعلم «أبو الهول» بغلق الباب.. في حين أن هناك فتاة «بائعة يانصيب» بالخارج تتعرض للخطر فيطالب رواد المقهى بفتح الباب كي تدخل وتكون في مأمن لكنه يرفض خوفا على مقهاه، وبعد ان تنتهي الغارة الحربية يفتح الباب فتدخل الفتاة مجروحة والدم ينزف منها وتنظر إلى الجميع نظرة عتاب يملؤها الألم، مما يجعل غالبيتهم يقوم ليواجه الفلول المتبقية من جنود العدو، بينما يظل في المقهى النماذج السلبية كصاحب المقهى والشابين المتعلمين والشاب المتثاقف.
وقد استخدم محمد فاضل «القهوة» كفضاء مسرحي للعرض مع إضافات سينوغرافية قليلة للغاية، حيث اعتمد على تقنيات المسرح الفقير عند «جروتوفسكي» وأذاب الحواجز بين المتفرج وممثلي العرض مما جع الجميع في حالة شعورية واحدة بعد أن اكتسبوا حالة التمسرح، بعد أن تحول المكان كله إلى مسرح، ومن هنا كانت أهمية مسرح القهوة أنه كسر الحاجز الوهمي ـ بالفعل ـ بين النص والممثل وبين الجمهور، ربما لأول مرة في تاريخ المسرح المصري الحديث.
فحتى التجارب التي شاكست في هذا الجانب وحاولت أن تؤسس لمسرح مصري جديد كمقدمة يوسف إدريس للفرافير والتي حملت عنوانا مستقبليا دالا وهو «نحو مسرح عربي جديد» إلا أننا وجدنا الفرافير كعرض تجريبي من الدرجة الأولى جاء أسيرا لتقاليد المسرح، حيث عرض في مسرح «علبة إيطالية» ومورست فيه طقوس العملية المسرحية بداية من قطع التذكرة حتى طرق لعرض من سينوغرافيا وإضاءة وخشبة مسرح وتقطيع المسرحية إلى مشاهد وفصول.
في حين أن عرض «قهوة أبو الهول» لم يستغرق ثلاثة أرباع الساعة، وجاء كمشهد واحد متصل تدور أحداثه في أحد مقاهي السويس أو الإسماعيلية في الأيام التي أعقبت هزيمة يونيو (1967)، ورغم نمطية الشخصيات التي قدمها العرض إلا أنه جرأة  الفكرة وبساطة التناول أكسب التجربة مذاقا خاصا.
وهذا ما تلمحه من رسالة أرسلها المفكر الكبير محمود أمين العالم آلي الكاتب ناجي جورج ونشرها بعد ذلك على غلاف الكتاب الذي ضم مسرحياته هذه: حيث يقول له في هذه الرسالة: «ولأنك تضع يدك على الجرح، ولأنك تكشف الستار عن المزورين والمغرورين والمستغلين، ولأنك تفضح الزيف ولأنك ترفض أن تكتفي بإشباع العواطف وإرضاء الأفكار، وإنما تحرص على أن تشير إلى الطريق.. ستجد دائما هذا الاتهام المعاق: هذا أدب مباشر، هادف، زاعق صارخ!! قل لهم نعم.. أنا صوت صارخ في هذه البرية المتردية فاتبعوني بل تجاوزوا خطواتي إن كنتم صادقين مخلصين.. تمنياتي أيها العزيز ناجي بمواصلة الطريق الصعب.. طريق الإبداع المسئول..  محمود أمين العالم».
أما المسرحية الثانية التي قدمتها الفرقة فهي مسرحية «إني اعترض» والتي قدمت بمقهى «المختلط» في موسم (1976) من إخراج ليلى سعد، وقام ببطولتها الفنان عبد الرحمن أبو زهرة وسعيد الصالح وعبدالعزيز عيسى وخالد حمزة وناهد نائلة، ونتيجة لظروف العرض تناوب عدد من الممثلين على باقي الأدوار المختلفة فقد شارك في بعض ليالي هذا العرض فائق عزب، ممثل المسرح القومي وفنان مسرح الطليعة ناجي كامل، وكانت المسرحية قد تعرضت للرقابة والمصادرة عند عرضها لأول مرة عام (1971)، ثم تم التصريح لها بعد خمس سنوات من المعاناة، وقد لعب الفنان الكبير عبدالرحمن أبو زهرة دورا كبيرا في تحفيز باقي أعضاء الفرقة على الاستمرار ومواصلة ما بدأوه.
وعن هذه الأيام العصيبة التي واجهت فرقة «مسرح القهوة» يقول ناجي جورج في مقدمته لمسرحية «إني اعترض»: «اضطررنا نتيجة لتخلي الكثيرين عن العرض أثناء تقديمه وانسحابهم إلى الاستعانة بممثلين تطوعوا للتمثيل لاستمرار العرض، إن المقارنة البسيطة بين الفريق الأول الذي أدى مسرحية قهوة المعلم أبو الهول والفريق الذي أدى مسرحية إني اعترض تكشف عن طبيعة التغيير الذي جرى في الحياة الفنية.. بعد تغلب البترودراما على المناخ الفني، تخلى الكثيرين عن العرض أثناء تقديمه وانسحب البعض أثناء ليالي العرض.. وقد تكلف إنتاج العرض حوالي مائة جنيه اكتتبنا فيها لم يسجل التليفزيون العرض.. لكننا لا ننكر أنه قوبل بحفاوة نقدية وجماهيرية، وكان أيام العرض 40 مسرحية»
وقد استطاع ناجي جورج أن يطوع نصه للمكان المقهى كفضاء مسرحي، فالأحداث المكتوبة تدور في المقهى، فالمكان هو حيز النص وبؤرته، وأبطاله هم رواد المقهى، والحوار لا ينفصل عن الحوار العادي بين الزبائن، فمن التفاصيل المحكية يتولد الحوار المسرحي.
وفكرة مسرح القهوة قريبة من فكرة مسرح «الشارع» والتي ظهرت في منتصف القرن العشرين في أمريكا وفرنسا على وجه التحديد وكانت مرتبطة بحركة اليسار، وهي «الحركة التي نما هذا المسرح من داخلها والتي ظلت تؤثر فيه دائما أو كما يقول «هنري لنيسك» في كتابه «مسرح الشارع في أمريكا»: «لقد توصلت فرق كثيرة من مسرح الشارع على قناعة فكرية مؤداها أن هناك أسباب موضوعية وتاريخية واجتماعية لإحساسهم بالاغتراب وأصبحوا يلمسون الحاجة إلى مسرح يملك أسباب التغلب على الاغتراب الاجتماعي من خلال الممارسة الاجتماعية الجماعية والنشاط السياسي»، وهذا ما فعله ناجي جورج ورفاقه من محبي المسرح.


عيد عبد الحليم