مسرح الشارع.. عالميا ومحليا

مسرح الشارع..  عالميا ومحليا

العدد 577 صدر بتاريخ 17سبتمبر2018

لا شك أن مسرح الشارع بمفهومه الحديث غالبا ما يهدف إلى التوعية من خلال تناوله لمجموعة من القضايا الحياتية التي تشغل الأذهان في الظرف الراهن الذي يعيشه المتفرج، ولكن في إطار فني وجمالي له القدرة أن يتجاوز طابعه المرحلي، وهذا ما يجعل القائمين على العمل يبذلون جهدا غير عادي في خلق هذا النسيج المركب، إضافة إلى ضرورة وعيهم الشديد بالقضية المطروحة وكل المعلومات المتعلقة بها حتى يكون لهم القدرة على التأثير في مشاهديهم، والاستعداد لأي حالة اشتباك حواري مع المتفرجين.
فالشارع كمكان للعرض جعل العروض تمتاز في كونها في بعض الأحيان مرتجلة، تستمد فاعليتها من خلال المشاركة الفعالة مع الجمهور والنقاش حول موضوع ما، من خلال إعداد جيد للسيناريو بالبروفات، فمسرح الشارع دائما يعمل تحت فرضية احتمالية مغادرة الجمهور للمكان في أي لحظة، تلك الفرضية التي تفرض حتمية البناء المفتوح للعرض نظرا لكم الأشياء غير المتوقعة من محيط الدائرة الافتراضية للأداء، لهذا نجد من الصعب أن يرضخ مسرح الشارع للنصوص الجاهزة ذات البناء المغلق نظرا للسيولة الشديدة التي يمتاز بها، فغالبًا ما يضطر الممثلون إلى تغيير الموضوع المطروح داخل العرض لأي سبب كان.. بأن يكون الجمهور غير مقبل عليه أو غير ذلك مثل حدوث أزمة مفتعلة بسبب أي فعل فجائي أو التعرض لمنع قانوني من الشرطة بسبب لوائح معينة لضبط النظام في الشارع، لهذا نجد من الضروري أن تكتسب فرقة مسرح الشارع المرونة الكافية من خلال تغيير الموضوع في أي لحظة؛ مما يتطلب أن يحمل الممثلون مجموعة من السيناريوهات المدربون عليها بشكل جيد.
وتعد المهمة الأولى لفرقة مسرح الشارع هي البحث عن الجمهور لهذا تعد أماكن تجمهر الناس من الأماكن الخصبة التي تسهل عمل الفرقة في الحدث مثل الميادين ومحطات الانتظار إلى آخره من الأماكن المقترحة، إن مسرح الشارع مصمم بحيث يلتقي بالناس أينما وجدوا، وليس أن يضطر إلى جذب الناس إلى أماكن بعيدة.
ونظرا لانشغال الناس بقضاء حوائجهم أثناء وجودهم في الشارع، فلا بد من جذب انتباههم إلى العرض الفني، وهو ما يتطلب الإيحاء بأن شيئًا غير عادي على وشك الحدوث، أو استخدام الأغاني أو ظواهر الفرجة الشعبية التي يرتبط بها الناس لجذبهم. وعلى مخرج العرض أن يعمل على ملاحظة الجمهور بشكل مستمر ومدى قابليته على استكمال الموضوع المطروح.
وكما كان لمسرح الشارع جذوره العالمية نجد أيضا له جذوره وامتداده في مصر، ففي عصر احتلال البطالمة نجد انتشار الفرق التي تحذر من الاستعمار وأعوانه مستخدمين فنون الفرجة والفنون الأدائية في ساحات الإسكندرية، إلا أن هؤلاء تعرضوا للضرب والسجن والقتل أحيانا، ومع ظهور ماري مرقص – المبشر بالعقيدة المسيحية في مصر – أخذ من مسرح الشارع وسيلة للدخول إلى المصريين، فكان يقوم بالغناء والتمثيل لقصة حياة المسيح على طريقة الحكي والتشخيص في شوارع وأسواق وساحات مصر، وعندما تعاطف معه بعض المصريين ليتعاطفوا مع البطل التراجيدي الذي خلص العالم من الخطيئة الأولى. ومع دخول الفتح العربي لمصر اندمجت الثقافات والحضارات لتنتج قالبا جديدا على تراث المصريين مما أعطى الفرجة أشكالاً مغايرة مثل خيال الظل والمقامة والأراجوز والحاوي وشاعر الربابة والحكواتي. يقول د. عبد الحميد يونس في الأدب الشعبي: يقوم الشاعر بمهمة الممثل الفرد بطريقة تقرب لدرجة ملحوظة من ممثل خيال الظل ويكون هو الوسيط الوحيد بين عالم الناس وعالم الملحمة الشعبية التي تتغير أحداثها على حسب الشارع أو المنطقة.
فن مسرح الشارع أو ما يسمى الارتجالي – فيعود تاريخ المنطقة العربية مع مسرح الشارع إلى احتكاك قديم نتج عنه مختلف العروض الارتجالية ومنها خيال الظل، الأراجوز، الحكواتي، مسرح العرائس، الفانوس السحري، المسرح الشعبي.
تتعدد دوافع فناني الأداء لاختيار الشارع لعرض مسرحية فنية، ومنها ثقافية كدعوة لنقل رسالة إنسانية عبر موجة من التفاعلات والحركة، معتبرين أن الشارع يقدم مساحة من الحرية أكبر في الطرح والتفاعل وخلق الجسور بين المؤدي والمتلقي. ومنها مادية تستمد مرجعيتها من عدم قبول العمل المسرحي في المؤسسات الثقافية، لتعدد الشروط الاجتماعية والسياسية التي تلتزم بها هذه المؤسسات. ومنها أن تكون النصوص محددة ضمن إطار يقيد الفنان أحيانا نحو إطلاق الفكرة. كما يؤكد العاملون في المجال أن مسرح الشارع يلغي المسافة بين العرض والجمهور، ليترك هو في خلق أحداث المسرحية وتفاعلاتها.
ويصف «إدوارد لين» في كتابه المعروف بعض هذه العروض بقوله: يتبارز القرداتي مع قرده بالعصي، ويلبسه ملابس عجيبة، وكثيرًا ما يلبسه ملابس العروس أو المرأة المحجبة، ويضعه على ظهر حمار ويستعرضه أمام حلقة المتفرجين، بينما يتقدم هو الموكب وهو يعزف على الطمبور. وللقرداتي حمار أيضا، يطلب إليه أن يختار من بين الموجودات أجمل بنت كي تصبح عروسا له، فيمد الحمار أنفه إلى وجه الفتاة، فيضج الناس بالضحك ويبتهجون وبينهم الفتاة.
ويورد لين ألعابا أخرى اشترك فيها النظارة مع الحاوي. منها لعبة الأوراق البيضاء الصغيرة التي يقذفها الحاوي في طشت فتخرج منه وقد تلونت بألوان مختلفة. ثم يصب الحاوي ماء في الطشت ويضع فيه قطعة من النيل، ثم يوزع ما في الطشت من ماء على النظارة، فإذا هو شربات لذيذ الطعم.
واضح من نماذج الألعاب التي سجلها لين لفن القراد والحاوي، ومما استطاعت ذاكرتي أن تحفظه حتى الآن من فن الحاوي، أن هذه الألعاب ليست مجرد عروض صماء تعرض على جمهور سلبي، بل إنها في الواقع جزء من فن تمثيلي متجول اتخذ الشوارع والميادين مسرحا له، وتعددت أساليبه.
وجعل المناسبات الدينية والقومية والاجتماعية مجال عمله الأكبر – وواصل – مع هذا البقاء على مدار العام.
ولعل أكبر مظاهر هذا الفن المتجول شأنا ما نجده في فن جماعة المحبظين، الذين حفظ لها التاريخ نماذج من أعمالهم أقدمها يرجع إلى عام 1815، العام الذي شاهد فيه الرحالة الإيطالي «بلزوني» مسرحيتين قصيرتين قدمتا ضمن احتفال بالزواج أقيم في شبرا.
كان هذا في عام 1815، وبعد هذا بنحو خمسة عشر عاما، شاهد لين فن المحبظين في إحدى الحفلات التي أقامها «محمد علي» لمناسبة ختان واحد من أنجاله. وقد اشترك المحبظون في الحفلة بمسرحية وصف لين خطوطها الرئيسية وشخصياتها.
قال لين: إن هؤلاء المحبظين يقدمون عروضهم في حفلات الزواج والختان في بيوت العظماء، كما أنهم يجذبون إليهم حلقات من المتفرجين حين يلعبون في الأماكن العامة. وأضاف أنهم يعتمدون على النكات والحركات الخارجة، وإن الممثلين كلهم من الذكور، ما بين رجال وصبيان يقدمون الأدوار جميعا الرجالية منها والنسائية.
ويبدو من وصف لين للعرض أن المسرحية كانت على درجة لا بأس بها من التقدم الفني. فهي تبدأ بعرض موسيقي واقعي يقدمه خمسة من الفنانين، اثنان منهم طبالان، والآخر عازف على المزمار، والرابع والخامس راقصتان. ثم يسأل ناظر الناحية عن دين الفلاح عوض، وهنا يقوم الموسيقيون والراقصتان بأدوار جديدة هي أدوار جماعة من الفلاحين، ويجيبون على سؤال الناظر.
وهذا كله يدل على وجود دراما بشرية شعبية عرفتها الأقطار العربية في مصر والشمال الأفريقي قبل أن يفد إليها المسرح البشري الغربي بوقت طويل.
أما في العصر الحالي – فقد فرض «مسرح الشارع» نفسه وسط أحداث ثورة يناير 2011، وقد شاهدنا في تلك الفترة عدة عروض قدمها الشباب المحتشد في ميدان التحرير.
وفي مارس 2012 استطاعت الثقافة الجماهيرية جذب جمهور عريض وخصوصا من جيل الشباب تحت عنوان (ملتقى مسرح الشباب) وعلى مدى خمسة أيام أمام مبنى مجمع التحرير، حيث قدمت (ثمانية عروض) على أكثر من مسرح في عدد من محافظات مصر لم يرصد لها بالطبع جوائز أو مسابقات أو فرص لاعتماد مخرجيها كمخرجين بالثقافة الجماهيرية، لكنهم يدركون في الوقت ذاته أنهم يخوضون تجربة ثرية في التحام المسرح بالشارع، وكانوا يتطورون بسرعة ويتعلمون التصرف بلباقة، والتوقف لمحاورة الناس أو السماح لهم بمبادرة المشاركة بتعليقاتهم ثم العودة إلى حيث توقف العرض بدون تشتت أو فتور، غلب على هذه العروض الهم السياسي، وكانت تحاول التقليب بسخرية أحيانا وبغضب أحيانا أخرى وكانت مشاهد استقبال جمهور الشارع والمارة العابرين لها، ومدى تعطشهم وشغفهم بمتابعتها مشاهد لا تنسى.، فقد وقفت أمهات يحملن صغارهن المتابعة العروض بتركيز بالغ حتى تحت هطول المطر، وراح الباعة الجائلون يتطوعون بتقديم أي مساعدة نحتاج إليها، وكانوا يلتزمون الهدوء التام أثناء مدة العرض.
ارتبطت هذه التجربة بحالة الزخم التي خلقتها الثورة فاتسمت بالطموح إلى نشر هذه العروض قليلة التكاليف سهلة التنقل في أكبر عدد ممكن من الأقاليم وعرضها لفترات كثيرة في الشوارع والميادين بالقاهرة والمحافظات.
ونظرا لأن ميزانية العرض لم تكن تتجاوز الـ1500 جنيه حيث ساهمت إدارة المسرح في توفير بعض أعمال الديكور أو الإكسسوار أو الإضاءة، ونجحت التجربة بل وأشاد بها وكالات الأنباء العالمية ومحطات التلفزيون الدولية التي كانت مهتمة بتغطية أحداث هذه الثورة باعتبارها فريدة من نوعها في تاريخ ثورات العالم.

 


زياد فايد