عروض كشكش بك المتتابعة

عروض كشكش بك المتتابعة

العدد 834 صدر بتاريخ 21أغسطس2023

أنهيت المقالة السابقة بمقالة نقدية تمدح عروض الريحاني نشرتها جريدة «المنبر» .. ومن الغريب أن الجريدة نفسها وفي العدد نفسه نشرت مقالة ضد مؤلفي التمثيل الهزلي وممثليه أمثال: أمين صدقي وبديع خيري ونجيب الريحاني وعلي الكسار، كتبها «ممثل محزون» .. هكذا وقّع على مقالته وعنوانها «من الملوم الجمهور أم الممثلون؟»
 قال فيها: «.. اليوم أدلي بسؤال أوجهه إلى كل قارئ لبيب من قُراء المنبر، مستطلعاً آراءهم فيه، على أمل أن نصل من احتكاك الأفكار، وتنوعها إلى نتيجة طيبة تعود على فن التمثيل بفائدة تذكر، لقد لُمتُم يا سيدي الجوقات التمثيلية الراقية لأنها نحت نحو الفرق الهزلية، فعمدت إلى تمثيل الروايات الخفيفة المجونية، التي لا قيمة لها، والتي لن يرضى عنها أديب صحيح النظر. إنني أشاطركم هذا اللوم ما دام الغرض منه حث القادرين من رجال التمثيل على إخراج الروايات الممتعة القيمة. ولكن لأولئك القادرين يا مدير المنبر عذراً إن لم تقل أعذاراً .. إذا كنت لا تعرف أولئك الذين يترددون على المسارح عن نصيب كل منها من إقبال الجمهور، عند ذلك ندرك عذر أولئك القادرين في تنزلهم من سماء الجد والحكمة، إلى دركة والمجون. لقد رأى أولئك الممثلون الجديون أن زملاءهم الهزليين طفروا بإقبال الجمهور، وغنموا من هذا الإقبال المال الوفير فظنوا بل اعتقدوا أن السواد الأعظم يفضل نكات البربري وكشكش على حِكم شكسبير، فرأوا أن يجاروه في ميله هذا. هذه هي الحقيقة التي لا غبار عليها، فمن الملوم إذاً كبار الممثلين أم السواد الأعظم من الجمهور؟ إنني أرجو من قُراء المنبر الأفاضل العناية بهذا السؤال والإخلاص في الإجابة عليه، وإظهار السبل المؤدية إلى تجديد عهد التمثيل الراقي قبل أن تندثر آثاره، وتندرس معالمه، فتصبح المسارح كلها مجالاً للهو والمجون فيهتف بنا هاتف من وراء الستار قائلاً: أهذا ما يريده المصريون؟ إذا التمست العذر للممثلين الجديين في محاكاة الهزليين فلأنهم يريدون أن يرتزقوا ولا مورد رزق لهم غير التمثيل والوقوف على خشبة المسرح. ولكن لست أدري أهو عند المعروفين في كتابنا في مجاراة غيرهم من المهرجين في النأي من وضع وتعريب الروايات النافعة المفيدة وأدام على مجاراة صدقي والريحاني وخيري والكسار. لقد كانوا في غنى عن ذلك كله لو أوتوا نعمة الإباء، وعرفوا أن للقلم شرفاً لا يجب أن يثلم ومقاماً لا يجب أن ينزل منه».
مع استمرار إقبال الجمهور على العروض الكوميدية لكشكش بك – وغيره من الفرق الكوميدية أمثال الكسار ومصطفى أمين – كان من الضروري أن تنشر الصحف كلمات التأييد أو الاستهجان أو النقد أو التوجيه حتى تكون مواكبة للظاهرة! لذلك نشر الناقد الفني لجريدة «البصير» مقالتين في أوائل مارس 1919، الأولى بعنوان «التمثيل الهزلي والحركة الفكرية الجديدة» وفيها حاول إقناع الريحاني بتقديم عروض تراجيدية بدلاً من العروض الكوميدية، قائلاً:
رأينا في هذه الأيام حركة فكرية جديدة ضد التمثيل المجوني، كادت أن تشمل جميع الصحف اليومية على السواء. ولا أقول إن كانت هذه السطور أول ما خُط في موضوع التمثيل الهزلي خشية أن يُقال لي: مادح نفسه يقرؤك السلام!! ولكنني أقول إن هذه الحركة الفكرية الجديدة تثلج صدور مُحبي رُقي التمثيل، لأن الذين قاموا بها من الكُتّاب سواء كانوا من السراة الشرفاء، أم الغيورين الأدباء، أم المحتالين من الملتصقين بالصحف، دلّوا في مجموعهم على حقيقة واحدة لا تتجزأ، وهي أن العقلاء في الأمة يطلبون من الممثلين الذين نالوا الشهرة العامة - ولو في المسارح الهزلية - أن يصرفوا قواهم إلى الروايات القيمة ذات المغزى المفيد، والعظات البالغات، مع وعدهم لهم بأن يشدوا أزرهم ويكونوا لهم خير معوان في نوعهم الجديد، حتى يكونوا خير قدوة للأمة، وأكبر مثالاً لعامتها. فالممثلون المجونيون ولا سيما زعيمهم كشكش، لا يجوز لهم أن يتغاضوا عن هذه الرغبة الشريفة لاسيما وأنهم قادرون عليها، كما قال الشاعر»ولم أر في عيوب الناس شيئاً .. كنقص القادرين على التمام»!! لقد عرفت نجيب الريحاني أو كشكش بك وهو شاب صغير فعرفت فيه الفتى الذي أولع بفن التمثيل إلى درجة العبادة، ولم يكن مغرماً بشيء من أنواعه الهزلية من كوميدي وفودفيل، بل كان مولعاً بما يرفع من شأنه في نظر الفنيين. عرف الريحاني يوماً أن الكاتب الكبير عباس حافظ عرّب رواية «شاترتون»، وكان قد قرأها بالفرنسية فأولع بتمثيل دور شاترتون الشاعر الشاب الذي مات في التاسعة عشرة من عمره معدماً يائساً، فلم يشتهر إلا بعد مماته بدعوى أن بينه وبين هذا النابغ المنكود مشاكلة فمكنته من رغبته فكان على مسرح برنتانيا مبكياً لا مضحكاً، ومشجياً لا مهرجاً. فما الذي يمنع الريحاني الآن من أن يحقق رغبة أهل الفضل وعشاق التمثيل الراقي. له أن يقول إن التمثيل المجوني أكبر فائدة، وأجزل عائد له من الجدي، بدليل أن الجوقات التمثيلية التي اشتهر مديروها وأربابها بأنهم تراجيديون أخذوا في مزاحمتهم. ذلك حق لا غبار عليه. ولكن نجيب الريحاني الذي أمن العوز وبات في نجوة من البؤس يجب أن يفي الأمة حقوقها بالعمل على خدمتها عن طريق التمثيل الجدي، وقد أبنا أنه قادر عليه. ليس للذين يقولون بأن الإقبال على التمثيل الجدي قليل عذر وجيه، لأن القائمين به لم يخدموه ولم ينفقوا في سبيله فأساءوا إليه وإلى أنفسهم. ولكن شاباً متعلماً ذكياً مثل الريحاني لو انصرف إلى التمثيل الجدي، وأنفق عليه بعض ما ينفقه على التمثيل الهزلي لكان ربحه أكثر مما هو عليه اليوم.
وبعد يومين نشر الناقد مقالته الثانية، قائلاً فيها: ليس في وسع الصحفيين عامة إلا تحبيذ كل حركة فكرية الغرض منها ترقية التمثيل العربي ومحاربة المجوني منه، لأن الأمة أحوج إلى ما يرقي الشعور وينمي قوة التفكير منها إلى ما يلهي ويضحك، لأننا لا نزال حتى الساعة أمة في بدء نهوضها. فهي في حاجة إلى ما يثبت قدمها في ميدان الرقي، ويشجعها على ما يزيدها رقياً في نهضتها الأدبية، وما كان التمثيل الهزلي ليبلغها شيئاً من ذلك. نحن لا نكره الريحاني ولا أمين صدقي ولا علي الكسار ولا مصطفى أمين، ولا غيرهم من زعماء التمثيل الهزلي، بل نكره منهم انصرافهم إلى هذا النوع من التمثيل، في حين أن جُلهم من الشبان المتعلمين القادرين على النهوض بالتمثيل. ولذلك لا نطلب من الحكومة أن تصادر مسارحهم، وتوصد أبوابها، بل نطلب من قلم المطبوعات [أي الرقابة المسرحية الآن] فيها أن يكون شديداً فلا يترك في زاوية جملة تؤذي الآذان، أو كلمة تؤلم العواطف أو زجلاً يثير في السامع حيوانيته .. وفوق ذلك أيضاً منع كل ما يعد في نظر المتأدبين مخالفاً للآداب العامة، فلا تظهر الراقصات إلا بملابس تتلاءم مع الذوق الشرقي، ولا يأتين من الحركات ما لا نستملحه نحن الشرقيين بالنسبة لعاداتنا، وإن راق في نظر بعض طوائف الغرب، ولكل أمرئ من دهره ما تعود. فمسارح التمثيل في نظر الحكومة حكمها حكم سائر المحال العمومية مثل الأندية والقهوات، لا تبيح فتح أحدها إلا بترخيص خاص. فإذا كان القانون العام يقف سداً بينها وبين تعطيلها فإنه لا يمنعها قط من تقليل مضارها أو القضاء على تلك المضار .. إذ لها أن تمنع كل ما يخل بالآداب العامة كما منعت بيع الخمر بعد الساعة التاسعة، ولها أن تقضي على كل كلمة سوء!! وإننا نعترف بأن في كثير من روايات كشكش الهزلية وغيرها عظات بالغات، ولكن هذه العظات تذهب سدى لسوء الموقع الذي تُقال فيه! فهي كحكمة المجانين، قلّ أن يـأخذ بها العقلاء. فلو طهر مديرو الجوقات الهزلية رواياتهم من كل كلمة سوء تؤخذ عليهم لكان لها وما يجئ فيها من الكلم الطيب وقع فى النفوس.
سنوات ثورة 1919
بعد أيام من نشر هذه المقالات اندلعت ثورة 1919، وهي الثورة التي كتب عنها الريحاني وعن دوره فيها في مذكراته المعلومة والمجهولة، وقد نشرت الجديد عنها في سلسلتي السابقة، فلا داعي لتكرارها!! ولكني سأذكر ما هو منشور في الصحف – خارج المذكرات – مثل قرارات وزارة الداخلية – قبل الثورة وبعدها – التي نشرتها جريدة «وادي النيل» في أواخر فبراير 1919 ومنها: «إغلاق المطاعم والقهوات في الساعة العاشرة مساء، وإقفال السينماتوغراف والتياترات ومحلات الملاهي في الساعة الحادية عشرة مساء». أما أهم قرار يهمنا ويخص الريحاني فقد نشرته جريدة «مصر» في منتصف أبريل 1919 ونصه يقول: «أمرت السلطة العسكرية بإقفال مسرح نجيب الريحاني حتى تصدر أوامر أخرى». 
ومن المؤكد أن هذا القرار صدر بسبب عروض الريحاني المعضدة للثورة – كما جاء في مذكرات الريحاني - ومنها عرض مسرحية «قولو له» تأليف الريحاني وبديع خيري وألحان سيد درويش!! وهو العرض الذي أُعلن عنه في الصحف طوال شهرين .. ورغم ذلك لم أجد ما يفيد تمثيله بالفعل على خشبة المسرح سوى مرة أو مرتين!! أما مسرحية «إش» فأعلنت عنها جريدة «مصر» في يونية قائلة: «بتياترو إجيبسيانة بشارع عماد الدين من يوم الاثنين 23 الجاري والأيام التالية، يمثل رواية «إش» بمناظرها الجميلة .. النيل وأبو الهول .. وألحانها البديعة. ويمثل نجيب الريحاني «كشكش بك»».
تتبعت نشاط الريحاني وفرقته طوال سنتين تقريباً من يوليو 1919 وحتى أغسطس 1921 من خلال ما نُشر في الصحف – مثل: المنبر، الأهرام، الأهالي، الإكسبريس، مصر، وادي النيل، النظام، الأخبار، السيف، البشير، النيل المصري، المقطم - فوجدتها فترة تكوين الريحاني فنياً من خلال شُهرة شخصيته الفنية «كشكش بك»، وعروضه الهزلية الكوميدية الخفيفة، التي بدأت تجوب الأقاليم مثل طنطا التي زارها في يوليو 1919 وعرض على مسرح البلدية فيها مسرحيتي «ولو» و«إش». ومنها انتقل إلى الإسكندرية وعرض على مسرح الحمراء مسرحيات: حمار وحلاوة، وإش، و ولو.
تناقضت الصحافة أمام عروض الريحاني! فعلى الرغم من انتشار إعلانات عروضه في هذه الصحف، إلا أنها نشرت أخباراً ربما تكون صحيحة، وربما تكون مدسوسة من منافسيه، كونها أخباراً عن عروضه في الأقاليم!! ومثال على ذلك ما نشرته جريدة «مصر» في أواخر أغسطس 1919، قائلة: «جاء من حضرة محمد أمين حسونة بميت غمر أن جوق نجيب الريحاني نزل ضيفاً في بلدهم وعند رفع الستارة وجد ثلاث فتيات خليعات لا غير فاضطر لمبارحة تلك المدينة وعدم التمثيل فيها. وجاءنا من حضرة فوزي عبد الله بالزقازيق أن هذا الجوق لم يجد من الإقبال ما يحببه في الإقامة فرحل. وجاءنا من إسماعيل سلامة بطنطا أن تلاميذ المدارس هناك حينما علموا بمقدم هذا الجوق قابلوه على المحطة وطلبوا منه عدم عرض رواياته فرحل». وبعد شهر نشرت الجريدة نفسها خبراً على لسان شخص – اسمه محمود سليمان غنام - من بور سعيد أن الريحاني عرض هناك عرضاً كوميدياً، لم يقبله الجمهور، فقام خطيب المسجد بعد صلاة الجمعة وحث الناس على مقاطعته، فسافر الريحاني غير مأسوف عليه!!
ورغم هذا استمر الريحاني في عروضه المسرحية الجديدة ومنها مسرحية «رِنْ» و«فَشر» بوصفهما من المسرحيات التي ينافس بها منافسه الكوميدي «علي الكسار» ومؤلفه أمين صدقي، الذي كان أول كاتب لمسرحيات الريحاني، قبل أن يشارك الريحاني بديع خيري، مما جعل صدقي يشارك الكسار!! أي أن المنافسة كانت بين الريحاني وبديع وشخصية كشكش بك، أمام الكسار وأمين صدقي وشخصية بربري مصر!! وتُعد مسرحية «فُرِجَت» إحدى محطات المنافسة التي عرضها الريحاني بالإجبسيانا في يونيو 1920 وهي من تأليف الريحاني وبديع خيري ومن تلحين إبراهيم فوزي.
هذه المنافسة أشارت إليها جريدة «مصر» في يوليو 1920، من خلال كلمة موقعة باسم قارئ، نشرتها تحت عنوان «التمثيل عندنا» جاء فيها: «ضمني مجلس من عُشاق التمثيل الهزلي، فذهبنا في الحديث مذاهب شتى، وأخذنا نتعارض في أي الفرق أدق اختياراً للروايات المضحكة المهذبة، وأيها أميل إلى الانتقاء الفكاهي الخليع، بغض النظر عما فيه من ضرر بالأخلاق وإفساد للأذواق. فقال القائلون الأستاذ الريحاني يمثل ويؤلف في آن واحد، فروايات فرقته من الطراز الأول بخلاف زميله صدقي فإنه مؤلف يجتهد في إتقان ما يؤلفه، وليس له بعد ذلك من الشأن التمثيلي ما يرقى به فرقته ومهنته. وكان الآخذون بهذا الرأي هم الأكثر عدداً والأصدق نظراً. إن التمثيل الهزلي مفيد لو قصد به الفائدة الأخلاقية لنفوس سامعيه. وما أجمل الحكمة في قالب الفكاهة، والنقد في سياق المضحكات. وأما إذا كان القصد منه غير ما ذُكر، فإنه شر لا يُطاق، وفساد لا يُحتمل».
وفي أغسطس 1920 قدّم الريحاني عل مسرح الإجبسيانا مسرحيته الجديدة «أنت وبختك» من تأليفه مع بديع خيري، وتلحين محمود رحمي وإبراهيم فوزي. وفيها قام الريحاني بدور كشكش، بجانب بقية شخصيات المسرحية، وهي: خضرة، وبمبة، وطلبة، وحُصرُم، والعسكري، وقشطة، وبطة، وبهنسي، وفرماوي، وقُرطُم، وحليمة. وفي الشهر التالي عرض مسرحية «24 قيراط» من تأليفه بالاشتراك مع بديع وألحان محمود رحمي. ومن ثم توالت العروض الجديدة مثل: «ريا وسكينة»، و«الخير على قدوُم الواردين»، بالإضافة إلى إعادة عروضه السابقة من حين لآخر، وأغلب ما عرضه الريحاني من عروض كان بطلها كشكش بك إلا مسرحية «ريا وسكينة»!! لذلك أشارت جريدة «المنبر» في يوليو 1921 إلى هذا الأمر – غير المتوقع – في إعلانها قائلة: «تياترو الإجبسيانة .. ابتداء من 30 يونية حادث غريب. إذا كان نجيب الريحاني أعظم مُمثل كوميدي يُضحك الجمهور في روايات كشكش بك، فلا شك أن نجيب الريحاني أعظم مُمثل تراجيدي يُبكي الجمهور في رواية «ريا وسكينة» التي سيقوم فيها بتمثيل دور مرزوق، وهو مُجرم في عصابة ريا وسكينة المشهورة بخنق النساء وبتوحش».
وبهذه المناسبة يجب أن أقول: إن أغلب إعلانات مسرحيات الريحاني في الصحف – حتى الآن – كانت لا تذكر من الأسماء إلا اسم المؤلفين والملحنين فقط!! وابتداء من أغسطس 1921 تغير الأمر بعض الشيء، عندما نشرت جريدة «النيل المصري» بعض أسماء الفرقة، مثل: سيد بهنسي، وفاطمة قدري، وزينب بدران.


سيد علي إسماعيل