خشبة المسرح كمساحة متجسدة: يمشي الممثل في مكان، فيتغير المكان(1-2)

خشبة المسرح كمساحة متجسدة: يمشي الممثل في مكان، فيتغير المكان(1-2)

العدد 837 صدر بتاريخ 11سبتمبر2023

      لا يمكن إدراك الشيء في علاقته بذاته . وتعتمد كيفية ظهوره علي الشخص الذي يدركه بقدر ما تعتمد على سماته الموضوعية  . فربما يكون الكهف مثلا شكلا محددا وله ارتفاع وعمق محدد، ولكنه سوف يتجسد كمكان لإيواء كائن من حجم ملائم وجسم مناسب ويمكنه أن يدخل معه في علاقة ذات معنى . ويُصنع المعنى من التضافر بين الاثنين .  
     ويطبق نفس المبدأ على المباني والفراغات حيث يحدث المسرح . ويمكن قياس هذه السمات الموضوعية والمادية لهذه المباني والفراغات، وتمثيلها بالرسوم والخطط أو الصور الفوتوغرافية، ووضعها في سياق تاريخي أو وصفها في إطار خصائصها الأسلوبية والجمالية . وحتى الوظائف الاجتماعية والثقافية للمساحات المسرحية، بقدر ما يتم الاتفاق عليها وفهمها عموما، فانه يمكن وصفها كجزء من واقعها الموضوعي . ومع ذلك لا يمكن لأي من طرق التعامل مع مباني المسرح هذه أن يضاهي أو يعيد إنتاج تجربتها المباشرة . ويمكن تناول التجربة المباشرة، وتضافر الشيء مع الجسم المدرك من خلال الاهتمام بموضوع الإدراك بقدر متساو, والفرد المدرك، والموقف المحدد الذي يمر به ذلك الشخص في لحظة معينة . وتتبنى هذه الأطروحة هذا التناول في العلاقة مع مباني المسرح، وتهدف الى تطوير منهجا لوصف كيفية ظهورها، فضلا عما هي عليه موضوعيا . وفي المراحل الأولى من هذا البحث حاولت صياغة هذه الفكرة في حوار عابر مع المخرج المسرحي دومنيك درومجول Dominic Dromgoole  . وكانت استجابته مرحبة ولكنها مقتضبة : “ أجل . يتحرك الممثل في المكان، فيتغير المكان “  . 
     ولم تكن هذه فكرة  جديدة في حد ذاتها إذا كان الأمر يتعلق ببساطة بخشبة المسرح وحدها . فلا شك أن حضور حركة الممثلين ( وأيضا الأشياء والإضاءة والعناصر السينوغرافية ) تحول ادراكنا وتفسيرنا لفراغ خشبة المسرح أثناء الأداء . ولكن درومجول لم يقل « يمشي الممثل على خشبة المسرح، فتتغير خشبة المسرح» . لقد تحدث عن مكان وهذا المكان يشير إلى أكثر من خشبة المسرح نفسها : « انه المساحة التي يتقاسمها المتفرجون والمؤدون في الأداء وتشمل خشبة المسرح، والمناطق المجاورة لها مباشرة مثل الأجنحة أو مكان الفرقة الموسيقية، علاوة على القاعة ككل . وسوف أشير إليها باعتبارها «نظام قاعة المسرح stage auditorium system» في هذه الدراسة، في غياب مصطلح راسخ بشكل أفضل لهذا الجزء المحدد من البنية المعمارية الأكبر للمسرح. وحقيقة أنه لا يوجد مصطلح شائع الاستخدام له هو أحد أعراض التركيز شبه الحصري على مكان خشبة المسرح في علم المسرح . إذ يتم وصف فراغ خشبة المسرح وتحليله وتصنيفه، كما يُمارس في الأداء، بتفصيل كبير وبدرجات من التطور الكبير، كما ستظهر في مراجعة الأدبيات في الفصل التالي . ومع ذلك لم تلق قاعة المسرح الاهتمام الذي تستحقه . وبالطبع يمكن أن يوجد وصف مختلف أنواع قاعات المسرح في كتب عمارة المسرح، ولكن الغالبية العظمى لهذه الكتب مكتوب من منظور تاريخي أو تقني ويقدم فقط وصفا للكيفية التي تقف خلالها المباني فارغة غير مستخدمة وقابلة للقياس . 
     والاستثناء الملحوظ لهذه الفكرة هو كتاب ديفيد ويلز « التاريخ المختصر لمكان الأداء A Short History of Western Performance Space “  ويقرر في المقدمة أنه لا يمكن تحليل أحداث الأداء بشكل منفصل عن المكان الذي تحدث فيه، بعكس نصوص المسرحيات : “ المسرحية كنص يمكن أداؤها في المكان، ولكن المسرحية كحدث تنتمي الى المكان، وتجعل المكان يؤدي بقدر ما يؤدي الممثلون» . ولأهداف أطروحتي، فان العكس صحيح :  « لا يمكن تحليل الفراغ بشكل مستقل عن الأداء « . فمبنى المسرح كما تتم تجربته في الأداء هو كيان إدراكي مختلف جذريا عن نفس المبني عندما يكون مظلما وفارغا. 
     وحتى مع وضع هذا في الاعتبار، فهناك طرق مختلفة للقيام بتحليل الفراغ في الأداء . ويتميز كتاب ويلز بالاهتمام الحريص بالذهاب إلى المسرح كممارسة اجتماعية ( ومكانية) . ويركز كتاب مارفن كارلسون « أماكن الأداء Places of Performance” على موقف مباني المسرح في سياقها المعماري والاجتماعي والاقتصادي الأوسع – فمثلا كيف يتم تضمينها في الاقتصاد الثقافي للمدينة . وكتاب جاي ماكولي Gay McAuley « الفراغ في الأداء Space in Performance «، رغم اهتمامه عموما بفراغ خشبة المسرح نفسها، فانه يعالج أيضا أسئلة كيفية مشاركة الجماعات في مباني المسرح خارج زمن الأداء المحدد، أي، مدى اندماج المسرح في مجتمعه  . وقد وصلت هذه الكتب الثلاثة في تحليلاتها لفراغ المسرح مبناه من خلال تبني نظرة عالمية للهياكل الاجتماعية وأنماط السلوك التي تشكل الممارسة المسرحية . وبالتالي يمكن وصف موقفهم التحليلي بالنسبة لموضوع بحثهم بأنه رؤية شاملة تقريبا، ونظرة من أعلى، تلتقط تدفقات الناس وهم يتجمعون ويتفرقون في أفعال الأداء والحضور إلى المسرح . 
     هدفي في هذه الأطروحة مختلف . إذ أنني أحاول تطوير منهجا سوف يسمح لي بتغيير المنظور من المشاهد الموضوعي العليم objective and omniscient observer  إلى المشارك الموجود والمتجسد  embodied and situated participant . ومن خلال تحليل التجربة المكانية لمباني المسرح من الداخل، أي, من خلال وصف ما يبدو عليه الفراغ من موقف معين وفي لحظة معينة من الأداء، أقدم رؤية ماهية عمارة المسرح، أو ما يمكن أن تكون عليه، في الإدراك الفردي . وهذا لا يعني أن نقول إن هذا الإدراك الفردي أكثر ملائمة من الوصف التاريخي أو التقني لحقيقة المبنى الموضوعية، وملاحظاتي لا تعني استبدال هذا الوصف . فأنا أهدف، على الرغم من ذلك، إلى توسيع نطاقها . بمعنى أن هذا التناول ممكن فقط بسبب العمل الذي يتم أداؤه من خلال علماء مثل ويلز وكارلسون, ومن يسيرون على خطاهم . لقد فتحوا مجال التحليل المكاني من خلال تنظير الفراغات والمباني ليس باعتبارها حاويات ثابتة أو حقائق معطاة، ولكن باعتبارها كيانات ناتجة اجتماعيا وبالتالي قابلة للتحول . ويمكن توسيع فكرة قابلية التحول الآن : وصف نظام خشبة المسرح والقاعة من منظور داخلي يسمح لي أن أصف ما يمكن أن يسمى « التشكل الإدراكي Perceptual Morphology لعمارة المسرح”، ومعالجة ظواهر مثل سيولة الفراغ البدني، وتجارب الصدى والاستجابة بالنسبة للبنية المعمارية، والتغيرات في توجه الجسم والفراغ . ان ما أقترحه، بإيجاز، هو وصف وتمييز مباني المسرح باعتبارها فراغ معاش بعيدا عن المصطلحات المنسوبة إلى إقليدس، والمساحة المجردة القابلة للقياس. 

عمارة المسرح باعتبارها فراغا معاشا 
     الفراغ المعاش هو الفراغ كما نمارسه في الحياة اليومية : الفراغ مريح أو غير مريح، وفراغ الخيال والعاطفة، وفراغ القرب والبعد، وفراغ الأعلى والأسفل، وفراغ الداخل والخارج . وهو مرتبط بشكل وثيق بالجسم وآفاقه الإدراكية . وسوف يعالج الفصلين الثاني والثالث من هذه الأطروحة فكرة الفراغ المعاش بشكل أكثر تفصيلا، ولكن يكفينا الآن أن نقول ان الفراغ المعاش يجب أن يعيشه دائما شخص ما، وأن النظر إلى خشبة المسرح كفراغ معاش يعني بالتالي تبني منظورات أولئك الذين يشاركون فيه، كمؤدين و متفرجين، وبدرجة أقل، أولئك الذين يعملون خلف المشاهد ( كفنيين خشبة المسرح مثلا ) . وسوف يختلف الفراغ كمكان معاش بواسطة المؤدي، بشكل كبير، عن الفراغ باعتباره مكانا معاشا بواسطة المتفرجين, ولكن هذا لا يعني أبدا أن هذين الفراغين منفصلين تماما .  إنهما يتداخلان بطرق متعددة : ربما كان المتفرج مستوعبا تماما بشكل خيالي – ويعيش لحظيا – في فراغ خشبة المسرح، ولكي يعود إلى ذاته بهزة، عندما يدق تليفونه النقال فجأة . 
     ولا تساعد فكرة الأداء، بوجه خاص، باعتباره شيء ينتجه المؤدون ويراه الجمهور فقط أو يستوعبه . وكما أن الأداء هو شيء لا يأتي إلا من خلال جهد إدراكي وخيالي مشترك فان إدراك الفراغ ( الذي كما سنرى أيضا هو إنتاج للفراغ) ويشمل بالتساوي أو بشكل جماعي الممثلين والمتفرجين الذين يمثلون معا . وغالبا يُعتقد أن المؤدين هم الذين ينتجون تأثيرات باستمرار فقط، وغالبا ما يتم التقليل من تفاعلهم مع المحفزات الخارجية دائما . وتجذب العروض في المسارح المفتوحة مثل قاعة مسرح الجلوب أو المسارح اليونانية الكلاسيكية الانتباه الى هذه الحقيقة . فهناك، ينظر إلى المؤدين على أنهم أقل تحكما حيث من الواضح أن الأداء أحداث مشروطة، تعتمد على الطقس والقوى البيئية وفي تدفق مستمر . وأريد أن أؤكد أن نفس الشيء يصدق بالنسبة لكل أشكال الأداء، وأن المؤدين والمتفرجين والبيئة يشكلون نظاما معقدا يستحيل من خلاله فصل فعل أو تجربة بعينها . وعلى مدار هذه الدراسة سوف انظر كذلك الى تجربة كل تلك الجماعات المشاركة بطريقة كلية, مع الأخذ في الاعتبار مجموعة متنوعة من وجهات النظر . والتحدي المنهجي لفعل ذلك، أي وصف مباني المسرح في إطار الفراغ المعاش، هو كيفية الوصول الى هذه المنظورات المتنوعة . وسوف أتناول هذا التحدي من زاويتين، عموما، تتميزان بأنهما زاوية نظرية و زاوية تجريبية . ونظرا لأن هذه الأطروحة دراسة نظرية في الأساس، فان أهم أداة للتعامل مع مفاهيم الفراغ المعاش والتجربة المتجسدة هو الأدبيات الفينومينولوجية، وبدرجة أقل، الأدبيات النفسية المختارة لهذه الدراسة . وسوف أقدم رؤية عامة لهذا قريبا . وبالإضافة إلى هذه الأدوات النظرية، سوف أعتمد على تجربتي المتجسدة والفكرية كمتفرج في مجموعة متنوعة من أحداث المسرح . وباعتباري راقصة سابقة، فربما لا يكون من المستغرب أن تكون كثير من أمثلة الأداء من مجال الرقص، علاوة على دراسة حالة تستكشف المعمار البدني الذي يبتكره الرقص . وأوافق علي تقييم الراقصة والكاتبة اليزابيث ووترهاوس بان هناك مجموعة من المعارف بين الراقصين والمؤدين بدأ التنقيب عنها . وتتميز دراستي بالرغبة في تقويم المنظور والخبرة والمعرفة الجسدية للمؤدين . ولزيد من فهم تجربتهم ومنظورهم سوف استخدم ملاحظات العروض والتدريبات وأدبيات الأداء وكتيبات التدريب . وأعتقد أن تجربتي الشخصية السابقة في التدريب وأداء البالية سوف تؤثر حتما في تحليلي وتفسيري لبعض العروض، ولكنها لن يتم تناولها وتأملها مباشرة . 
.................................................................................
ليزا ماري بوللر تعمل استاذا بقسم دراسات المسرح في جامعة ميونيخ 
هذا المقال هو الفصل الأول من كتاب « عمارة المسرح كمساحة متجسدة» 
                
 


ترجمة أحمد عبد الفتاح