محاكاة إيماءات الكلام.. في الأداء التمثيلي(2)

محاكاة إيماءات الكلام..   في الأداء التمثيلي(2)

العدد 813 صدر بتاريخ 27مارس2023

دمج الأفكار : 
كوينتليان، كما وصفه روش، رأى تناسخ الأرواح من جسد إلى آخر . وهذا لا يختلف عن دمج الأفكار في نقاط النمو . في دمج الأفكار، يقوم شخصان ( أو أكثر) معا ببناء نقطة نمو مشتركة . فمثلا يقدم شخص الإيماءة ويقدم الآخر كلاما متزامنا معها . وعندئذ يملك كلاهما نفس نقطة النمو . والشكل غير المتوقع لدمج الأفكار هو عدوى طرفة اللسان، فعندما لا يستطيع شخص تذكر كلمة معناها واضح للجميع، وفجأة لا يستطيع أن يتذكرها محاوره . فإذا تضمن التفاعل دمجا للأفكار، فيمكن أن يتضمن أيضا دمجا لطرف اللسان من خلال محاكاة تلقائية . ويصف روش كوينتاليان بأنه يرى أن فن الممثل يتمتع بثلاث قدرات يمكننا أن نرى أنها تعزز دمج الأفكار مع الجمهور . ويملك مثلثنا نفس القدرات . فالممثل يحاكي المؤلف، الذي ينقل قوة كوينتليان الأولى – القدرة علي التصرف في جسمه. وهو في المقابل تتم محاكاته من خلال الجمهور، بمحاذاة مع القوة الثالثة – يؤثر في أجسام المتفرجين . ويبدو أن التأثير في المساحة المحيطة به – القوة الثانية – هو إيماءة  بحد ذاتها،  ولكنها يمكن أي يكون أيضا الضلع الثالث في مثلثنا، الممثل يقلد الجمهور ( رد فعل الجمهور الذي يلتقطه الممثلون ) . وبمحاكاة إيماءة وكلام آخرين، علي أي ضلع من أضلاع مثلثنا، يعود إلى الحياة المحمول النفسي ومجال التناقض الهادف الذي يميزه . وهناك تقدم في دمج الأفكار في كل مكان . والمثلث هو المفتاح، ومفتاحه المحاكاة . 

المحاكاة : 
تتيح المحاكاة الوصول إلى نقطة النمو ومجالات تعارض المتحدثين الآخرين وتجعل دمج الأفكار ممكنا . ويحاكي ناقلو الإيماءة بشكل تلقائي، كوسيلة لفهم ما ينقلونه – يقومون بالنقل من خلال الإرسال، عن طريق المحاكاة . ويجلب القيام بذلك فكرة وحدة الإيماءة علاوة علي السياق الذي يميزها داخل الكينونة الإدراكية للمحاكي/الناقل . 
     وبتطبيق هذه الفكرة علي المحادثة المتخيلة بين شخصين، فإننا نتخيل سياقات يمكن الوصول إليها عن طريق المحاكاة ونمط وجودهم الخاص . وهذا يتضمن كل من نقط النمو ومجالات التعارض ذات المغزى لكل منها . وبتطبيقها علي المشاهد والممثل، يمكننا أن نتخيل تفعيل السياقات والمعاني المشتركة أثناء الأداء . 
     وقد أعد المسرح لجعل المحاكاة أمرا سهلا . وقد بني مسرح الجلوب الحديث وفقا لمواصفات الأصل، ويجلس الجمهور بالقرب من خشبة المسرح . ونظرا  لأن مشاهدي عصر النهضة – الفعالين إن جاز التعبير علي الأقل – فقد كانت هناك وفرة في المساحة للجمهور لمحاكاة الممثلين ومساحة للممثلين والجمهور، بشكل تلقائي . وضوء النهار من خلال السقف المفتوح من شأنه أن يجعل حتى الإيماءات الدقيقة والحركات الأخرى مرئية، مع كل من الممثل وكلام الجمهور . 
 وسوف ألخص بضعة نقاط فيما يتعلق بالمحاكاة داخل المسرح وخارجه . وليس من المعقول أن نتخيل أن يقلد الجمهور الممثلين ( وكذلك تقليد المملين للمؤلفين ) : 
في لقاءات المائدة المستديرة، لاحظنا دمج الأفكار – يخلق المشاركون نقطة نمو مشتركة ومجالات تعارض عندما يتولاها متحدث من آخر . 

آلية دمج الأفكار هي المحاكاة  
من خلال المحاكاة، يمكن أن تتناغم نقطة النمو ومقاطع الخطاب وتتزامن بين الأفراد . 
وهذا يقود الشخص (ج) إلى مجالات تناقض الشخص (ص) والعكس صحيح . 
نقاط النمو بطبيعتها ليست مستقلة عن السياق التي تتمايز عنه . وهذا يعني أنه إذا ولّد المتحدث سياقا، فان عملية محاكاة الإيماءة ذاتها يمكن أن تنشط، بالنسبة للمحاكاة، نقطة نمو ومجال تعارضات جديد يتطابق مع نقطة النمو ومجال تعارضات المتحدث ذي الدلالة . 
المثلث إذن يساعد دمج الأفكار مع كل ضلع من أضلاعه . وتقدم الأجسام البشرية إمكانيات متطابقة لتجسيد الإحساس والمعنى . والمحاكاة نوع من التجسيد المستعار borrowed embodiment  - استعارة أفعال ذات مغزى من الآخر . 
هل هناك محاكاة تلقائية ؟  أجل . في كثير من الحالات 
في عام 2006، درست ايرين كيمبارا المحاكاة الإيمائية كظاهرة تفاعلية . والمثال في الشكل (2) مأخوذ من بحثها . المحاكاة، كما اصطلحت عليها كيمبارا، هب عملية تزامن بين شخصي  interpersonal synchrony، تخلق معنى التضامن وتبرز عندما يكون المحاورون مقربون شخصيا . ويقدم الشكل (2) هذه الحالة . صديقتان تتحاوران . ويبدأ المثال بإيماءة للصديقة علي اليمين . وتصف المشهد الفوضوي الذي يتطور علي رصيف المترو في طوكيو في ساعة الذروة، حيث تنتظر عدة خطوط الركاب وهو يصطفون ثم يتفرقون عندما يصل القطار داخل الحشد الذي يتأرجح . تصور اللوحة الأولى الكلام، وتصور اللوحة الثانية الكثافة والاتجاه الى اليسار بمصاحبة المتحدث . بدأت المستمعة في إعداد إيماءاتها أثناء اللوحة الثانية أيضا، واللوحتان الثالثة والرابعة هما محاكاتها . والصورة طبق الأصل : نفس السطرين، ونفس الكثافة ونفس الاتجاه . ومن وجهة نظر المحمول النفسي، تضمنت وحدة فكرة المتحدث الثاني صورة من المحمول النفسي للمتحدث الأول . 
 كان أشخاص كيمبارا أصدقاء مقربين، ولكن محاكاة الكلام الإيماءة حدثا مع التخصيص، وبين غريبين أيضا، وهذا أقرب إلى السياق المسرحي . وفي التجربة التي ابتكرها فوروياما ( عام 2000) تضمنت شخصا واحدا يعلم شخصا آخر كيف يبتكر صندوقا أصليا . وفي الشكل (3) اللوحة 1، يحاكي المتعلم علي اليسار إيماءات المعلم . وحدث ذلك دون أن يتحدث المتعلم ولكنه كان متزامنا مع كلام المعلم . وبينما قال المعلم “ اسحب الزاوية الى أسفل “ أدى المتعلم الإيماءة أثناء الجزء الموجود بين القوسين . أدى المتعلم كلام الآخر، ومزجه بإيماءته، وكأنهما كانا يبتكران معا محمولا نفسيا واحدا . أوجه التشابه مع ما يسميه جيل Gill (عام 2007) ملحوظة . 
 وتحدث أيضا المحاكاة العكسية . يحاكي المتعلم إيماءة المعلم بمزجها مع كلامه . ومرة أخرى، هناك تسكين للإيماءة، مرة أخرى، وهناك نوع آخر من المحمول النفسي المشترك . ففي اللوحة الثانية يسيطر المتعلم علي إيماءة المعلم ويمزجها بكلامه . ويقول “ يجب أن تلوي هذا “، وأثناء الكلام بين الأقواس يحرك المعلم يده لأسفل . وكما يلاحظ فوروياما، أدار المعلم كرسيه بحيث كانت مساحة الإيماءة من اليسار إلى اليمين متاحة له وللمتعلم في نفس الوقت، وهي مناورة دعت المتعلم إلى الدخول إلى مساحة الإيماءة الخاصة به .  من اللافت للنظر أن المحرمات القافية الأمريكية التي تحظر علي الغرباء عادة الاتصال الجسدي غير العرضي قد تم تجاوزها، ربما لأن الأيدي أصبحت رموزا ولم تعد أيدي، وأجزاء الجسم الفعلية تنتمي لشخص آخر . 

اجعلها بنفسك محاكاة 
ربما يكون الحد الأقصى في دمج الأفكار هو محاكاة مرسل الشفرة لشخص غريب مرئي ومسموع من خلال الفيديو فقط . والنتيجة هو الإتيان بنقطة التمايز وسياقها داخل الحالة الفورية لوجود مرسل الشفرة الإدراكي ؛ فمرسل الشفرة الآن يوجد في الإيماءة والكلام ويكتسب استيعابه لهما . ويولد تدريبا عند ماكنيل هذه التجربة . يتم تمثيل ثلاثة متحدثين ابتكروا مجالات تعارض مختلفة لنفس مشهد الكارتون . زمن خلال محاكاة إيماءاتهم وكلامهم، قدموا في التمرين، قارئا يمكنه أن يعايش مجالات التعارض ذات المغزى التي تنشأ وكأنه السحر ( ولكنها ليست سحرا، بل دمج للأفكار من خلال المحاكاة ) . 

الأداء والمشاهدين 
بعد أن وصفنا كيف تشكل الإيماءة والكلام أدني وحدات التفكير، ونقاط النمو، وكيف تكون المحاكاة دمجا للأفكار، والمحاكاة التي تستعيد نقطة النمو عند المتحدث الأصلي وجال التعارضات ذات المغزى، يمكننا أن نرى كيفية تطبيق ذلك في الأداء المسرحي . 

أضلاع المثلث الثلاثة
 محاكاة الممثل بواسطة المشاهد : 
وهذه أبسط الحالات – إنها ما يفعله مرسل الإيماءة . والمشاهدون، من خلال المحاكاة، يدمجون أفكارهم مع المؤدي . ويمكن أن تكون أدنى الحركات، ومجرد توتر الجسم هي مادة محاكاة المشاهد . وبالمشاهدة باهتمام، ومحاكاة إيماءات الممثل، تظهر نقاط النمو ومجالات التعارض المتضمنة في الأداء، ويصبح الوجود المشترك ممكنا . ويصف رافيد الظاهرة المعروفة في عالم المسرح بأنها “التمدد dilation “ – يبدو الممثل وهو يقف علي خشبة المسرح أن يتضخم في الحجم أمام عيونهم . ويمكن أن يكون التمدد حالة أولية في المحاكاة والتجسيد – ميول صغيرة من جانب الممثل يولدها إحساسه بهم . وتشير إلى الممثل التي يبدو أنه يضخمها . 
محاكاة المؤلف بواسطة الممثل : 
هل تتضمن الكتابة إيماءات خفية ؟ لا يعني النثر المكتوب بالضرورة أن التصوير غير موجود ؛ فمن الممكن بالأحرى أن نكتب بالطريقة التي تجعل الإيماءات مندمجة في النص المكتوب – ترتيب اللغة في نقاط نمو من خلال الصور . والقارئ الذي يقرأ بصوت مرتفع، سوف يسترجع الإيماءات التي هي جزء من نقاط النمو في النص ضمنيا . ووصف الكتابة بشكل تقليدي باعتبارها  خارجة عن السياق ، وكأنها قائمة بذاتها . ومع ذلك ربما فات التقاليد شيء . اذا كان أصل اللغة هو في الحقيقة أصل اللغة والإيماءة، نسق موحد، فربما تكون هناك إيماءات خفية في النثر المكتوب باعتبارها مسألة تتعلق بتاريخه . وسوف يواجه نظام الكتابة الذي يشتمل علي صوت الكلام صور الإيماءات التي تنظم أفعال الكلام، وتتجاوز لحظة الكتابة مجرد التدوين الصوتي للنثر الفعلي . 
     ولا يمكننا أن نقول هل تولد الإيماءات التي نقوم بها إيماءات المؤلف، ولكن وضعت الصورة هناك من خلال المؤلف كجزء من كتابتها وسوف يتم استدعاء إدراكها في الإيماءات بسهولة . وحتى بدون الإيماءات الصريحة، فان الصور موجودة ويمكن محاكاتها . ومن ثم، في ضلع المثلث الثاني،  فان الكثير مما نشعر بأنه إيقاع النثر المكتوب والوصفي، علاوة علي الحوار، يبدو إيمائيا . وهكذا يمكن للممثل استرجاع الإيماءات التي وضعها المؤلف – حتى لو كانت في الماضي – في النص المكتوب الذي يقدمه . ومن خلال المحاكاة يمكن أن يسترجع الممثل نقطة نمو المؤلف ومجالات التعارض ذات المغزى . فنحن لا نعرف بالطبع أن إيماءات جين أوستن إذا رتلت مقطعا بصوت عال، كانت مثلنا، لكننا نعلم أن الإيماءات التي وجدناها بأنفسنا هي التي وضعتها . وإذا قرأنا هذا الجزء الصغير من خطاب كتبته الشخصية “ جين “ في روايتها “ الكبرياء والتحيز “ بصوت عال بحركات اليد، يمكن أن نحدد مكان النص إيمائيا : “ لقد حدث شيء ذا طبيعة غير متوقعة وخطيرة، ولكني أخشى أن أنبهك – تأكد أننا جميعا بخير . وما يجب أن أقوله يرتبط بالبائسة ليديا “ . الممثل الذي يقرأ هذه الكلمات يمكنه أن يعيد تنشيط الإيماءات المبنية فيها، وبهذه الطريقة يسترجع نقطة النمو الأصلية ومجالات التعارض عند أوستن . 
     ومن الناحية الأخرى، يبدو النص الحرفي للكلام الفعلي المنطوق، والذي  فقد إيماءاته الأصلية، نصا مثيرا وكأنه غير إيقاعي وغير مفهوم بشكل واضح (وإذا قرأنا هذا النص وشكلت  إيماءاته فإنها تبدو وكأنها نبضات مكررة تضرب كل ذروة تأكيد، وتبقي وحدها بعيدا عن الإيماءات ) . 
هالدمان : بات لا يريد ذلك . ولا يعرف كيف يفعل ذلك، وليس لديه أي أساس للقيام بذلك بالنظر إلى هذا، وسوف يكون لديه أساس ... وسوف يدعو مارك فيلت وهما الاثنان ... ...ويريد مارك فيلت أن يعمل الآن لأنه .... 
ولأن هذا الضلع في المثلث من المحتمل أن يكون الأقل توقعا من جانب القارئ، سوف استغرق بعض الوقت لتصويره في الأداء المسرحي الفعلي . وبتناول إحدى نقاط رواية « الكبرياء والتحيز « مرة أخرى، تتجول ليزي في بيمبرلي وتعتقد أن لا أحد من العائلة في البيت، تجد نفسها فجأة أمام دارسي وجها لوجه . وهذه اللحظة بالنسبة للشخصيتين لحظة مفاجأة وإحراج . ولكنها أيضا لحظة ذات أهمية في القصة . تصف أوستن رد فعل دارسي بأنه قد بدأ للتو فعلا . 
     جربت أولا إيماءة تتوافق مع هذا السطر فقط، دون النظر إلى السياق السابق لعلاقة ليزي الجديدة مع دارسي . كانت رعشة لأعلى في يد واحدة ( كما وصفها مراقب وتيدو وكأنها نوبة صرع ) – للتأكد من أنها “ البداية المطلقة”التي ارتبطت بالنص . ورغم ذلك، بالنسبة لمجال التعارضات المحتملة ذات المغزى في رواية أوستن، فإنها لم تضمن هذه الإيماءة في السرد كجزء من نقطة النمو . إذ تظهر إيماءة مختلفة كلية عن اعتبار السياق الفوري ( حيث قدمت مدبرة المنزل في بيمبرلي، لدهشة ليزي، توصية حماسية بشخصية دارسي، “ كريم، ودود، وعادل، وأفضل سيد “ . 
.....................................................................................
 • نشرت هذه المقالة في Journal for Cultural Research  عام 2014 والتي تصدر عن دار نشر Tylor & Francis . 
 • ديفيد ماكنيل يعمل أستاذا بقسم علم النفس بجامعة شيكاجو في الولايات المتحدة الأمريكية . 


ترجمة أحمد عبد الفتاح