من ذاكرة المسرح.. العالمي بيتر بروك وجون جيلجوود

من ذاكرة المسرح.. العالمي بيتر بروك وجون جيلجوود

العدد 665 صدر بتاريخ 25مايو2020

يمثل بيتر بروك حالة متفردة من الفن والتجربة والثقافة والوعي بماهية المسرح , فهو واحد من أهم رموزه , له العديد من التجارب الفنية المثيرة , التي بعثت أصداء عالية على المستوى العالمي , درس في أكسفورد ومارس الإخراج , وكانت إبداعات شكسبير هي  استفزازه الحقيقي وعالمه الأثير , وفي عام 1970 أسس المركز الدولي لأبحاث المسرح في باريس , ليصبح بداية لميلاد جديد للوعي بجوهر ومفهوم  الظاهرة المسرحية , حيث سافر بروك مع فريق عمله إلى كل قارات العالم , واشتبكوا مع مختلف الأطر الثقافية , واتخذ بروك مساره إلى أعماق فن المسرح عبر البحث في كتب “زارادشت” , والملاحم الهندية , والتراث الصوفي مرورا بالأدب الإغريقي والروماني , ومسرح شكسبير , واقترب بوعي حاد من هذه الإبداعات في محاولة لتفسير أبعادها , وفهم منطقها , وتحليل علاقاتها بالثقافات التي أنتجتها .
يؤمن بروك بأن المسرح يجب أن يكون مسرحا , لذلك تؤرقه تساؤلات عديدة , ظل يبحث عن إجاباتها اللانهائية- - مثل ماذا نريد من المسرح ؟ ما هو هدفه ؟ هل له وجود حقيقي في حياتنا ؟ ما الذي يكشفه المسرح وماذا نكتشف نحن ؟ وهل يمكن للمسرح أن يغير شيئا في نفس الجمهور ؟ في حياته ؟ وفي مجتمعه ؟
تساؤلات عديدة امتد البحث عنها عبر الماضي والحاضر , ولأن بروك عاشق للمسرح فإن إبداعاته ورؤاه هي نتاج خبرة فنان مثقف مسكون بالتراث الإنساني العريض.
تناول بيتر بروك العديد من أعمال شكسبير , وأخرجها وفقا لرؤيته الواعية بطبيعة ذلك الإبداع الإنساني المثير , وقد تبلورت اتجاهاته الفنية في ضرورة الفهم البعيد لنسيج مسرحيات شكسبير , وعلى الرغم من أن التاريخ والواقع الفني , يقدمان فيضا من القراءات والتفسيرات لأعماله , فإنها لا تزال بكرا لم تمس , فهذا الإبداع الإنساني بداخله فكر مراوغ , أكبر كثيرا من التفسيرات ,التي تحاول أن تقول الكلمة الأخيرة  في أمر لا يمكن أن تقال فيه كلمة أخيرة .
في مطلع شباب بيتر بروك  عام 1952, قام بإخراج مسرحية “دقة بدقة “لشكسبير, وكان بطل العرض هو النجم الإنجليزي اللامع “جون جيلجوود” , الذي كان يعتبر في ذلك الوقت أسطورة من أساطير التمثيل والشهرة والنجومية الخارقة , لذلك كان اللقاء الأول لفريق التمثيل مع نجم العرض يستدعي لباقة شديدة من المخرج , ليزيل الرهبة والتوتر , الذي أصاب فريق العمل بسبب الوجود المتوهج الساحر للنجم الفنان , فالكل مستثار باحث عن ذاته , تائه وراء اللحظة++++ التي , سيقرأ فيها دوره أمام جيلجوود , وعبر امتداد جلسات العمل والقراءة والبروفات , اكتشف بروك أنه أمام كيان  فني وإنساني مشحون بعذابات الوجود وتناقضاته , فقد أدرك أنه  كائن ناري يتدفق حسا ووعيا , مشاعره فياضة , ثائرة حزينة ومرحة , ردود فعله السريعة تعكس كل ما يدور حوله , وتكشف كل انفعالات أعماقه , فهو شديد الفهم للحياة ولتفاصيل عمله , ورغم حساسيته المفرطة - -, إلا أنه كان في كثير من الأحيان متهورا خشنا عنيفا ومتوترا , لكننا في النهاية نصبح أمام مفردات لا تنفصل عن كيان فريد , شديد التعقيد والتركيب هو جون جيلجوود .
يؤكد بروك أن التناقضات الحادة الساكنة في أعماق هذا الممثل , والتي ظلت على توترها واشتعالها بلا هدوء , هي سر بريقه وتميزه , لأنها القوة السحرية الدافعة لفنه , وفي هذا السياق جاءت تجربة المخرج بيتر بروك مع النجم الأسطوري جون جيلجوود , كنوع من الحوار والتعاون , وكان من المستحيل أن تتخذ شكلا آخر, فإذا كان بروك قد استوعب أبعاد جيلجوود , إلا أن الممثلين  في العرض  كانوا يجدون صعوبة بالغة في التوافق مع إيقاعه اللاهث  وحركته المتوترة , وكانوا يرونه باعثا للجنون, فهو يرفض الاستقرار على الحركة المرسومة ويظل يغيرها , في حين يحفظ كل فريق العمل خطوط حركته واتجاهاتها  ويلتزم بها , دون محاولة لتغيير خطوة واحدة , وتظل حالة التغيير والتجريب مسيطرة على النجم المضيء حتى بعد أن يغادر خشبة المسرح  في ليلة العرض الأخيرة .
يرى بروك أن جيلجوود لديه معيار فني خاص يدركه بالحدس , ورغم أنه يبدو ظاهريا بغير منهج , إلا أن هذا في حد ذاته يعتبر منهجا يؤدي إلى تحقيق المعجزات , فهذه الحالة من عدم الاتساق هي قمة الاكتمال الفني , حيث البحث الدائم عن التغيير وصولا إلى الحقيقة , التي لن توجد أبدا , وعبر تجربة العمل مع النجم والممثل والمخرج جون جيلجوود , اكتشف بروك أنه على الرغم من الموهبة العظيمة , التي يمتلكها النجم الفنان – كمخرج - , فإنه حين يكون ممثلا يصبح بحاجة إلى مخرج شديد الوعي , يوجه فيض إبداعاته , ويضع حدا للتفاصيل الغزيرة , التي تعوق انطلاق الدوافع الدرامية الحقيقية المتوافقة مع العمل الفني , لذلك كان بروك يترك الأمور تتخذ مجراها , حتى تأتي الليلة الأخيرة للبروفات فيكون عليه أن يمارس دورا صارما , ويقنع نجمه اللامع باستبعاد كل التفاصيل التي اقترحها .
في مسرحية دقة بدقة يذكر بروك  , أن جيلجوود  الذي كان يلعب دور “انجيليو”, قد اندفع وراء دلالة الاسم , وطلب من مصمم الشعر المستعار أن يعد له باروكة ذات خصلات شقراء , تعطي انطباعا ملائكيا ناعما , ولم يسمح لأحد أن يراه , حتى جاءت بروفة الملابس وظهر أمام فريق العمل سعيدا  بملامحه  الحالمة , لكنه لاحظ  نوعا من الاستنكار الجماعي , فتنهد قائلا :  آه  - - وداعا يا شبابي , وظهر بعد ذلك وللمرة الأولى برأس صلعاء .
تكرر اللقاء بين بروك وجليجوود بعد ذلك بسنوات طويلة , في مسرحية أوديب  “لسينيكا “ على مسرح “الأولد فيك “, وفي هذه الفترة  1968, كان أسلوب بروك في العمل قد تغير , واتجه بقوة إلى تدريب فريق التمثيل على أداء الحركة الجسدية قبل الدخول في قراءة النص - - , كان فريق العمل يضم مجموعة من الممثلين الشباب المبهورين بلغة الأداء الجسدي , وهناك أيضا مجموعة من الرافضين لذلك الاتجاه الجديد , وهكذا أصبح بروك أمام حالة من التوتر , الذي يبعثه صراع جيلين , وكان عليه أن يتخطى هذا الوضع .
اجتمع الفريق كاملا ومعهم النجم الكبير جليجوود , واقترح المخرج أداء بعض التدريبات , التي نفذها الممثلون الشباب ببساطة , حتى جاء دور بطل العرض , وكانت لحظة حاسمة مشحونة بالتوتر , فالجميع في انتظار رد فعل النجم - - , هل سيتجه إلى المنهج الجديد أم سيرفض ؟
ببساطة وإدراك لطبيعة الأمور , وإيقاع الزمن , اندفع النجم لأداء المطلوب بحماس وقوة وتواضع وجدية , ونسى تماما أنه أسطورة التمثيل الخارقة , وتحول إلى إنسان يناضل مع جسده وسنوات عمره وصولا إلى الأسلوب المطلوب , وهكذا وببساطة ساحرة استطاع  جيلجوود  أن يعبر هوة ساحقة مشحونة بالصراع بين الأجيال , واتخذت العلاقة بين فريق العمل اتجاها  مغايرا بلا صراعات أو توترات .
لقد كان جليجوود الفنان متفاعلا مع  زمنه , يعيش حاضره ولا يتوقف أبدا عن البحث في كيفية امتلاك المعنى  والهدف والدلالة , وكما يشير بروك فأن هذا الفنان هو رابطة متوهجة بين جيلين , وكيان متفرد في زمنين .


وفاء كمالو