العدد 583 صدر بتاريخ 29أكتوبر2018

مات الفنان القدير سليمان نجيب عام 1955، ورغم مرور أكثر من ستين سنة على وفاته؛ إلا أنني سأكشف - في هذه المقالة - عن أمور وحقائق تاريخية، لم تُنشر عنه من قبل، ولا يعرفها أي إنسان حتى الآن؛ لأنني سأتحدث عنها من خلال وثائق غير منشورة .. فلنبدأ جولة الاكشافات!!
سيتعجب القارئ أن الفنان السينمائي سليمان نجيب - الذي مثّل جميع الأدوار في السينما المصرية المتنوعة، وبالأخص أدوار الباشا – هو أحد أعلام المسرح المصري! ولو اقتنع القارئ بذلك، ربما لن يقتنع أنه كان أحد موظفي الدولة، وله ملف وظيفي به وثائق مهمة، مازال محفوظاً في دار المحفوظات العمومية تحت رقم 4007 محفظة رقم 42! والحقيقة المجهولة لأغلب المصريين في هذا الصدد، تقول: إن سليمان نجيب الممثل السينمائي المعروف، ستختلف صورته نهائياً عندما نعلم نشاطه المسرحي المجهول، ونطلع على وثائق ملفه الوظيفي!

سليمان نجيب مسرحيا
التاريخ المسرحي للفنان سليمان نجيب، يقول: إن موهبته المسرحي بدأت في الظهور عندما التحق بفرقة عبد الرحمن رشدي المحامي عام 1917، بوصفه ممثلاً. وفي عام 1924 التحق بفرقة جورج أبيض ممثلاً أيضاً، كما ذكرت جريدة النيل يوم 18/2/1922. أما الكتابة المسرحية – ترجمة واقتباساً وتأليفاً – فبدأت عام 1922 بمسرحية (24 ساعة)، التي كتبها بالاشتراك مع الفنان الأديب وصفي عمر لفرقة أولاد عكاشة، هكذا قال جريدة الأخبار في ديسمبر 1922! تلك الفرقة التي كتب لها مجموعة كبيرة من المسرحيات، منها: فتاة الأناضول، والميت الحي بالاشتراك مع حلمي سلام، والمشكلة الكبرى، والتوبة بالاشتراك مع وصفي عمر. كما كتب سليمان نجيب مسرحيتين لفرقة يوسف وهبي – مسرح رمسيس – هما: المرحوم عام 1925، وفي سبيل الواجب عام 1929، وكتب أيضاً مسرحيتين لفرقة فاطمة رشدي، هما: الدكتور عام 1929، و667 زيتون عام 1930.
ويُعدّ عام 1932 من أهم أعوام نشاط سليمان نجيب المسرحي؛ حيث أعاد إحياء (جمعية أنصار التمثيل) – بعد تذبذب نشاطها من عام 1916، بسبب وفاة مؤسسها الأول الأستاذ محمد عبد الرحيم – وأصبح سليمان وكيل الجمعية ورئيسها في العام التالي، كما ذكرت مجلة الكواكب في إبريل 1933. والملاحظ أن سليمان نجيب كتب أفضل نصوصه المسرحية لعروض هذه الجمعية، مثل: الدكتور عام 1933، وحادثة طربوش عام 1934، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه عام 1935، وفي سبيل الحقيقة عام 1936.
لم يكتفِ سليمان نجيب بالتمثيل والكتابة المسرحية، فوجدناه يلقي المحاضرات والندوات الفنية، مثل محاضرته، التي ألقاها عام 1937 في مقر الجمعية، وعنوانها (المسرح المصري خلال العشرين سنة الماضية). كما وجدناه يقوم ببطولة فيلم (الحل الأخير)، ويقوم كذلك بإخراج مسرحية (النضال) لجمعية أنصار التمثيل تأليف عبد الوارث عسر. وشارك نشاط الفرقة القومية بتأليفه لمسرحية (الزوجة الثانية) بالاشتراك مع عبد الوارث عسر، وأخيراً وجدناه وكيلاً لدار الأوبرا الملكية عام 1937. وهذه أهم المحطات في تاريخ نشاط سليمان نجيب المسرحي.

سليمان نجيب وثائقياً
أما وثائق ملف سليمان نجيب الوظيفي؛ فتعد كنزاً معرفياً، لأنها تضيف إلينا معلومات جديدة، تجعلنا نعيد كتابة تاريخ هذا الفنان بصورة صحيحة! ونستطيع من خلالها تغيير بعض الأمور في تاريخ مسرحنا المصري المعاصر! ناهيك عن قيمتها التاريخية؛ كونها معلومات مأخوذة من وثائق رسمية!!
فعلى سبيل المثال، تحسم هذه الوثائق سنة ميلاده بعام 1892، رغم وجود – ضمن الوثائق أيضاً – تاريخين آخرين لميلاده: هما عام 1893 وعام 1894! ومن الطريف وجود وثيقة تقول إن اسمه الحقيقي (إسماعيل نجيب مصطفى نجيب)، واسمه الأول (إسماعيل نجيب) اسم مركب، وتم تغييره عام 1923 إلى (سليمان نجيب) من خلال إعلان شرعي من محكمة مصر الابتدائية الشرعية. وأثناء عمله ممثلاً في فرقة عبد الرحمن رشدي، تمّ تعيينه في وزارة الأوقاف عام 1918 في وظيفة كتابية بناءً على شهادة الثانوية، التي مربوطها يبدأ بخمسة جنيهات؛ ولكن الوثائق تقول: إن (خاله) أحمد زيور باشا وزير الأوقاف ربط له ثمانية جنيهات راتباً شهرياً؛ لأنه درس سنتين في مدرسة الحقوق الفرنسية دون أن يستكمل الدراسة، ودون الحصول على الشهادة!!
كما تثبت الوثائق المنشورة دوراً وطنياً لسليمان نجيب - عندما كان يشغل وظيفة كاتب بقسم القضايا – حيث أضرب عن العمل ثمانية عشر يوماً أثناء ثورة 1919 تضامناً مع سعد زغلول، وتم خصم هذه الأيام من راتبه! ورغم ذلك أصبح – بعد أشهر قليلة - سكرتيراً خاصاً لوزير الأوقاف!! وظل في تصاعد وظيفي إلى أن أصبح ضمن سكرتارية مجلس (النواب/الشيوخ) في عام 1924.
كان سفيراً .. هذه الصفة كثيراً ما كنا نسمعها عن سليمان نجيب، عندما نُعجب بأدواره الأرستقراطية في أفلامه السينمائية، فكانوا يبررون تألقه في هذه الأدوار؛ لأنه كان سفيراً! ولكن الوثائق المنشورة توضح لنا إنه كان يشغل وظيفة الكاتب الأول – أي باشكاتب - بالقنصلية المصرية في أسطنبول لمدة عامين (1925 – 1927)؛ انقطع فيهما عن ممارسة التأليف المسرحي. ورغم ذلك لم ينجح في العمل الدبلوماسي لأسباب عديدة، منها تصرفه غير اللائق، الذي توضحه لنا وثيقة مؤرخة في 26/10/1925، وهي عبارة عن خطاب سري من وزير مصر المفوض للمملكة المصرية في الأستانة، إلى وكيل وزارة الخارجية، جاء فيه الآتي:
“ أتشرف بإحاطة سيادتكم علماً إنه في يوم عيد جلوس مليكنا المعظم بينما كنا بملابسنا الرسمية نستقبل المهنئين بدار المفوضية دخل علينا بأوده الاستقبال سليمان أفندي نجيب مأمور القنصلية لابساً بنطلون أبيضاً وجزمة بيضاء أي الملابس التي تلبس عند لعب التنس وقد لفت نظره إلى ذلك حضرة عبد الرؤوف حلمي أفندي ملحق المفوضية فأدعى بأنه يجهل ذلك. وحيث ما أتاه الأفندي المذكور يعد استخفافاً بهذا العيد العظيم إن كنا نمثل فيه جلالة الملك فلزم العرض لسعادتكم”. وفي ذيل الوثيقة تأشيرة من وكيل الوزارة، قال فيها: “ يُكتب للوزير بأن الوزارة تكلفه بتوبيخ الأفندي المذكور عما حصل منه”. بعد ذلك ترك سليمان نجيب العمل الدبلوماسي، وعاد إلى مصر ليتقلد وظيفة السكرتير الخاص لوزير الحقانية عام 1930. وهذا المنصب كان آخر عهده بالوظائف الحكومية الرسمية بعيداً عن الفن المسرحي!
وكيل دار الأوبرا الملكية
في عام 1937 قررت الحكومة تمصير الوظائف بإحلال المصريين محل الأجانب، فعينت - وكيل الأوبرا المصري - منصور غانم مديراً لها بدلاً من مديرها الأجنبي المسيو كانتوني. وبذلك أصبح منصب وكيل الدار شاغراً، فكتب جورجي رياض – مراقب الفنون الجميلة – مذكرة، رشّح فيها سليمان نجيب لتولي منصب وكيل دار الأوبرا؛ مبرراً ترشيحه بأن سليمان نجيب “من نوابغ هواة التمثيل وقد كان من أول الناهضين بهذا الفن، وقد قام ولا يزال يقوم في خدمة المسرح بجهود موفقة ومواقف رائعة يذكرها له جميع المتتبعين للنهضة المسرحية المهتمين بها”.
وأهم وثيقة تتعلق بهذا الموضوع، مؤرخة في 21/8/1937، وهي عبارة عن مذكرة من نائب مراقب الفنون الجميلة إلى وزير المعارف؛ يعترض فيها على ترشيح سليمان نجيب لمنصب وكيل دار الأوبرا! وأهمية هذه المذكرة تتمثل في موضوعيتها في مناقشة مبررات الترشيح، موضحة أهمية المنصب وما يحتاجه من كفاءة فنية غير متوفرة في المرشح الحالي – سليمان نجيب – وتقترح غيره! ولأهمية ما جاء في هذه المذكرة – وبسبب حجمها الكبير – سأجتزئ منها هذه الفقرات:
“... استندت المراقبة وقتئذ في ترشيحها لحضرة سليمان نجيب أفندي إلى أنه من نوابغ هواة التمثيل، وأن له فيه مواقف رائعة. إلا أن المراقبة ترى إعادة النظر في هذا الترشيح؛ لأن القدرة على التمثيل وتأدية الأدوار على خشبة المسرح، مهما كان من إجادة الممثل النابغ لها، وبلوغه بها حد الكمال، أمرٌ لا يمت بصلة إلى المهام الموكولة إلى وكيل دار الأوبرا. وإنما تقتضي هذه المهام الخبرة بالنظام الفني والآلي للمسرح، ومعرفة ما للعصور المختلفة من طراز خاص في الأثاث والملابس. والإحاطة بفن المناظر المسرحية، والدراية بما ينبغي توفره في كل منظر من المناظر، من حيث اتفاقه وزمن الرواية، وانسجامه مع مواقف كل فصل من فصولها. فضلاً عن تأثير الإضاءة المسرحية، ومدى امتصاص ألوان الستائر للأضواء وما إلى ذلك ......... فلهذا ترى المراقبة أن دار الأوبرا أحوج إلى وكيل فني منها إلى وكيل إداري  ........... فتتشرف المراقبة برجاء الموافقة على إرجاء ترشيح حضرة سليمان أفندي نجيب إلى حين تدبير وظيفة وكيل إداري للدار إذا لزم الحال، وتقترح تعيين حضرة الأستاذ خليل حسني أفندي في وظيفة وكيل دار الأوبرا الخالية. وحضرته خريج مدرسة الفنون الجميلة المصرية سنة 1914، وقد اشتغل رساماً بوزارة الأشغال ثم أوفد إلى فرنسا وتخصص في دراسة المناظر المسرحية، وحصل على دبلوم الفنون الجميلة من باريس سنة 1928. ولما عاد من البعثة تعين بدار الأوبرا، ثم نقل منها للتدريس بمدرسة الفنون التطبيقية، وهو في الدرجة السادسة من يولية 1931 ........ وقد خبرت فيه الهمة والنشاط مع الدقة في العمل والتزام المواعيد وشعوره بالمسئولية، وتقدير التبعات مما جعله موضعاً للثقة فضلاً عن كفاءته وثقافته الفنية”.
أهمية هذه الوثيقة – تاريخياً - إنها ذكرت بعض المعلومات اليسيرة عن شخصية مرموقة مجهولة! ولولا هذه الوثيقة ما كنا عرفنا فناناً اسمه (خليل حسني)، الذي يُعدّ من أوائل خريجي مدرسة الفنون الجميلة، ومن أوائل من درسوا الديكور المسرحي في فرنسا، ومن أوائل المتخصصين في (المناظر المسرحية)، ومن أوائل من درّسوا هذا التخصص في مدرسة الفنون التطبيقية بعد عام 1928! وقد حاولت بكل طريقة ممكنة أن أعرف شيئاً عن هذا الفنان الرائد المجهول، للأسف لم أفلح حتى الآن!!
وإذا تتبعنا وثائق سليمان نجيب – بعد ذلك – سنجده يتقلد وظيفة وكيل دار الأوبرا الملكية عام 1937، ثم يذهب إلى بعثة لم تُكتمل – ولم توضح الوثائق تفاصيلها – حيث استدعته الوزارة قبل إتمامها عام 1939. وفي عام 1944، يصبح سليمان نجيب مديراً للأوبرا الملكية، وينعم عليه الملك فاروق برتبة البيكوية من الدرجة الثانية. وتمت إحالته إلى المعاش بتاريخ 15/5/1952، ورغم ذلك أصدر وزير المعارف محمد رفعت قراراً في 9/6/1952 بتعيين سليمان نجيب مدير دار الأوبرا مديراً عاماً بالفنون الجميلة بدرجة مدير عام (ب) اعتباراً من تاريخ إحالته إلى المعاش! وعندما أنشأت وزارة الإرشاد القومي في 10/11/1952، أصبحت دار الأوبرا تابعة لها، وكان سليمان نجيب مديرها العام .. هكذا تقول آخر وثيقة منشورة في ملف الفنان سليمان نجيب.