أطول جدل تاريخي حول ريادة مصر المسرحية

أطول جدل تاريخي  حول ريادة مصر المسرحية

العدد 685 صدر بتاريخ 12أكتوبر2020

يشهد الواقع الثقافي المصري جدلا تاريخيا طويلا، امتد إلى عشرين عاما ولا يزال مشتعلا بالخلافات - -، فرغم أن جميع الوثائق والمراجع العربية والأجنبية قد أجمعت على أن بدايات المسرح قد انطلقت من مصر عام 1870، إلا أن حق مصر التاريخي في الريادة المسرحية لا يزال مجالا للخلافات في الرأي وتبادل الاتهامات وتزييف وقائع التاريخ، تلك الحالة التي يجب أن تتوقف لتتوحد أصوات مفكري وباحثي مصر، ونحتفل جميعا بمرور مائة وخمسين عاما على ميلاد المسرح المصري - -، ذلك الحدث العظيم الذي يمثل إدراكا للضرورات الثقافية والحتميات الفنية،ويحفظ حقنا التاريخي في الريادة المسرحية، ويبعث بتيارات الرسائل والخطابات، التي تؤكد للعالم من حولنا أن قوتنا الذكية الناعمة تتخذ مسارا إبداعيا حيويا متصاعدا ومؤثرا - -، وفي نفس السياق فإن هذه الحالة لم تأت من فراغ، لكنها ترتكز على الرؤى العلمية والتاريخية والوثائقية وعلى القراءة العميقة لفلسفة ذلك الماضي البعيد، حيث اتضحت الأبعاد الغائبة وأصبحنا أمام إجابات واضحة عن كل التساؤلات المطروحة، ولعل الدورة القادمة من المهرجان القومي للمسرح والتي ستأتي باسم دورة "يعقوب صنوع " – كما تم الإعلان عن ذلك بالصحف من خلال اللجنة العليا للمهرجان -، تؤكد أن وزارة الثقافة هي القوة الفاعلة الأكثر حضورا في قلب هذا المشهد المهيب، الذي يكرس للأصالة والحضارة والجذور، حيث إرادة الوعي وثقافة الجمال واليقين بأن المسرح هو الحرية والديمقراطية وهو القراءة الحية في أعماق الوطن والمجتمع والإنسان، كما أنه الظاهرة الاستثناء، التي ستظل تموج وعيا وجموحا وطموحات . 
تعود جذور هذا الجدل الساخن إلى الدكتور سيد على إسماعيل- الباحث المرموق -، الذي أثار قضية مفادها أن كل ما قيل حول ريادة" يعقوب صنوع "المسرحية، هو محض أكاذيب وافتراءات، لا تجد شاهدا يشهد عليها أو برهانا يؤكدها، يرى مقولة أن صنوع هو رائد المسرح المصري هي وهم كبير، تحول إلي مسلمة من المسلمات، وأن هذا الوهم لم ينشر إلا في مذكرات صنوع وصحفه، وأن أول إشارة عن نشاطه المسرحي قد وردت في 17 أبريل 1878 من خلال إحدى المحاورات بين أبي خليل القباني وأبي نضارة، وهذه المحاورات من الممكن اعتبارها نوعا من الهزل . 
يشير د . سيد على إسماعيل إلي أنه في عام 1997 قد بدأ العمل في كتاب عن المسرح المصري في القرن التاسع عشر،وقرر أن يعتمد فيه على الدوريات التي صدرت في هذا القرن، دون الاعتماد على المراجع الحديثة التي تعرضت لهذا الموضوع، وبعد الانتهاء من صياغة الكتاب وجد أن المحتويات خالية تماما من أي ذكر عن مسرح يعقوب صنوع، وهنا كانت المفاجأة، التي دفعته إلي البحث مرة أخري عبر الدوريات، لكن المراجعة لم تسفر عن شيء ولم يظهر مسرح صنوع عبر الصحف، لذلك تم نشر الكتاب وقرر الباحث أن يتجه إلى تجميع الأدلة والبراهين التي تنفي وجود يعقوب صنوع كرائد مسرحي، ليعود بالحق إلى أصحابه . 
استمرت أبحاث الدكتور سيد وترددت أصداء رؤاه في الوسط المسرحي وتناولها العديد من النقاد، وقد كتبت مقالا في هذا السياق بعنوان" قضية مسرح صنوع بين الغياب والحضور"، منشور بجريدة الأهرام المسائي، بتاريخ 19 مارس 2001 جاء فيه - - 
يكشف المنظور العلمي المتكامل عن العديد من الصوامت والتناقضات والتجاوزات، فما هي القضية الأساسية التي يطرحها د . سيد إسماعيل ؟ هل هي البحث عن أدلة تثبت أن إسهامات صنوع المسرحية لم تكن إلا أوهام وادعاء وأكاذيب ؟ 
هل القضية هي الاعتراض على المقولة التي ربطت بين صنوع وبين الريادة المسرحية في مصر ؟ 
هل يمكن للمنظور الأحادي أن يقودنا إلى كشف كامل للحقيقة التاريخية والفنية ؟ 
هل من المقبول علميا أن نصل إلى استنتاج مطلق يؤكد أن مسرح صنوع هو مجرد أكاذيب تفتقد كل ظلال الحقيقة  بدعوى عدم وجود متابعات صحفية منشورة بالدوريات الصادرة في تلك الفترة ؟ 
هل هي قضية نقدية تتصل بالقيمة الفنية والجدوى الإبداعية لإسهامات صنوع ؟ أم أن صنوع في حد ذاته كان شخصية وهمية، وحالة من حالات التزييف التاريخي نسجتها أيد خفية؟ 
بقول د . سيد إسماعيل - -، "عندما أعددت رسالتي الماجستير والدكتوراه عامي 1989، 1994 تحدثت في تمهيدهما عن ريادة ونشاط صنوع في المسرح، على الرغم من عدم صلة هذه الريادة بموضوع الرسالتين، وكأن ريادة صنوع واجب مفروض علي أي باحث في مجال المسرح "- -
لن نسأل لماذا ؟ ولكن نتعرف على بعض الفقرات التي وردت في رسالة الدكتوراه عن" الرقابة والمسرح المرفوض "، حيث جاء [ بعد أن كون يعقوب صنوع مسرحه دعاه الخديوي إسماعيل مع فرقته ليمثل على مسرحه الخاص بسراي قصر النيل بعض المسرحيات، وبالفعل مثل صنوع ثلاث روايات هي البنت العصرية، وغندور مصر، والضرتين، وعندما شاهد الخديوي البنت العصرية وغندور مصر، قال لصنوع - - إننا ندين لك بإنشاء مسرحنا القومي، إن ما تقدمه من ألوان الكوميديا والتراجيديا والأوبريت، يعرف شعبنا بالفن المسرحي - - إنك أنت مولييرنا المصري و وسيبقى اسمك . ]
وفي موضع آخر يقول - - [ إن الرائد يعقوب صنوع كان عالما بمدى تأثير الفن المسرحي على الجمهور المصري، الذي أراد أن يوقظه من سباته، فأتى له بموضوعات مسرحية تحفزه وتجعله يفكر في أحواله وأحوال حكامه، مما جعل رجال الحكم يخشون خطر هذا الفن، فسارعوا بالقضاء عليه بصورة رقابية، لأنه ضد مصالح الدولة ]
تحمل رسالة د . سيد إسماعيل تأكيدا صريحا على وجود يعقوب صنوع، ويبدو أن الفقرتين تتصلان عضويا بصلب موضوع الرسالة، ولم يستخدمهما من باب الواجب المفروض كما أشار سابقا، وفي سياق آخر هناك العديد من الأعمال المسرحية المنشورة ليعقوب صنوع، ففي فترة الستينيات قام دكتور محمد يوسف نجم بنشر بعض النصوص المطبوعة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين و وهي نصوص لبعض الرواد مثل يعقوب صنوع، مارون نقاش، أبو خليل القباني، وعثمان جلال، وكما يشير الدكتور علي الراعي فإن تجارب صنوع المسرحية قد بلغ عددها 32 مسرحية، تناولها ناقدنا الكبير بالتحليل في كتابه "فنون الكوميديا"، عام 1970
ردا على مقالتي المنشورة بالأهرام المسائي، كتب الناقد الأدبي "أحمد حسين الطماوي "، في نفس الجريدة مقالا طويلا بعنوان البعد الغائب في قضية يعقوب صنوع، بتاريخ 26 ماس 2001 ويمكن للمهتمين الاطلاع على تفاصيله كاملة، وقد جاء به أنه لا يقطع بعدم ريادة صنوع، فقد تظهر وثائق أو نصوص تكشف الحقائق، وتعود بالريادة إلى موليير مصر، ولكن حتى ظهور هذه الأدلة فإن ابن صنوع يجب أن ينحى بعيدا عن المسرح المصري، بالرغم عن كل ما قيل عن ريادته المسرحية . 
لا تزال قضية نفي وجود مسرح يعقوب صنوع متفجرة حتى الآن حيث شهد العام 2019 صخبا شديدا بمناسبة انعقاد الدورة الحادية عشر لمهرجان المسرح العربي والمؤتمر الفكري المصاحب له، حيث أثيرت التساؤلات حول البدايات الحقيقية للمسرح المصري، وتحول الخلاف في الرأي إلى اتهامات، ثم هدأت الضجة ولم يعقد مؤتمر لحسم الخلافات كما تردد أيامها . والآن في سبتمبر 2020 كتب د. سيد على إسماعيل حلقات متوالية بعنوان" كوميديا التاريخ المصنوع في ريادة يعقوب صنوع "، ليؤكد أن رائد المسرح العربي هو سليم نقاش وليس صنوع، وقد نشر هذه الحلقات التهكمية الساخرة على صفحته الرسمية بالفيس بوك - -، ويقول في الحلقة الأخيرة أنه على مدار شهر كامل نشر عشرين دليلا منذ 1895 وحتى عام 1951، وكلها أدلة من متخصصين في المسرح والتاريخ، أمثال جورجي زيدان، محمد تيمور، خليل مطران، زكي طليمات، طه حسين، جورج طانوس، عمر وصفي، سليمان نجيب، وعبد الرحمن صدقي، وكلهم أكدوا أن مصر لم تعرف المسرح إلا بفضل اللبنانيين، عندما جاءت أول فرقة من بيروت إلى مصر عام 1876 بقيادة سليم النقاش رائد المسرح العربي في مصر، وفي مقابل ذلك لم يذكر هؤلاء كلمة تتعلق بصنوع ونشاطه المسرحي، ورغم كل هذه الأدلة فأنا على ثقة تامة بأن كل من كتب عن ريادة صنوع، لن يقتنع بهذه الأدلة حتى لو قمت بتحضير روح المأسوف على ريادته يعقوب صنوع وأقسمت أمام لجنة 150 سنة مسرح بأغلظ الأيمان، لأنهم جميعا مؤمنون بأن الدكتور محمد يوسف نجم هو من قال بريادة صنوع، لكنني أقول الآن أن دكتور يوسف نجم قد كتب أن دراسة أوليات المسرح المصري لابد أن تتجه إلى فرقة سليم النقاش وأثرها، بعد أن تمر بمسرح يعقوب صنوع، الذي يبدو أنه مضى دون أن يعقب أثرا .
من المؤكد أن حق الاختلاف مكفول للجميع، لكن علينا أن نختلف بشكل علمي أدبي وليس بشكل تهكمي ساخر، وإذا كان الخلاف لا يفسد للود قضية فإن الدراسات العلمية تؤكد أن يعقوب صنوع 
 كان هو حلقة الوصل بين أشكال الفرجة الشعبية التي عرفها في مصر، وبين المسرح الغربي الذي درسه بعمق، ويذكر أن الأدلة العشرين التي جاء بها الدكتور سيد على إسماعيل، لا تنفي وجود صنوع لكنها تتجاهله أحيانا، فكبار مثقفي مصر في ذلك الحين قد تخلوا عن دورهم الحقيقي في استيعاب ظاهرة المسرح المصري، رفضوا مفاهيم الفرجة الشعبية، اعتبروها هزأة وسقوط، كما لم يعترفوا بالعامية المصرية، ويذكر على سبيل المثال أن محمد تيمور قد اتهم الريحاني بخروجه عن السياق المسرحي الذي يقدره، أما غياب صنوع عن المشهد الإعلامي والمتابعات الصحفية فذلك بسبب غضب الخديوي عليه، حيث لن تجرؤ صحيفة على التعامل معه، بعد أن أصبح تجاهله ضرورة سياسية . وفي سياق متصل نجد أن ريادة يعقوب صنوع لا تحتاج أبدا لتأكيد بعد ما تم تأكيدها وتسجيل كثير من تفاصيلها (أعماله وأعضاء فرقته وبعض طرائف الفرقة) بأقلام عدد كبير من كبار المسرحيين والنقاد والدارسين، على مدى قرن ونصف من الزمان وفي مقدمتهم الأساتذة : د . محمد صبري السربوني، د . فؤاد رشيد، زكي طليمات، د . إبراهيم عبده، د. أنور لوقا، د . محمد يوسف نجم، د. لويس عوض، محفوظ عبد الرحمن، محمد أبو العلا السلاموني، د. نجوى عانوس، د . عمرو دوارة، جرجس شكري، وذلك بالإضافة إلى عدد كبير من الدراسات التي كتبها عدد كبير من النقاد والمسرحيين الأجانب، ومن بينهم على سبيل المثال وليس الحصر : أحمد فارس الشدياق بجريدة الجوانب التركية، كاتب صحيفة "ستار دى ريفيو"، بول دي بينيير مؤلف كتاب "ألبوم أبو نضارة "، إيمييه فانترينييه، فيليب دى ترازي، جاك شيلي .
رغم أن الدكتور سيد علي إسماعيل قد رفض في البداية مبادرة الاحتفال ب 150سنة مسرح مؤكدا أنها مبادرة مغلوطة،إلا أنه أعلن بعد ذلك موافقته المبدئية عليها، حيث صرح في مقالته بجريدة مسرحنا أنه خلال العشرين عاما راجع نفسه ستة مرات، وفي هذا السياق 
قدم شهادة مؤقتة حول فكرة 150 سنة مسرح، في البرنامج الإذاعي دنيا المسرح – بإذاعة صوت العرب – سبتمبر 2020، مؤكدا أن مارون النقاش هو رائد المسرح العربي في مصر، وأنه سيغلق ملف يعقوب صنوع تماما وكفى عشرين عاما دون وجود أي جديد من الأطراف الأخرى، فالتفسيرات والتبريرات لا تجوز، والمطلوب هو دليل قاطع، وثائق صريحة، شاهد عيان صريح يذكر ماذا فعل هذا الرجل، أما عن الجديد الذي يبحث فيه الآن هو أن" جيمس سينوا " هو رجل أجنبي وليس مصري، كتب بالعامية الدارجة وبالإيطالية الراقية، وفرقته كلها من شباب الجاليات الأجنبية، لذلك فالمفاجآت قادمة حتى يغلق تماما موضوع يعقوب صنوع .وفي هذا الإطار يتضح أنه سواء كان صنوع أو سينوا، انجليزي أو مصري أو ايطالي، فهذا يوكد وجوده ولا ينفي ريادته. 
إذا كانت مجموعة الباحثين المصريين قد امتلكت الأدلة القاطعة والوثائق الصريحة والشهود العيان على وجود يعقوب صنوع، وعلي حضوره في قلب واقعنا الفني، فإن الدولة المصرية ووزارة الثقافة قررا الاحتفال بمائة وخمسين سنة مسرح، وبحق مصر التاريخي في الريادة المسرحية،وذلك استجابة للمبادرة الإيجابية التي أطلقها حارس ذاكرة المسرح المصري - -، الناقد والمؤرخ دكتور عمرو دوارة من خلال عدة مقالات متتالية بمجلة الكواكب وصحيفة مسرحنا، بدءا من شهر سبتمبر 2019، وسوف تكون الدورة الثالثة عشر من المهرجان القومي هي دورة يعقوب صنوع، كما تم الإعلان عن ذلك في الصحف من خلال اللجنة العليا للمهرجان . 


وفاء كمالو