مجلة المسرح والمسألة التوثيقية

مجلة المسرح والمسألة التوثيقية

العدد 587 صدر بتاريخ 26نوفمبر2018

“نحن بحاجة إلى فهم الماضي. ولذلك، فإن تاريخ المسرح يشرح أولاً وقبل كل شيء حال المسرح في الوقت الحاضر. الأمر - إذن - يستحق الدراسة من أجل فهم أفضل للطريقة التي يعبر المسرح بها عن نفسه. فالمسرح يفسر ويصور الخبرة الإنسانية: يتأمل المؤرخ المسرحي كيف يقوم بهذا بحيث لن يتسنى تقدير المسرحيات القديمة بشكل كافٍ فحسب، بل أيضا وعلى نحو أهم - نتمكن من التعلم من أسلافنا وبالتالي نصنع بأنفسنا مسرحًا أفضل”.
روبرت ليتش

قبل عدة أعوام، بحثت على الإنترنت عن أعداد مجلة المسرح التي أصدرها الدكتور رشاد رشدي عن مسرح الحكيم في الستينات، لكنني لم أفلح في ذلك، على الرغم من ازدياد نسبة المحتوى الرقمي العربي وقتذاك، وتوفر نسخ إلكترونية من الكثير من الكتب والنصوص المسرحية على شبكة الإنترنت. يعرف الباحثون المسرحيون في مصر والعالم العربي قيمة هذه المجلة التي صدر أول أعدادها في يناير عام 1964، ورصدت بدقة ذلك الزخم النقدي والفكري، وسجلت إبداعات الستينات المسرحية بحيث يمكن اعتبارها بلا أي مبالغة إرثًا ثقافيًا معتبرًا، ووثيقة تاريخية تؤرخ وتسجل دقائق وتفاصيل مرحلة ثرية وشديدة الأهمية من مراحل الثقافة المصرية. وهي لذلك كله، جديرة بالحفاظ عليها وصيانتها وحمايتها من الضياع والاندثار، والأهم أتاحتها للباحثين والمهتمين.
ومن هنا، أطلقت قبل ست سنوات مبادرة (ذاكرة المسرح) عام 2012. من خلال موقع المسرح دوت كوم الذي أسسته عام 2004، كأول موقع عربي متخصص في المسرح، يحمل شعار (جسر للتواصل بين المسرحيين العرب) (توقف في 2017).
ولكن ما الهدف من ذاكرة المسرح؟ الهدف كان “رقمنة ونشر كل ما يمكننا نشره من وثائق المسرح المصري والعربي وأتاحتها للباحثين والمهتمين بالمسرح العربي، بشكل يحفظها وييسر البحث فيها”. وشرعت في تنفيذ هذه الفكرة. صحيح ان الأمر لم يكن في غاية السهولة، لكنه حصل!
ففي إحدى إجازاتي بالقاهرة العامرة، توفرت لي مجموعة من أعداد المجلة، بعد مفاوضات مع أحد تجار الكتب القديمة في «سور الأزبكية»، وبالاستعانة بماسح ضوئي أو سكانر وبعض البرمجيات وبتكلفة زهيدة أنجزت هذه المرحلة الأولى. بدأت المشروع كمرحلة أولى برقمنة نحو 10 أعداد من مجلة المسرح، لكنني لم أنشر الأعداد كاملة، وإنما قمت بفهرسة نحو 200 مقالة ودراسة ونص مسرحي، ونشرها (منفصلة) بحيث يسهل على الباحث الوصول إلى ما يريد، وذلك في موقع صمم خصيصًا لهذا الغرض بعنوان ذاكرة المسرح. يشتمل على محرك بحث، كما يعتمد على نظام الوسوم لسرعة الوصول إلى المقالات. وخلال خمس سنوات، رصدنا 34 ألف قراءة لوثائق المشروع. وبالإضافة إلى مواد مجلة المسرح، ضم الموقع بعض مواد الفيديو المتوفرة على الإنترنت، والمسرحيات الإذاعية من إنتاج البرنامج الثاني، والصور وغيرها من الوثائق.
الحقيقة إنني عندما أطلقت تلك المبادرة الفردية، كنت أعلم تمامًا أنها ستتوقف عند هذا الحد، فعلى الرغم كلمات الترحيب والإطراء من باحثي المسرح والمشتغلين به، لم تجد هذه المبادرة أي استجابة من المؤسسات الرسمية المتخصصة والمنوط بها حماية تراثنا. والإهمال قتل متعمد في كثير من التشريعات. فأنا على يقين بأن المبادرات الفردية تظل مبادرات فردية قد تفلح حينًا وتتعثر أحيانا، لكنها على الأقل تشعل شمعة وتكسب شرف المحاولة.
وعلى الرغم من أن الكثير من المثقفين لا يزال ينظر إلى المحتوى الرقمي نظرة ريبة وشك، باعتبار أن (الورقي هو ما يبقى ويدوم)، نجد أن هذه المقولة غير صحيحة على إطلاقها، فالورق يبلى ويتلف ويضيع أيضًا. أما المحتوى الرقمي الذي تستطيع تحميله فصار من قبيل الثرثرة الكلام عن سهولة تداوله وانخفاض كلفته بالمقارنة بالطباعة الورقية، الخ. إن العالم كله يتجه إلى الرقمنة كوسيلة لتداول المعلومات، ولحفظ التراث: انظر مثلاً موقع التراث العالمي archive.org أو المكتبة الرقمية العالمية التي تصدرها مكتبة الكونغرس بدعم من اليونيسكو، وكثير من المجلات والصحف تصدر إلكترونية حاليًا حول العالم، وحتى الموسوعات والقواميس تحررت من أسر الورق.
وقد يسأل القارئ الكريم: وما مناسبة الحديث عن مجلة المسرح وتجربتك في توثيقها؟
المناسبة انني نشرت قبل أيام على صفحتي الشخصية - ولأول مرة على شبكة الإنترنت - العدد الأول من مجلة المسرح كاملاً، وفوجئت بالصدى الإيجابي والترحيب الكبير من الكثير من النقاد والباحثين والمعنيين من مصر وأرجاء العالم العربي، ولمست الحاجة الماسة لاكتمال هذا المشروع، على الرغم من أن المواد نفسها منشورة على الإنترنت قبل ست سنوات.
المهم أنها كانت فرصة ثمينة لإحياء هذه المبادرة من جديد، سواء بتضافر الجهود الفردية أو من خلال دعم مؤسسات معنية ومسؤولة ينفق عليها ملايين دون عائد يذكر، ودون إدارة كفؤة لمواردها البشرية واللوجيستية.
المناسبة أيضا أنني وصلتني تعليقات من المشرق ومن المغرب تؤكد أن هذه المجلة كانت وسوف تظل ارثًا حضاريًا نفتخر به ومنارة استنار بها المثقفون في مصر والعالم العربي أيضًا، وكانت مرجعًا مهمًا للباحثين في الحقل المسرحي.
وأخيرًا.. المناسبة أنه لا يليق أبدًا بتاريخ الثقافة المصرية والإبداع المسرحي المصري أن تبقى مصر بلا مجلة أو مجلات للمسرح.

 


سباعي السيد