العدد 859 صدر بتاريخ 12فبراير2024
حَدَثَ أَن حَضَرت فعاليات (ملتقى عباس أحمد المسرحي)، وذلك مساء يوم الخميس، الموافق: (10/ 1/ 2024م)، بنادي المسرح ببورسعيد. بدأ العرض المسرحي: (يارا، مشهد من القضية)، من تأليف وإخراج: محمد المصري. لم أكن أعلم شيئا عن هذا العرض المسرحي، وكنت قد أنهيت (منذ أيام) وقائع تحكيم المهرجان المسرحي بجامعة بورسعيد. الذي (للأسف الشديد) لم يكن الأفضل، ولقد مُنِيتُ وَقتَهَا بخيبات أمل عظيمة، في مستوى تصاعد الحركة المسرحية، التي من المفترض أن يقودها فرسان المسرح الجامعي. بدأت الفنانة القديرة: سارة هاني. بالإعلان عن بدء العرض، وتسللت إلى روحي دقات الخشبة الثلاث المباركة. وحَادَثتُ نفسي، في برهة أو أقل، أنني سأشاهد عرضا متماسكا، لشباب جامعي متحمس، لكن (بالتأكيد) سوف تَنقُصُهُ الدراية، والتدريب المهاري، على فنون اللعبة المسرحية. وقلت إن عرضا يحمل ملامح القضية الفلسطينية، معناه أنني سأشاهد صراخا متواصلا، يرتدي (الحَطَّة) الفِلَسطِينِيَّة، وسأسمع عَوِيلا مُتَقَطِّعًا؛ لا يفهم معه الجمهور شيئا قط، وسأرى إخلاصا من الفتية والفتيات، دون تعمق آكد في تفاصيل موضوع شائك، مثل موضوع: القضية الفلسطينية (جُرح الأُمَّةِ النَّازِف). بدأ العرض، وانقشعت التجربة الذهنية المسبقة، وفوجئت مفاجأة صاعقة، أنني أمام عرض مسرحي فريد من نوعه. كُتِبَ له؛ بمشيئة الله العلي القدير، أن يكون أهم ما شاهدت في حياتي قاطبة، عن (القضية الفلسطينية). ما هذا الجمال الصادم والعَاتِيَ والمباغت؟! وبدأت أتحسس (بوعي الناقد) مواطن العَثرَةِ أو الزَّلَلِ، فلم أجد شيئا كبيرًا، يصلح أن يكون جُرمًا مسرحيا. لقد وقعت أسيرا (وتلك خطورة كبرى) لجمال هذا العرض، وأخذني شباب المسرح الجامعي المشاركين في هذا العرض الرائع، في رحلة (عقلية/ وجدانية) كونية؛ أعادت إلي ثقتي في (شباب المسرح الجامعي)، وأشعلت في نفسي حدائق من البهجة الضَّرُوسِ. إنني أمام عرض مسرحي مذهل، في كل شيء (طوفان من التفاصيل). أولا الكتابة المبدعة وهائلة الدلالة (أروع أبطال العرض)، لكاتب لا يُشَقُّ لقلمه الحُر والجَرِيء والمُغَامِر غبار. اتسعت حدقة الرؤية، وضاقت العبارة، المشحونة بآلاف المعاني، في سياق سردي، حافظ بدقة ومهارة على: آلية نحت الشخصية الدرامية، والتصاعد الدرامي للحدث، والمحافظة الماهرة على مستويات الخطاب الخاصة بكل شخصية، والتدفق في صوغ الديالوجات والمونولوجات ذات الجمل القصيرة والمتوسطة؛ التي تحافظ على امتداد الإيقاع داخل العرض المسرحي، وجعلته كالوتر المشدود. إن الكتابة في هذا العرض المسرحي التاريخي؛ قد بلورت (في وضوح) مستقبل النص المسرحي البورسعيدي، بقيادة نفر من الشباب الجامعي القدير، الذي أحب المسرح، وتوغل في تضاعيفه بأناة كاملة، وحرص واعٍ. إن زاوية تناول النص المسرحي، تناقش الداخل الفلسطيني، ومنه إلى انعكاسات هذا الموار والجدل بين الممكن والموجود، والأمل الطاغي ومعطيات الواقع السَّلِيبِ. إنه تناول نصي غير مسبوق، لعرض يناقش قضية ساخنة وآنية (ياله من أديب مُحَنَّك!). ولقد بحثت (منذ سنوات بعيدة) في هذه القضية، وقرأت المشهد المسرحي الفلسطيني والعربي، الذي تناول (القضية الفلسطينية) من اتجاهات شتى. ومن جملة ما قرأت؛ لا أنسى ما استفاض فيه الباحث المسرحي القدير: (حَسَن مُختَار)، حَالَ حَدِيثِهِ عن المسرح العربي والقَضِيَّة الفِلَسطِينِيَّة، وذلك في البَحثِ المُوَسَّعِ، الذي كَتَبَهُ عام ثلاثة وعشرين وألفين للميلاد، بِعُنوَانِ: (المَسرَح وَالقَضِيَّة الفِلَسطِينِيَّة... نُصُوصٌ طَرَحَتِ الصِّرَاعَ، أَبرَزهَا الصُّهيُونِيُّ لِيُوسُف وَهبِي، وَالوَطَنُ المَحبُوبُ لِنَصر الجَوزِي). ومن جُملَةِ مَا سَرَدَهُ من المَسرَحِيَّاتِ، التي قَرَأتُهَا مُنذُ سَنَوَاتٍ بَعِيدَةٍ، أذكر قوله، إن: الأديب الفِلَسطِينِيَّ: (جَمِيل حَبِيب بَحرِي)، قد كتب عددا لا بأس به، من مسرحيات النضال والمقاومة، ومن أهمها على وجه الإطلاق، مسرحية: (الوَطَن المَحبُوب). كما أنه قد كتب تِرَاجِيديَا: (الخَائِن)، وَ(فِي سَبِيلِ الشَّرَفِ). كما أن الأديب والمسرحي الفِلَسطِينِي (نَصر الجَوزِي)، قد أَلَّفَ مسرحية: (العَدل أَسَاسُ المُلكِ). كما أن الأديب الكبير: (بُرهَان الدِّين العَبُّوشِي)، قد أَلَّفَ ثلاث مسرحيات شعرية مهمة، تتناول ملامح القضية الفِلَسطِينِيَّةِ، وهي: (وَطَنُ الشَّهِيدِ) 1947م، وَ(شَبَحُ الأَندَلُسِ) 1949م، وَ(الفِدَاءُ) 1952م. وكتب الشاعر الفلسطيني المذهل (سَمِيح القَاسِم)، مسرحية: (قَراقَاش) الشعرية، ومسرحية: (كَيفَ رَدَّ الرَّابِي مِندِل عَلَى تَلاَمِيذِهِ). وكتب الأديب الكبير: (مَعِين بَسِيسُو)، المسرحيات المُلهِمَةَ الآتي بَيَانُهَا: (شَمشُون وَدَلِيلَة)، وَ(المَعرَكَة)، وَ(الأَشجَار تَمُوتُ وَاقِفَة)، وَ(الأُردُن عَلَى الصَّلِيبِ)، وَ(ثَورَة الزِّنجِ). وكَتَبَ الأديب القدير: (عِز الدِّين المَنَاصرَة)، المسرحيات الآتي ذِكرُهَا: (العَتمَة)، وَ(يَا عِنَبَ الخَلِيلِ)، وَ(بَاجِس أَبُو عَطوَان يَزرَعُ أَشجَارَ العِنَبِ). ولقد كتب صديقي الحبيب: (تَوفِيق فَيَّاض)، المسرحية الجَبَّارَة: (بَيت الجُنُونِ)، والتي نُشِرَت عام 1967م. وكَتَبَ العملاق (مَحمُود دِيَاب)، مسرحية: (بَاب الفُتُوحِ)، وعَلِي أَحمَد بَاكَثِير، مسرحية: (شَعب اللهِ المُختَار)، وأبدع سَعد اللهِ وَنُّوس، مسرحية: (الاغتِصَاب)، وَ(حَفلَة سَمَر مِن أَجلِ 5 حُزَيرَان). وَكَتَبَ يُوسُف بِك وَهبِي، مسرحية: (الصُّهيُونِيّ). وكتب (أَحمَد صِدقِي الدِّجَانِي)، المسرحية الرائدة والمقاومة: (هَذِهِ اللَّيلَة الأَخِيرَة). والكاتب المسرحي الكبير: (يُسرِي الجُندِي) في مسرحياته الملهمة: (وَاقُدسَاهُ)، و(الطَّرِيق)، و(اليَهُودِي التَّائِه). والكاتب (عَلِي عَقلَة عَرسَان) في مسرحية: (فِلَسطِينِيَّات). كما أن فرقة المسرح الفلسطيني، قد عرضت مسرحية: (خُيُوط مِن فِضَّة)، تأليف وإخرج الفنان الكبير: (جَوَاد الأَسَدِي). وكَتَبَ الأديبُ السُّورِيُّ المُتَأَلِّقُ: (مَمدُوح عُدوَان)، مسرحية: (مُحَاكَمة الرَّجُلِ الَّذِي لَم يُحَارِب)، وأَلَّفَ الفنان والأديب الفِلَسطِينِيُّ: (زِينَاتِي قُدسِيَّة)، مَسرَحِيَّتَينِ اثنَتَينِ، هُمَا: (القِيَامَةُ)، وَ(مَجنُونٌ يَحكِي وَعَاقِلٌ يَسمَعُ - الرَّجُلُ الدَّائِرِيُّ). لكنني، وبرغم كل ما سبق، لم أجد أديبا (رغم كونهم أعلام الأدب المسرحي العربي) قد اخترق الغُلاَلاَتِ الغَائِمَةَ، التي تحيط بهذه القضية. لكنني في هذا العرض المسرحي، ومن خلال هذا النص المسرحي الأخاذ؛ نَفَذت إلى منطقة جديدة وغَائِرَة، في هذه القضية. أسدي تحية عرفان وتقدير لكاتب هذا النص المسرحي المبدع: [ يارا ]. ولكن ما معنى اسم [ يارا ]؟! إن بطون المراجع اللغوية والأدبية، التي ناقشت (مناقشة كاملة) معاني هذا الاسم الساحر والمُحَيِّر، نجد أنهم قد قالوا إن [ يارا ] اسم علم مؤنث، وهو من الأسماء الأعجمية، التي لا تعود إلى أصلٍ عربيٍّ معتمد وراسخ. وتختلف معانيه في أطناب اللغة العربية الصحيحة، باختلاف اللغة أو الثقافة، التي تستمد دلالتها منها. فإنه في أدبيات اللغة الفارسية، يعني: الاستطاعة، أو القدرة على فعل شيء، أو التمكن. وهو مشتقٌ من كلمة: (يَارَه)، التي تعني: الجرأة، أو الإقدام. أو أنه مشتق من الفعل: (يَارِستِنْ)، الذي يعني: الصادق، أو الخليل، أو المعشوق. إضافة إلى معنى آخر باللغة الفارسية، بعيد كل البعد عما سبق، ومشتق من ملامح أسطورة جلجامش، وهو: (ابنة الربيع). وإن دلالة الاسم المذكور في أدبيات اللغة الفِينِيقِيَّة، كانت تعني: المعشوقة، أو الحبيبة. وكذلك في اللغة الكُردِية الشعرية القديمة، كان الاسم يحمل المعنى نفسه. أَمَّا في اللُّغَةِ التُّركِيَّة العَتِيقَةِ، فكان الاسم يعني: المَاءَ الزُّلاَلَ، أو اللُّعَاب. بينما يعني الاسم في اللغة السُّريَانِيَّة: الزهور الجبلية الجميلة، ويَعتَقِدُ بعض الباحثين والمدققين، أَنَّهُ مُشتَقٌ من تَسمِيَةِ شَهرِ [ أيار ] السرياني. وكلمة (يار) بحذف الألف المتطرفة، تعني: (الحبيب)، وتنصرف إلى المذكر وليس المؤنث (كعادة اللغات القديمة). وهناك نفر من الباحثين انصرف إلى كونه اختصارا لاسمٍ مجهول، فقد سموا الأنثى منه (يَارَا)، ولم يسموا المذكر (يَار)، وهو ما يخالف ما قاله باحثون آخرون بعاليه. وفي الأدبيات الأمازونية، يعني الاسم: ابنة الغابات. وفي اللغة المصرية الديموطيقية القديمة، يعني الاسم: (ملكة السماء). ومن معانيه الأخرى: الطاهرة، والفراشة الصغيرة. كما أن نفرا من باحثي فقه اللغة ودلالات الأسماء والمعاني اللغوية، اجتمعوا على أن [ يارا ] اسم من أسماء مدينة القدس القديمة. ولقد ورد الاسم في معجم معاني الأسماء بالشكل الآتي: اسم علم مؤنث، أقبلوا عليه لخفته، واختلف المفسرون في أصله وفي معناه؛ فعدوه اسمًا فارسيًّا، جاء عن طريق العثمانيين تأنيثًا، ومعناه: الصاحب، أو المعشوق، أو الصادق. وَيُعتَقَدُ أن كل من تحمل هذا الاسم تكون مباركة. كما أن دلالات اسم [ يارا ] تختلف من لغة إلى أخرى، ومن ذلك أنها ترمز في اللغة التركية الحديثة إلى: الإنسانة الجميلة والطاهرة، وفي اللغة التركية القديمة، ترمز إلى: الجرح، وفي اللغة الروسية ترمز إلى: الثلج، وفي اليونانية واللاتينية القديمة ترمز إلى: الربيع وكذلك اللغة السلوفاكية. أما في الأدب السنسكريتي، فإنه يعني: الضوء الساطع، وفي الماليزية، يعني: أشعة الشمس، وزهرة الربيع، وفي آداب أمريكا اللاتينية، يعني: سيدة المياه، أو عروس البحر. ومن أجمل ما ذكره الشعر العربي الحديث، عن اسم [ يارا ]، ما أنشده غازي القصيبي (غازي عبد الرحمن القصيبي، الذي قَضَى في الخامس عشر من شهر آب أغسطس، عام عشرة وألفين للميلاد، وهو شاعر وأديب وسفير دبلوماسي ووزير سعودي) في قصيدة، عنوانها: (يارا... والرحيل):
يا أجمل الحلوات... يا فرحتي
يا نشوتي الخضراء... يا كوكبي
أبوكِ في المكتب لما يزل
يهفو إلى الطِيبِ والأطيبِ
يصنع حلما... خير أحلامه
أن يسعد الأطفال في الملعبِ
من أجل [ يارا ] ورفيقاتها
أُولَعُ بالشغل... فلا... تغضبي!
ومن بحر البسيط، أنشد القصيبي (أيضا) في [ يارا ] قائلا:
مَالَت عَلَى الشَّعرَاتِ البِيضِ تَقطِفُهَا * يَارَا وَتَضحَكُ: لاَ أَرضَى لَكَ الكِبَرَا
ولقد غَنَّتِ السيدةُ فيروز (صوت الجبل)، أغنيتها المشهورة: [ يارا ]، من تأليف: سعيد عقل، تقول فيها:
يارا
يارا الـــ جَدَايِلهَا شُقُرْ
الــ فِيهُن بِيِتمَرجَح عُمُرْ
وكل نجمة تبوح بِسرَارَا…
يَارَا
يارا الغِفِي ع زِندَا خيا الزغير
وضلت تغني والدني حدا تطير
والرياح تدوزن وتارا… يارا
الحلوي الحلوايي تعبو زنودا
ونتفي اصفروا خدودا
وبإيدا نعست الأسوارة
ولمن إجت يارا تحط خيا بالسرير
تصلي يا ربي صيرو خيي كبير
وللسما ديها هاك الدين الحرير
انلمت الشمس وعبت زوارا
لقد اختار الأديب المسرحي: (محمد المصري) اسما رائعا، يشير إلى (القدس)، وإلى القضية الفلسطينية، من زاوية الجمال البريء، الذي تفترسه (قبل أنياب العدو الأزرق) الأيدي العربية. كُلاًّ منهم يريدها لنفسه، وكُلاًّ يستقطب سحرها لمصلحة فكرته وقناعاته، عن الحرية وجلال الأوطان. العرض المسرحي مذهل ومُبهِر، جاء الإخراج فيه هادئا ورَزِينا (بخلاف المتوقع من عرض مسرحي، يتحدث عن القضية الشائكة) ومتدفقا مثل قصيدة شعر، حَاكَهَا كَاتِبُها بمنتهى النبل. إن الإخراج في هذا العرض، قد ساعد الممثلين، وعضد الفكرة على البزوغ؛ دونما (فَذلَكَة)، أو هرولة وافتعال حركيين، أو إرهاق بصري بتشكيلات جسدية، لن تُفضِيَ إلى مضمون فَعَّال، في عرض مسرحي، أهم ما فيه هو الكلمة (صدى الفكر). إن الإخراج في هذا العرض المسرحي كان واعيا، أَحَبَّ النصَّ، وآَمَنَ بالفكرةِ المُغَامِرَة. فما بالكم أن المؤلف والمخرج شخص واحد! (لم يُصَب محمد المصري، وهو أمر متميز، بشِيزُوفرِينيَا مسرحية؛ جعلته ينسى أنه كاتب النص، فتطغى سلطة المخرج، على جوهر نص الكاتب). أما عن كتيبة العرض (وسوف أترك التمثيل للختام) فلقد أبدعوا وتفانوا (بِمَا تَحمِلُهُ الكَلِمَةُ مِن مَعنى)، كأنهم يجاهدون في أرض المعركة (قُوة الفَنِّ الصَّادِق). باديء ذي بدء، لقد لَمَحت أمرا شديد الأهمية، رأيت الممثلين على خشبة المسرح، لا يمثلون من الخارج (تمثيلا سَطحِيًّا أو عَابِرًا)، وإنما رأيت نضج أدائهم الهائل، يبدو من خلال فهمهم العميق والراسخ، لأبعاد القضية الفلسطينية، وجذور الصراع العربي الإسرائيلي، بفهم شائق وممتد لأطراف الصراع. لقد أدهشني وعيهم (الذي يتجاوز أعمارهم) بملامح الأزمة، وحدود المأزق. لكن دهشتي تبددت؛ حين علمت أن الفنان والأديب المسرحي: أسامة المصري. قَد أَعَدَّ ورشة ثقافية وفنية موازية، لفناني العرض المسرحي. إنك (يا سيدي) تستحق جائزة منفردة؛ على هذا الدأب الكبير، الذي يوجز مشواركم الفكري والتنويري والتَّوعَوِي العميق، في المسرح والفن والثقافة (أيقونة بحرية). أما عن الإعداد الموسيقي، فَدَعُونِي أشيد بالفنان والمخرج المسرحي: محمد هريسة. الذي رسخ لفكرة (الإعداد الموسيقي المسرحي)، وجعله فنا قائما بذاته، إنه (قولا واحدا) أحد عباقرة الإعداد الموسيقي، في تاريخ المسرح المصري والعربي. ولو أن الإمكانيات الصوتية متوفرة لديه؛ لرأينا العبقرية ماثلة على خشبة المسرح. وإن أجمل ما في هذا المبدع المتجدد، أنه جعل الخط الموسيقي، وكأنه شخصية تمثل على خشبة المسرح. لقد رأيت تفرد اختياراته للأغاني، المجتثة من التراث الغنائي الفلسطيني العتيق، ممازجا إياها بروح العصر؛ خاصة أنهم موجودن في الولايات المتحدة الأمريكية (دون أدنى تشويش أو اضطراب). أما عن التعبير الحركي، من إبداع الفنان: حسن زكورا. فلقد أعجبني للغاية؛ لأنه (مثله مثل الإخراج) لم يتعمد إغراق العرض المسرحي، في هوة حركية؛ تؤدي إلى خلط والتباس بصريين، لكنه (كعادته) كان ناعما ومتدفقا، ومنسجما مع الحدث الدرامي. أما عن (المكياج) فإنه كان راقيا، لم تعمد الفنانة: سما المنسي. إلى استخدام فوضى لونية؛ تحول مسار الحدث، وتلفت الانتباه دون داع درامي، وإنما كان المكياج وكأنه عفوي، وليس مصطنعا بالمرة (وهو قمة الإبداع، إضافة إلى كونها الجندي المجهول، والمخرج المنفذ للعرض المسرحي). أما عن تصميم الديكور، للفنان: مهيمن هشام. فلقد جاء بسيطا وموحيا (رغم قلة الإمكانيات البادية للعيان)، يطالع الجمهور حاجزا مسيطرا على مقدمة المسرح، يمثل حدود (بيت مُصعَب)، وكأنه من زاوية أخرى، يمثل الحاجز بين الفكرة والفكرة، إضافة إلى كونه يعمق مفهوم العزلة المضروبة سلفا، على المجتمع العربي، المزروع في الأوساط الإفرنجية. إضافة إلى اعتماده فكرة الخشب الرقيق والمُفرغ، الذي يشي بالفَرَاغِ، الذي تتراوح فيه أفكار بني الجِلدَةِ الوَاحِدَةِ، ما بين: الإقدام، والإحجام...إلخ. مع بعض المُوتِيفَات، والقطع الديكورية المؤقتة (مثل مكتب المحامية: سِييرا)، التي كانت تظهر وتختفي بمنتهى الخفة والمهارة. أما عن خُطة الإضاءة، فكانت متوازنة، باستخدام الأبيض بدرجاته، وفيه ما فيه من إيحاءات الاعتراف (وإن كنت أرى، أن مزيدا من إمكانيات الإضاءة، ستشكل لوحة خلابة، بدلالات موازية للعرض المسرحي). كما أنني أحيي كتيبة (الإدارة المسرحية)، وهم الذين اجتهدوا اجتهادا كبيرا ومقدرا، في سبيل تهيئة أجواء مسرحية ذات إيقاع متدفق ومتجدد، بلا أدنى تَرَهُّلٍ. وقبل أن أشرع في الحديث عن التمثيل، فإنني أحيي (تحية خاصة)، من قام بتصحيح اللهجة الفلسطينية، التي كانت شديدة الإتقان: (مع عدم اختلاطها باللكنة الأمريكية). أما عن التمثيل (وهو حِصَانُ العرضِ الأَسوَد) فإن شباب المسرح الجامعي، الذين انتَقَاهُم (مُحَمَّد المِصرِي) بعناية فائقة وغير مسبوقة؛ جاعلا كل فنان في دوره المنوط به، بمنتهى الرقي. قد أرخوا لمستقبل التمثيل المسرحي الهائل في بورسعيد، وهم:
- الفنان: مصطفى الدالي، في دور (مُصعَب)، الذي رسم لدوره المُعَقَّد، خريطة شعورية فائقة الخصوصية. وهو الذي يمثل وجها من وجوه المهجر الفلسطيني والعربي، في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد استطاع مصطفى الدالي، أن ينحت ملامح دور (نفسي/ درامي) لن يُنسَى: (التفاتات العين، وحركات الرأس، وارتعاشات الصوت، وحنجرته التي تنتمي إلى طبقة البَارِيتُون، وهي طبقة متميزة لممثل مسرحي مبدع). إضافة إلى ملمح مهم، أن هذا الفنان كان يشير، وهو يواجه ممثلا، بيديه إلى الوراء (دلالة على رفض جسده لفحوى الشخصية الخائنة والمتخاذلة التي يمثلها، إضافة إلى إثبات التناقض والتراوح الذي تعيش فيه شخصية واقعة بين عشق يارا، وحب النفس على حساب القضية).
- الفنانة: سما كسبة. في دور [ يارا ]. لقد باغتتني هذه الممثلة الاستثنائية، بأدائها الصادق والمعبر، ومشاعرها الفياضة التي لا تحتاج (أبدا) إلى ترجمان. صوتها ينتمي إلى طبقة (المِيزُوسُوبرَانُو)، وهي طبقة وسطى للنساء، وملائمة تماما لمشاعر الشخصية. إنها ممثلة كبيرة قدرا؛ رغم صغر سنها (لقد جعلتني أتماس مع الشخصية، في أدق لحظات الدور عمقا وشجنا).
- الفنان: عمرو لبيب. في دور (مُريد). إنه (بلا أدنى ريب) ممثل من طراز رفيع، يمثل المهابة والرونق، والصدق الفني الذي لا يوصف. له طبقة صوت (باس) جَهوَرِيَّة، استطاعت أن ترسخ ملامح المهاجر العربي الأصيل والمناضل. أبكاني هذا الممثل؛ حين استدعى مشهد مِفتَاحِ بَيتِهِ وبيت جدوده، المعلق في رقبته!
- الفنانة: ياسمين زكريا. في دور هاجر. إن لديها إمكانيات مسرحية هائلة لا توصف: صوت (الأَلتُو) النسائي القوي، وهزات حنجرتها الموسيقية المبدعة، إن وجهها (بالتة) مشاعر إنسانية عالية التفاصيل. استطاعت هذه الفنانة الموهوبة والمتجددة، أن تجسد اختلافات الدور، بمنتهى المهارة والإتقان.
- الفنان: إياد إبراهيم. في دور إياد. حقا، إنها تعد أكبر مفاجآت العرض المسرحي المذكور. إن هذا الشاب الذي ما يزال في المرحلة الثانوية، استطاع (بعمق فني لا يصدق) أن يَتَغَلغَلَ في ثنايا الدور المسرحي؛ ويستخرج أروع وأنفس ما فيه وفي نفسه، وكأنه سيمفونية مسرحية، لا آخر لجمالها !
- الفنانة: آية الباسطي. في دور (سييرا). إنها بالفعل (غُول) على خشبة المسرح، قوام ممشوق، وصوت عميق ومتدفق، وتعبيرات ممتعة ومتنوعة، يمتزج فيها الصدق الوجداني بالابتكار المسرحي. إنني أراهن (بمشيئة المولى القدير) أن هذه الفنانة المبدعة، سوف تحتل صدارة التمثيل النسوي البورسعيدي والمصري (اللهم إلا بعض الهنات اللغوية اليسيرة).
- الفنان: كريم الكيال في دور (نضال). إن هذا الفنان ملامحه فلسطينية بامتياز، وتمثيله يتميز بالنضج العالي، والقدرة المذهلة على إيصال صدقه الفني إلى أفئدة الجمهور. لقد رأيت إيمانه الجَم بالقضية، إضافة إلى إيقاعه الحركي المتدفق والرشيق. إنه فنان مبدع، وموهبة مسرحية لا يستهان بها.
- الفنانة: شروق شهاب. في دور آفريل. وإنني لأراها (بلا أدنى مبالغة) نجمة حقيقية، من نجمات المسرح البورسعيدي (في المستقبل القريب). تتمتع بقوة الأداء، وجودة التعبير، وطلاقة الشعور، وخفة الحركة المسرحية المعبرة. ولقد جسدت الدور المسرحي المنوط بها، بمنتهى العمق والتَّمَكُّنِ.
- الفنان: مهيمن هشام. في دور (ثابت). إنه فنان غال وثمين، يعيد اكتشاف مزيد من مواهبه المسرحية والفنية الراقية. فهاهو يثبت (في هذا العرض المسرحي) قدراته المسرحية الخلابة، في أدائه لدوره. إنه ممثل صادق وغزير الإيحاء، وسيكتب له (بفضل الله العلي القدير) المزيد من المواقع المسرحية التي سيخرج منها منتصرا.
- الفنان: مروان العزبي. في دور (وديع). وهو فنان مسرحي عاشق لرسالة المسرح، وأنا أعلم (لأنه من طلاب الورشة المسرحية الطلابية بجامعة بورسعيد) علم اليقين، أنه يهب وقته وحياته حرفيا (رغم كونه طالبا في كلية الطب) لخشبة المسرح المباركة. إنك (بلا أدنى مبالغة) موهبة مسرحية راقية ومتميزة. أديت الدور بثبات، وهدوء، وانسيابية.
- الفنان: عمرو كساب. في دور (جيمس). وهو فنان متميز، واثق من قدراته المسرحية الموفورة، ويسير بخطى ثابتة ومتصاعدة. وسيكون له (بمشيئة الله، سبحانه وتعالى) شأن كبير في دنيا المسرح. لقد أدى الدور برقي وترك بصمة واضحة.
وأخيرا... تبقى رسالتي إلى الصرح الشامخ، نادي المسرح ببورسعيد. إنني أناشدكم احتضان فريق المسرح بناديكم العريق، وتذليل العقبات؛ في سبيل إتاحة الفرصة للمبدعين المذهلين، ليكونوا أروع سفراء للفن المسرحي، خلفا للعمالقة (وهم بالفعل امتداد للعمالقة): عباس أحمد، ومحمود ياسين، وصلاح الدمرداش، وشوقي نعمان، وأحمد عجيبة، ورشدي إبراهيم...إلخ.