أفراح القبة.. آلام وصراع غير أخلاقي

أفراح القبة..  آلام وصراع غير أخلاقي

العدد 691 صدر بتاريخ 23نوفمبر2020

تقدم فرقة مسرح الشباب على المسرح العائم الصغير بالمنيل، العرض المسرحي “أفراح القبة”، عن رواية “أفراح القبة” لأديب نوبل نجيب محفوظ، كتبها عام 1981، وتم تقديم هذه الرواية في مسلسل تليفزيوني عام 2016، وهذه الرواية القصيرة عبارة عن أربعة فصول، كل فصل معنون باسم شخصية، وهم (طارق رمضان – كرم يونس – حليمة الكبش - عباس كرم) ولا يوجد بالرواية سارد تقليدي (راو) بل كتبها نجيب محفوظ بتقنية الأصوات المتعددة (بليفونية) وتحكي الشخصيات الأربع الرئيسية الأحدث كل من وجهة نظره، ومنها نتعرف على شخصيات فرعية، فلا يوجد بطل واحد من الرواة الأربعة، ولا الشخصيات التي تحدثوا عنها، والصراع يتولد من داخل النفس البشرية، لكل منهم حلم أو هدف ما، لقد كتب نجيب محفوظ روايات أخرى بهذا الشكل، مستفيدا كغيره من الكتاب المصريين من اطلاعهم على الثقافة الغربية، ونستطيع القول أن مسرحية “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” للكاتب الإيطالي لويجي براندلو هي الأكثر تأثيرا على محفوظ في كتابته لهذه الرواية. وعندما نتطرق لعنوان المسرحية (وعنوان الرواية) نجد أن كلمة أفراح اسم جميل يوحي بالسرور والانشراح والأعراس، وكلمة القبة هي بناء مستدير مقوس مجوف يعقد بالآجر(الطوب اللبن المحرق المعد للبناء) أو خيمة صغيرة أعلاها مستدير، فنجده على غير مسمى، وقد أجاب نجيب محفوظ على لسان سرحان الهلالي مالك المسرح في حديثه مع عباس كرم مؤلف المسرحية، لماذا أسميتها “أفراح القبة”، وقال فكر المؤلفين لا يجوز علي، لعلك تشير إلى الأفراح التي تبارك الصراع الأخلاقي رغم انتشار الحشرات، ولعله من أسماء الأضواء كما نسمي الجارية السوداء صباح أو نور!  
إن أدب نجيب محفوظ تتعدد فيه مستويات التلقي والتحليل الفني، وتناول الرواية في الوسائط الفنية يتطلب بحثا علميا، فلذلك سنتحدث في هذه المساحة عن العرض المسرحي الذي أعده وأخرجه (يوسف المنصور) وقام بمسرحة الرواية بشكل يتفق مع رؤيته الإخراجية،  فنجده ألقى الضوء على شخصيات مثل تحية (سمر علام) ودرية (جيهان أنور) وأم هاني (عبير الطوخي) وسرحان الهلالي (عبد المنعم رياض).
ومن خلال الأحداث نجد أن المسرحية من تأليف عباس كرم (قام بالتمثيل: مينا نبيل - شابا، محمد تامر – فتى، حمزه رأفت – طفلا)، ابن كرم يونس (محمد يوسف) الملقن بفرقة سرحان الهلالي، وحليمة الكبش (هايدي عبد الخالق - كبيرة، فاطمة عادل - شابة) التي التحقت كممثلة بالفرقة لكنها صدمت بالواقع الأليم وعملت في شباك التذاكر. عباس شغوف بالكتابة للمسرح منذ نعومة أظفاره لكن أعماله المسرحية يرفضها سرحان لأنها قصص طفولية لا ترقى أن تقدم على المسرح، لكنه اشترى هذه المسرحية لعرضها على خشبة المسرح لهدف ما في نفسه، يخرجها مخرج الفرقة سالم (أحمد صلاح)، نرى كرم يونس تأثرت حياته بسلوك أمه المنحرف، وأن حليمة التي تزوجها واكتشف في ليلة الزفاف أنها ليست بكرا، شبيهة بأمه ذبيدة (ياسمين ممدوح وافي) التي كانت تقيم علاقات جنسية مع الرجال، ويرى عباس أمه حليمة غير شريفة، فقد شاهدها في منزلهم تقف مع الهلالي ويدخل غرفتها، لكنها ترى أنها ضحية لأن الهلالي اغتصبها في الماضي دون إرادتها، وحاليا عندما حاول التحرش بها في المنزل عنفته وطردته، فالأشخاص لا تشاهد الحقيقة كاملة، فالحقيقة نسبية.
وتتطرق الأحدث لثلاث نساء تتحدث عن الشرف، وهن حليمة الكبش التي سترها كرم يونس وقال لها (أنا ميهمنيش الماضي)، وتقول (يا حظك اللي زي الورد جوزك طلع شهم وعرف معنى الشرف بصحيح)، أنجبت حليمة عباس ووهبت حياتها لتربيته، وتقف عاجزة أمام تصرفات زوجها الذي يفتح منزلهما وكرا للقمار ويتعاطى الأفيون، لكنها لا تقبل أن تكون تحية الممثلة بالفرقة زوجة لابنها، حيث إنها غير شريفة لأنها أقامت علاقة بدون زواج مع طارق رمضان الممثل بالفرقة (محمد عبد القادر)، لكن تحية أحبته وعندما أيقنت أنه لن يتزوجها قبلت الزواج من عباس، فهي تريد الستر، ومن المفترض أن حليمة تقف بجوارها وتبارك الزواج، لأنها في يوم ما عاشت نفس الحالة لكنها ترفض، فتقول لها تحية في تحد (أنا هتجوز عباس وهخلف منه وابني لو حب يستر على بنات الناس مش هعمل زيك، عارفه ليه علشان أنا أشرف منك)، أما درية بنت العجلاتي المدعية أنها بنت باشا أصبحت نجمة الفرقة، وبمساعدة شخصية ما ذات نفوذ تغلق المسرح وتساوم سرحان وتمتلك ربع المسرح نظير فتحه مرة أخرى، تريد الاستقرار فترى أن الهلالي زوج مناسب وتقول له أنا (زي الجنيه الدهب) لأنها لم تمس جنسيا. وننتقل إلى خياطة ملابس الفرقة أم هاني التي تقيم علاقة غير شرعية مع طارق رمضان، ومنعت حليمة أن تخبر كرم بحادث الاغتصاب، وقالت لطارق (مصيبة راجل يشلها راجل)، وعندما قال لها طارق (ابعدي عني وعيشي بشرف) ثارت وقالت (هدفعك كل لحظة عشت فيها معاك من غير شرف). حتى سرحان الهلالي أشرك طارق رمضان معه في قتل الخواجة موريس صاحب المسرح وأخذ بصمته على عقد بيع المسرح وضحك على طارق، ويرمي له الفتات. هل الهلالي إنسان أم شيطان أو صاحب المال الدنجوان أو صاحب السلطة العليا؟ هو الأمر الناهي دخل فرقته يجعل سنوسى (باسم سليمان) كومبارس وحميدو (أحمد عباس) مصمم رقصات للراقصين (مارتينا رؤوف وحسام علاء) ويجعل اللبيسة صفية (هدير طارق) ممثلة ويجعل إسماعيل (يوسف مصطفى) بطلا في مسرحية أفراح القبة، ويخطط خطة شيطانية بأن يقتل طارق درية وعباس أو على الأقل يصاب بالجنون، ويتم قتل درية وبذلك يتخلص من خصومه، ويتحدث عن الشرف ويقول (لازم المسرح يتبني من جديد بشرف).
 ونرى أخلاق العاملين والفنانين في الفرقة فاسدة، فتشعر أنه مجتمع غريب مهتم بالعلاقات الجنسية، ولا ينامون ليلا ويقضون أوقاتهم في شرب المخدرات والخمور ولعب القمار، ونلاحظ في العرض سرد تواريخ وأحداث سياسية وبعض الأغاني لتحديد زمن الأحداث فقط ولم تحاكم فترة سياسية بعينها، فهذا ما كتبه محفوظ والمنصور، لكن الدنيا بها الخير والشر إلى قيام الساعة.
لم يقدم العرض المتهم بقتل تحية، هل عباس كما كتب في روايته أم سرحان الهلالي، فمن يكون؟ فقد تركت النهاية مفتوحة لخيال المتلقي كما قال الهلالي، ويدعي أنه إنسان لأنه لم يقتل ابن عباس، ويشاهد المتلقي أحمد برجل عامل البوفيه (مينا نادر) يحمل الطفل ويتجه ناحية الجمهور للخروج من المسرح لعله يكون بداية إشراقة جديدة للمستقبل وانتصار الخير.
عندما نتطرق للرؤية البصرية نجد ديكور (عمرو الأشرف .. الإضاءة) عبارة عن ثلاثة مناظر رئيسية، الكمبوشة جزء أساسي في المناظر التي تتغير أكثر من مرة، فنجد منظرا للمسرح خاليا من أية ديكورات وخلفية سوداء وبه كرسيان للجلوس، وأحيانا نجد أسفل يمين العمق مكتب سرحان الهلالي، ومرة أخرى في منتصف العمق نشاهد سلم منزل كرم يونس، ويدل ذلك على أن الحياة مستمرة، فنرى مشاهد من  حياتهم، مثل اغتصاب حليمة، أو مساومة درية لسرحان لإعادة فتح المسرح، والمنظر الثاني لديكور مسرحية “هاملت” ففي منتصف العمق ستارة حمراء مربوطة من أسفل وفي الأعلى بطول العمق برقع الستارة وبعدة اللون الأسود به بعض الرسومات وفي الثلث الأسفل جدار،  ويمين ويسار المسرح شكلان متطابقان يمثلان شرفة ونرى البروفات للعرض وجزءا من حياة الفنانين في العمل، أما المنظر الثالث فهو منزل كرم يونس هذا المنزل يعود بناؤه إلى بدايات القرن العشرين، ففي منتصف العمق سلم تصعد له بخمس درجات ثم يتفرع شمالا يؤدي إلى مكان إقامة طارق رمضان، ويمين يؤدي إلى صالة التجمع للعب القمار، فهذا المكان يصعد ويعيش فيه الأغراب ويدل ذلك على أنهم في منزلة أعلى من أصحاب المنزل، فوجود هؤلاء الناس يعود بالمنفعة المادية على أصحاب المنزل، والطابق الأسفل شمالا يعيش عباس أسفل مكان إقامة طارق وتحية، وفي اليمين بالعمق تعيش حليمة أسفل لعب القمار، ونستطيع القول بأن حياة حليمة في هذا المنزل تشبه لعبة القمار، وأن عباس يتطلع لأعلى للفوز بتحية.
أما الإضاءة فكان تعبيرها واقعيا أكثر من تعبيرها الدرامي، فكانت تتغير من مشهد إلى آخر حسب الحالة، فنجد المنزل معلقا به فوانيس ذات إضاءة خافتة في فترة الثلاثينات والأربعينات تزداد شدتها عندما بدأت تنتشر الإضاءة الكهربائية في ربوع مصر، وينعكس ذلك على الإضاءة القادمة من الخارج التي كانت تعبر عن الوقت. وقد استخدمت الإضاءة ذات الألوان المتداخلة (أحمر – أخضر – أزرق) على سرحان الهلالي معبرة عنه كإنسان غواه شيطان، استخدمت الألوان البرتقالي لإنارة وجوة الممثلين، والبؤر الضوئية الصفراء لإضاءة المكان المراد إضاءته وإضاءة منكسرة بها شادو على الممثلين أثناء الرقص ولعب القمار في دلالة على حالة الضياع وعدم الوعي والاتزان قبل نكسة يونيو 67، وبمجرد أن تنزل أغنية “عدى النهار” يسيطر اللون الأزرق للتعبير عن حالة النكسة والانكسار، واستخدم فلاشر في مشهد اغتصاب حليمة لنقل حالة المعاناة والمقاومة والهجوم الشرس عليها من سرحان الهلالي.
ونجد أن الملابس (عبير بدراوي) كانت معبرة عن الفترة الزمنية التي مرت بها أحداث العرض، فمثلا نجد ذبيدة ترتدي قميص نوم لونه مائل للأحمر (طوبي) يظهر الخصر وبه كورنيش من أسفل للتعبير عن فترة منتصف الثلاثينات، وترتدي حليمة في فترة الشباب فستانا مزركشا بدون أكمام للتعبير عن فترة الخمسينات، ويرتدي سرحان الهلالي تي شيرت هاي كول وفوقه جاكيت به نقشة كاروه الصغيرة للتعبير عن فترة النصف الثاني من السبعينات، وهكذا.
أما الموسيقى (أحمد نبيل) فقد استخدمها على أكثر من خط للتعبير على الزمن وكانت مغلفة في العرض بالحالة النفسية وبخاصة عند طارق رمضان، فاستخدم الآلات الوترية وخاصة البيانو، واستخدم الجيتار والأورج وطريقة أداء اللحن للتعبير عن حقبة السبعينات في تلحين أشعار (محمود يوسف وأحمد نبيل).
كان التعبير الحركي (مناضل عنتر) من نسيج العمل الدرامي.
أما الأداء التمثيلي فهو أقوى الحلقات في العرض، فنسج الممثلون سيمفونية من الأداء التمثيلي، استطاع فيها ممثلو العرض الشبان تثبيت أقدامهم أمام الفنانين أصحاب الخبرة.
نجح المخرج أن يقدم عرضا متماسكا دمج فيه الحاضر بالماضي والواقع المقدم على المسرح والتمثيل داخل التمثيل بإيقاع متدفق، ولهذا استخدم تقنية كسر الإيهام ليحقق هدفه، وكذلك لربط الجمهور بخشبة المسرح في وحدة واحدة.  
ومن وجهة نظرنا يعيب هذا العرض طول فترة العرض التي امتدت أكثر من ساعتين، وكذلك تكرار بعض الأحداث.
تحية واجبة لكل من ساهم في خروج هذا العرض للنور فهي تجربة تستحق المشاهدة.

 


جمال الفيشاوي