التجريب.. مصطلح أم مدى؟

التجريب..   مصطلح أم مدى؟

العدد 854 صدر بتاريخ 8يناير2024

شأن التجريب بالعالم العربي كشأن ألف ليلة وليلة . ثلاثون دورة من مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، انعقدت الدورة الأخيرة في الفترة بين الأول والثامن من أيلول من العام 2023، ولا يزال التجريب يحدق في المسرحيين ويحدقون به، كأكثر السطور جمالاً، كما لو أنهم يحدقون في سماء مجهولة . لأن لا علاقة له بالأدب الشعبي . ذلك أن ذريته هناك، على الضفة الأخرى، حيث الخيط الرابط بين التجريب وبين قمره في الدول المصنعة. لأن جوهره الناعم والدقيق هناك . إذ أن التجريب من مستخدمات وعود القرن التاسع عشر، أبجديتها، سحرها، لا من صور الخفة . صور يعتقدها من يرتدون من العرب جدائل الشعر المستعار . شعر التجريب . جاء الجميع ليروه، ولم يروه إلا كرقص الأرانب في الغابات . عند الدكتور سامح مهران، رئيس مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة، عنده المسرح مسرح . هو في تقدمه، التعبير الأوضح للخروج من تنظيم اجتماعي إلى تنظيم اجتماعي آخر . هذا جزء من حديث طويل، سوف تنشره الحصاد لاحقاً . ومن اتجاه معرفي إلى اتجاه معرفي مغاير . وما المسرح المنحاز إلى الماضي، سوى ميت يتكلم.
عنده لا تغير في المجتمعات من دون تجريب . هذا صحيح . ولكنه جزء، جزؤه الآخر أن لا تجريب إلا حين يقع التغيير في المجتمعات. لأن المسرح جزء من وصايا المجتمع لا العكس . هذا ما جاء تأكيده في عروض دورة المهرجان الثلاثين، حيث مثل التجريب طريقة واحدة عامة بالعروض العربية، حين مثل أحاسيس اعتقادية واعتقادات أحساسية وإحساسات بالعروض الأجنبية،كالعرض اليوناني “الإلياذة“ أفضل عروض المهرجان . حين لم يكتشف جزء واسع من العروض العربية ما يفترض الكشف عنه، ما يفترض اكتشافه في الخيارات الإرادية . بحيث ظهروا وكأنهم فقدوا الإتجاه مع تكسر بوصلاتهم. 
لا يزال العرب يحتاجون إلى التقويم وإلى نضج الظروف . ذلك أن كلمة واحدة لا تقدر، على ابداع تيار يرجع في اعتقاد من يقفون وراءه أو أمامه، إلى القدرة على ترجمته إلى اللغة العربية . لا نزال في مرحلة الترجمة المُقنعٍّة بالإقتباس. لم نصل إلى التأليف إلا نادراً . تترجم المصطلحات . لا تترجم المناهج ولا المسارات على أرض الواقع . هذا مستحيل .لأن الواقع ولاَّد . بلا واقع لا شيء . لا شيء بعيداً من الواقع . لأن الواقع حمال التجارب في امتداداتها، شرط أن يمتلك أصحابها الحلم .ثم الوعي. ثم الأمل الواعي في لحظ العلاقة بالواقع نفسه، حيث تتداخل الروافد لكي تشكل العالم الآخر.لا العالم الجديد.لا قيام سوى باللحظ، الملاحظة، الملاحظات . لا منجز إلا على الملاحظة . لا منجزات سوى على الملاحظات .لا منجز سوى على القوة والعمق . لا القوة والعنف . لأن العنف يقيم التأثير السلبي، بحيث لا يعود يساهم في قيام العوالم الإبداعية . لأنه يدفع الأعمال إلى خارج عوالم تطورها . ما حدث، في معظم الأحيان .ما لا يزال يحدث، أن ثمة من يقيم العنف على نفسه وعلى الآخرين ،لكي يقيم حواريه السريعة إلى بطاقاته السوداء . ثمة من حول التجريب في المسرح، ثمة من حول المسرح التجريبي إلى بطاقات سوداء وهو يبعده عن المغامرة، الحقيقية، الفريدة، إلى مجموعة من المعادلات، باندفاعه في جدول أعمال، يريد له أن يتحقق. هذه اتمتة. اتمتة التجريب، اتمتة العمليات في المسرح التجريبي نوع من التعنيف، نوع من ممارسة العنف على المسرح، نوع من حياة وحشية لا تعاش في مجتمعات سعيدة . لا تعاش سوى في الغابات الوحشية الواقعية أو الإفتراضية. كأن المسرح التجريبي زير مسارح، لا ينام إلا بعد أن يمارس ذكورته على قطع المسرح الأخرى، على قطاعات المسرح الأخرى . كأنها نساؤه، كأنها جواريه . وذلك بعيداً من أمور أخرى لن تجري سوى بالطلاقة لا بالإطلاق. بالحيوية الفردية الطالعة من الضرورة، الحاجة، تلبية الحاجات، الإزادة على المسرح لا ذكر المزيد فقط.
يقال مسرح تجريبي وكأنه كولون جاهز . يقال تجريبي .وإذ يقال يتفكر التجريبي أن على مسرحه أن يبتعد مسافات عن الواقع والواقعية، لأن الواقع قذر و الواقعية قذرة . بدون أن يعلم بأن ثمة حركة في الأدب الأميركي معروفة بالواقعية القذرة . وهي حركة لا سبة. ولكن أن تحارب مفهوم التشابه، وهو جعل الأعمال في شراكات لا تنفصم عراها أو خلق الخلق لتتشابه الخلق على من يخلقها ومن يراها، لتقع في المفهوم هذا.هذا ما دفع إلى حجب تيار التجريب عن المسرحيين، بعضهم عن البعض، بعد أن وقع في تشابه الآليات وتساويها . التشابه، اختفاء الشيء بالشيء . ثم حجبه عن الجمهور بعد أن تشابه الأمر عليه . أي اختلط الأمر عليه بوجوده أمام ملامح وصفات جسمية، مكربجة، لا علاقة لها بالحياة . لا علاقة لها بالكائنات الحية .وقوع غد قوانين تداعي المعاني في الأجساد الصلدة في صورها الذهنية غير المترابطة. حيث تحتاج المعلومات والحلول إلى حاسبات . هذه أشغال أقليات في مجتمع لا يزال ينمو عددياً على الرغم من تراجع النوعية . ذلك، أن لا شيء لا يأتي من الهواء . لن يتبلور عمل بين عشية وضحاها على ما يقال .الأهم، لن تتبلور تجربة من منظور جزئي يتعلق غالباً برؤية أقليات، لم تصل سعة بعضهم سوى في منحهم بعضهم البعض جوائز المسرح بعيداً من قواعد الصرف والنحو .
صورت مجموعة أن المسرح التجريبي مسرح غسقي، أو مسرح مسيرة غسقية . لذا، لم يفرض نفسه طويلاً . لأنه لم يقدم أفعاله المسندة . هكذا، لم يفرض نفسه سوى في المناسبات بعد أن أوقعوه في المبالغة والتضخيم والمفارقة في نوع من النزوع إلى الهرب والإنسحاب من جملة الفاعل بالإقامة فيه بدون مغادرته . لا عودة إلى الكلام على أن جزءاً واسعاً من الحركة التجريبية، يعود إلى عدم تملك القدرة على المواجهة . مواجهة الذات والآخر والوجود معاً. بحيث تصور كمحاولة للفرار من الوجود هذا . الوجود الحياتي والوجود المسرحي بارتباطهما واطلاقهما الأحاديث المطولة عن التطور وتجسيده بعيداً من الآفاق المدلهمة، ما يواظب عليه في الراهن .
ما حدث بعد أواخر الخمسينيات والستينيات حركات بعيدة من التجليات . حركات راحت تكرر نفسها، حتى بدت من النوع نفسه وهي تتكرر .
لن يأتي شيء من فراغ . لن يأتي شيء من عدم . هكذا، جاءت الحركات الطليعية في مختلف المجالات على مستوى العالم كله، حين قامت حركات الثورة والتثوير ،التحرر والتحرير . وقام الصراع بين القطبين، أميركا والإتحاد السوفياتي في ذلك الزمن العظيم . حيث لا دراما بلا صراع . تولدت الدرامات من الصراع بين الرأسمالية والشيوعية . ذلك أن الصراع يولد الأفكار كما يولد الدراما . بلا أفكار، لا أشكال . الشكل ساحة من العلاقات . لا صفر من العلاقات . وإذ انتعش التجريب في تلك المرحلة بالعالم العربي، لأن عواصمه واجهت من الأحداث والأهوال ما دفع إلى حروب عصابات وبروز مقاومات يسارية لم تسمح لتلك السنوات بالإنقضاء بدون تظهير ثقافة جديدة، ثقافة المسرح على رأسها . كما حدث في اميركا، حيث حدثت فنون البوب آرت وقامت النزعات الطليعية ومسرح الأندرغراوند وسينما الهوبو. لا شيء يأتي من عدم ولا شيء يأتي من فراغ . لذا، شكلت الإلتواءات التاريخية الكبرى اللقاءات الأولى بالمسارح الأخرى، غير المسارح الدارجة المازحة في دروجها على ما هي عليه على مدى سنوات طويلة . لذا، شكلت الحروب الكبرى والصغرى، اللقاءات الأولى بين من أرادوا الخروج على الآفاق الشائعة إلى الوقوع بالآفاق الأخرى، حيث قدموا النماذج المدهشة للإشتمال على المحرك الواقعي والمحرك الفني / الثقافي سواء بسواء . لأن أول ضحايا انفصالهما هو المسرح والأشكال الثقافية .كفرقة الحكواتي و محترف المنارة وفرقة السندباد ومسرحيات ريمون جبارة وانطوان ملتقى في لبنان . وفرقة المسرح الجديد مع غسالة النوادر وتوفيق الجبالي ومحمد ادريس وجليلة بكار في تونس . واعمال كرم مطاوع وسعد أردش وغيرهم في مصر . سعد الله ونوس وفواز الساجر في سوريا . الطيب الصديقي في المغرب . صلاح القصب في العراق. وهكذا . بغياب المكونات القديمة، المحفزات القديمة، أضحى الشكل ساحة العلاقات القديمة، ساحة بلا علاقات . مذاك، أضحى المسرحي، كل مسرحي، المسرحي التجريبي” أكثر، ككوين بطل قصة “ مدينة الزجاج في ثلاثية بول أوستر الشهيرة . كتب قصصاً باسمه أولاً، في نيويورك . ثم، تخلى عن إسمه ليكتب باسم مستعار . حتى جاءه الإتصال المفاجئ. سأله عن ما إذا هو نفسه بول أوستر . وحين أجابه بنعم، وقع في مصيدة، سوف تقوده إلى مغادرة منزله، لكي يراقب منزل المتصل بغرض حمايته من من يهدده . أو والده المسجون، المتروك بعد سجن أعوام . لن يلبث أن يفقد أحساسه بالزمان والمكان، وهو يراقب الوالد ومنزل الإبن . دحرجة الأحداث، تدفع كوين إلى ضياعه بين الأسماء . اسمه الحقيقي، إسمه المستعار . ثم إسمه المنحول . سوف يضحي غريب نفسه، وهو يفقد نفسه، بعد أن فقد أصحابه وبعد أن فقد جريان الوعي به. بحيث ما عاد يعرف كيف وجد نفسه في مكان وزمان المراقبة، ماذا جرى، هل تضوع أم ترك روائح كريهة . وحين يقرر العودة إلى منزله لن يجد دمه ولا روحه ولا جسده فيه، حين يجد فتاة معلقة كزهرة في فضائه . أجر صاحب المنزل منزله للفتاة بعد غياب كوين عاماً عن المنزل . لم يدرك الأمر، إلا حين وجد نفسه بلا منزل .
حال المسرحي كحال كوين . لن يعمل في منزل غير موجود مع انقلاب الأوضاع . المسرح مؤجل، كما هو . المسرح مؤجل في تياراته وتجاربه، إلى حين الخروج من الحنين إلى واقع جديد لا يزال يتشكل . إنه الوقت . ما على المسرحي سوى الإنصات والإنتظار .


عبيدو باشا - لبنان