خمسون عاما من المسرح المجهول في طنطا (15).. الصحافة تقدح فرقة الأوبريت المصري

خمسون عاما من المسرح المجهول في طنطا (15).. الصحافة تقدح فرقة الأوبريت المصري

العدد 785 صدر بتاريخ 12سبتمبر2022

قرأنا في المقالة السابقة كيف مدح الناقد «جبر» فرقة الأوبريت المصري التي تعرض مسرحياتها في طنطا. ومن الواضح أن الناقد كان يكتب كل أسبوع مقالة تحت عنوان «التمثيل في طنطا»، بوصفه الناقد الفني لجريدة «الممتاز»! وبعد مدحه الكبير الذي قرأناه، لم نجد له مقالة الأسبوع التالي!! أما الأسبوع بعد التالي فوجدنا مقالته منشورة يوم 21 سبتمبر 1927، وعلمنا من مقدمتها أن الناقد مُنع من كتابة مقالته في الأسبوع السابق!! والمفاجأة أن الناقد انقلب على الفرقة، وتبدل مدحه السابق إلى قدح في الفرقة وأفرادها!!
قال الناقد «جبر» في مقدمة مقالته، تحت عنوان «التمثيل في طنطا»: أخيراً أذن الله لهذا القلم أن يعود للظهور على صفحات «الممتاز»، الأغر بعد أن اُحتجب في الأسبوع الماضي، لأسباب لا محل لذكرها، وأذن له أن يظهر متكلماً عن التمثيل في طنطا، لا بلهجة انتقادية لا تعتورها مؤثرات الغرض، ولا تشوبها أدران الأحقاد! بل لهجة الناقد النزيه الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، وعبارة الكاتب الجريء، الذي لا يتطلع لغير الواجب يؤديه، والحق بيديه، غير هياب ولا وجل بغير محاباة. ويضرب في كلماته على النغمة المشجية التي تنهض بالأخلاق أولاً، وبالمسرح ثانياً إلى سماء الكمال، وتحلق بالكرامة والنهضة الفنية في جو السمو والارتقاء. ولئن مدّ الله في عمرنا، وأطال في حياة الفرق التي هبطت المدينة فسيجد القراء في هذا الباب نوعاً من النقد البريء الجريء، الخالي من مكدرات الغاية، البعيد عن شوائب العجز أو النقص. 
وينتقل الناقد إلى مرحلة الندم على كل ما كتبه مادحاً الفرقة، قائلاً في ذلك: وكفى ما مضى من عبارات التهليل والتصفيق، لمن يحترفون التمثيل بالمدينة. وكفى ما أغدق عليهم من وابل الألقاب بغير حساب، ولكي يكون الخاص والعام متمشياً معنا في أسلوب النقد، وواقفاً على حقيقة ما نرمي إليه في كلماتنا التالية، نلمح بطرف خفي إلى أن التمثل بحسب ما اتفق عليه الفنيون وذوو الرأي المعمول به في النقد المسرحي، ينقسم في الجملة إلى ثلاثة أقسام: الأول «النوع التراجيدي» وهذا عبارة عن قصة، يخرجها المؤلف يتخللها باستمرار مفاجآت غير منتظرة من جانب القدر، مثل رجوع الغائب بعد غيبة منقطعة، أو اتضاح حياة شخص من أشخاص الرواية علم موته فيما سبق، أو نحو هذا مما تهتز له أعصاب المشاهدين، ويكون ذا أثر ظاهر في الإحساس. والثاني «النوع الدرامي»، وهو عبارة عن قصة تخضع جميع ظروفها، ويخضع أشخاصها لعوامل الطبيعة، من حياة وموت وحب وبغض وتنافس ومزاحمة، وتكون في الغالب جميع وقائعها منتظرة الحصول. والثالث «الكوميدي» وهو عبارة عن صورة هزلية من الدرام لا يفرق بينهما إلا الضحك والسرور الذي يتولد من مسخ صور أبطال الرواية مسخاً، يتمشى مع طبيعة الدور الذي يقوم به الممثل، ولا يميزه عن الدرام غير الإغراق في الطرب، والغناء في الانشراح لدرجة لم تذهب مطلقاً بجلال القصة، ولم تخرجها عن تطورات الطبيعة التي تبقى باستمرار خاضعة لها. ولعل هذا النوع الثالث هو ما ذاع تمثيله في مدينة طنطا على يدي الفرق التي تتنازع التفوق فيما بينها. فإذا لم يكن متمشياً مع هذه النظم، وموافقاً لأساليبه الخاصة، فلسنا نسميه إلا تهريجاً، أو نوعاً من التسليات قصد به استنزاف الأموال، وضياع الوقت في غير جدوى، وبدون أية فائدة، فإذا تعرضنا لنقد ممثل أو فرقة برمتها، أو رواية موضوعة أو معربة، فلا غرض لنا من هذا سوى المحافظة على كرامة الفن أن تُداس، وعلى شرفه أن يضيع. فمن كان ممثلاً فليقبل نقدنا على العين والرأس، وليفهمه بحسن نيّة وعن طيب خاطر، ومن لم يرضه النقد، وأبى إلا أن نصفق له، ونهلل لظهوره على خشبة المسرح، ونكبر للنكتة المكشوفة، يصدع بها أسماعنا، فالتمثيل بريء منه. ونحن بريئون منه أيضاً، وليس مقصوداً بنقدنا ولا هو، موضع بحثنا، وليفتش له من الآن عن كاتب يتبرع بقلمه لخدمة الأشخاص، ويريق ماء قريحته وعصارة عقله في سبيل الغايات.
بعد هذه المقدمات والتمهيدات، التي حاول الناقد أن يقنع قراءه بانقلاب منهجه من المدح إلى القدح، كشف عن غرضه في انتقاد فرقة الأوبريت المصري، قائلاً: فرقة الأوبريت .. نهمس في أذن مديرها الفني، أو مديريها الفنيين، وهم أكثر من أن يحصوا! فعباس مدير، وتوفيق مدير بالنيابة، والشماع مدير بالعافية، ومحمد يوسف مدير بالمهنة، وعلي محجوب مدير بالوجاهة، والشماع الصغير مدير بالوراثة، وربما كان نبيه مديراً باللهمة!! نهمس في أذنهم جميعاً باعتبارهم من غواة الفن، ومن الراغبين في الظهور بيننا كممثلين فنرشدهم بالحسنى إلى أن أهم ما ينهض بالممثل، سمو أخلاقه وتنزهه عن سفاسف الأمور وصغائر الفعال، ودنيء الخصال، فإذا لم يكن الممثل مثلاً أعلى في أخلاقه، ومرآة مصقولة تنطبع عليها الأخلاق الفاضلة التي يريد غرس بذورها في نفوس الجمهور الذي يشهده فلا أثر لتمثيله، ولا فائدة من ظهوره على خشبة المسرح. وأولى له ثم أولى أن يظهر على خشبة «الحانوتي» وليس على الممثل من بأس، وهو يتقمص شخصية ما في الرواية أن يتقيد بظروفها، ويخضع لمؤثراتها. ولو كانت أحط الشخصيات، بغير أن يقلل هذا من قيمته أو ينقص من قدره بل على العكس كما بالغ في تمثيلها، وتغلغل في خفاياها كلما أرتفع قدره، وسما شأنه في عالم التمثيل. أما أن يعمل هو عمل المنحطين ويتلطخ بصفات السفلة في حركاته وسكناته وأفعاله وتصرفاته، ثم إذا عُهدت إليه تمثيل إحدى تلك الشخصيات تأفف منها وتأفف الإفصاح عنها، فهذا ما لا يرضاه التمثيل، وهذا ما لا يبيحه المسرح. تلك كلمة عامة نسوقها تمهيداً للوقوف بالمرصاد أمام جميع الممثلين والممثلات في غير محاباة أو مداهنة، فإذا ما بدرت من أحدهم بادرة يُشتم منها رائحة الخروج على الأخلاق والاعتداء على الآداب، فسنوفيه حقه من التقريع، ونوسعه تأنيباً وإيلاماً، ولا حرج عليهم وهم بعيدون عن أعين الجماهير المحتشدة لمشاهدة رواياتهم أن يفعلوا ما بدا لهم، فلهم أخلاقهم، ولهم آدابهم، لا ننازعهم فيها، ولا نؤاخذهم عليها. وإذا همسنا في آذانهم بهذه النصيحة البريئة، فلا يفوتنا أن نصرح لهم بأن بعض الناس قد بدأوا يشعرون بشيء من السآمة في تكرار تمثيل بعض الروايات بنكتها المألوفة وظروفها المعروفة، وهذا من دواهي الكساد في الفرقة، ومن عوامل إفلاس التمثيل، وربما سبب هذا التكرار الذي لا مبرر له ذهاب الفرقة إلى طريق الفناء! فننصح لهم في هوادة ورفق، أن يعملوا على تنوع الروايات، والنكات، والأزياء، والأشخاص، توطئة لنموهم وتمهيداً لبقائهم.
إلى هنا وكلام الناقد مقبول من الناحية النقدية، بل ومعروف ولا جديد فيه!! ومن الواضح أن هناك أمراً آخر يريد أن يكشفه الناقد، وكل ما سبق كان تمهيداً له!! هذا الأمر كشف عنه الناقد قائلاً: لقد سئم المتفرجون كثرة الانشقاقات والخلافات التي تحدث بين أفراد الفرقة المسرحية على المسرح. حتى لقد يترك الممثل أو الممثلة ما نيط به إظهار الجمهور عليه، ويظهره على مشادة بينه وبين زميل له يسمع الجمهور دويها، ويقف على أسبابها. ولهذه المشاحنات وقت آخر فلديهم النهار الطويل إن كان النزاع شخصياً، وأمامهم ساعة البروفا، إن كان الخلاف فنياً. أما ساعة التمثيل، ساعة القيام بالدور، ساعة تناسي الشخصية الذاتية. فيجب أن يتناسوا كل ذلك ويجب أن لا يرى الجمهور غير الرواية، وغير حالات الرواية وصفات أشخاصها. فكي تحسن الفرقة صنعاً لو فرقت بين الحالتين، وميزت بين الواجب وبين المرغوب فيه، فلا نعود نرى مشاهد تغير من طبيعة الدور، أو تمسح شخصية الممثل، فتذهب بجلال الرواية، وتزيل رونقها وطلاءها. هذه آراؤنا مجملة. وهي في الوقت ذاته نصيحتنا الخالصة إلى الفرقة لتعلم من الآن أن انتقاداتنا ستدور حولها فلن ندع لواحد منهم صغيرة ولا كبيرة حتى نحصيها، سواء في ذلك ما تعلق بالأخلاق والعادات، وما تعلق بالفن والمسرح، وعفى الله عما سلف منهم من الهفوات العديدة التي من هذا النوع، ما نسدل عليه حتى الآن ستار العفو عند المقدرة، حتى لا يكون الواحد منهم عذر في أننا لم ننذره بأن سنتبع معه سبيل النقد الحقيقي! فلنرى بعد هذه الكلمة ماذا ستكون طريقتهم في التمثيل والأخلاق المسرحية.

مسرحية ناظر المحطة
بدأ الناقد «جبر» تطبيق أسلوبه النقدي الجديد، في الأسبوع التالي، حيث كتب كلمة عن مسرحية «ناظر المحطة» لفرقة الأوبريت المصري في جريدة «الممتاز» أواخر سبتمبر 1927، علماً بأن هذه المسرحية مثلتها أيضاً فرقة عبد اللطيف جمجوم - قال فيها: تُفسح الفرقة صدرها لنقدنا البريء وتستعد لتحمل وخزات هذا القلم النزيه! ولكن الجمهور هو الذي يحول بيننا وبين آراء واجبنا في النقد، لأن ما من ممثل أو ممثلة قد تجاوز دوره على المسرح إلا وكان الجمهور سبباً في هذا التجاوز بما يطلبه من استعادة، وبما يحتمه من منهاج خاص. ولو أنك شاهدت معنا رواية «مظلوم يا وعدي» [وهي من تأليف يونس القاضي]، ورأيت كيف بالغ الجمهور في تغيير مجرى الرواية على مقتضى أهوائه لاعتقدت معنا بأن الفرقة مجبورة، إن لم يكن في كل الأحيان، ففي معظمها على أن تساير الجمهور في رغباته. وعلى أن تخرج في التمثيل عن قيود الرواية ومقتضيات الفن، غير أن هذا لا يمنعنا من النقد، عندما يكون هذا الخروج مكشوفاً، وعندما يكون الخروج من طبيعة الممثل لتنفيذ رغبة الجمهور. وها نحن الآن نحلل لك بقدر الاستطاعة ما كان في رواية «ناظر المحطة»!! تخبرنا الرواية أن رستم بك كان متيماً في حب شارلوت زوجة ناظر المحطة. وقد تجلى هذا في الرواية بما كان يبعث به رستم بك من الطرود التي لا لزوم لها، وغرضه من ذلك أن يتردد على المحطة فيرى معشوقته. وتقول الرواية إنه كان أبله، وظهرت بلاهته عندما كان يختلي بنفسه فيعمل «بروفة» لأحاديث الغرام، التي سيطرحها على معشوقته. وانتهى به بلهه أخيراً إلى حد وضعه غير مرة بواسطة المخزنجي تحت «دش» المياه تخفيفاً لوطأة البلاهة التي غمرت عقليته. وبالاختصار مثّل توفيق إسماعيل دور المغرم الأبله تمثيلاً لا بأس به لدرجة أنه كان على وشك تضييع العصى التي كانت بيده. ولو رجعنا إلى شارلوت زوجة ناظر المحطة، لوجدناها رغماً من مسايرة رستم بك عواطفه، وإظهارها الرغبة فيه، لم تكن لتجيد موقفها الغرامي عند الاختلاء به. ولسنا ندري هل الرواية تقضي بأن تكون حياة شارلوت مع رستم حياة بلف؟! أو أن مرجريت التي قامت بدور شارلوت لم تشأ أن تظهر على المسرح غرامها بالقائم بدور رستم بك، مما للمظنة وخشية من سوء التأويل؟! واحدة من اثنين، أما أن تكون شارلوت أرادت بلف رستم بك، وهنا تكون الرواية ناقصة فترة تقف فيها مرجريت لتظهر الجمهور على رغباتها في التضليل برستم بك، وأما أن تكون العلاقة غرامية بحتة، وهنا يصح أن نقول بأن الغرام لم يظهر من جانب شارلوت على وجهه الكامل! ولعل لها عذراً وأنت تلوم خصوصاً إذا لوحظ أن شارلوت امتزج دمها بسهولة غريبة، بدم رجب بك المفتش، ورضيت أن يختلي بها بسرعة. وأن تهيئ له مأوى يجمعهما بمنزل زوجها كما يجتمع الرجل بخليلته. وكان الأحق بهذا رستم بك الذي أحبها وأحبته وهذه في الواقع نقطة ضعف لم نتبين حتى الآن إن كانت المسئولية فيها واقعة على الرواية أو على رأس السيدة مرجريت؟! وإذ أردنا أن نتبين موقف زوجة رستم بك في الرواية لما وجدنا له مغزى ظاهراً. ومن الغريب أن يعهد به إلى سنية، تلك التي نشهد بأنها لا تهيب المسرح، ولا تضعف أمام الجمهور الحاشد. وخذ بالك منها في رواية عمدة كفر المهابيل أو المصاطيل، فكان يصح لشارلوت أن تفصح لنا ذلك الموقف غرامياً كان أو خداعياً، وإلا فكانت على الأقل يعهد إليها بدور أم محمد التي كانت «جرسونة» في البار، ثم التحقت أخيراً بخدمة رستم بك كطباخة بمنزله ليستطيع الجمهور أن يرى رشاقة الجرسونة، وخفة الخادمة، وعشقها في الحالتين للمخزنجي عثمان. كل هذا بغير أن يغيب على سعادة السمراء شيئاً في دور أم محمد سوى بطء الحركة، الذي لازمها وعد اطلاعنا على حالتها ساعة مباغتتها برؤية عثمان المخزنجي في المحطة. وبالنسبة لعثمان المخزنجي فقد قام بدوره عباس مدير الفرقة، وهو مناسب للدور لما يتخلله من النكات القابض على زمامها عباس. غير أن الذي لاحظناه في دوره أن يحمل طرد الصبي الخاص برستم بك، وهو أمر غير مألوف في المحطات، خصوصاً بعد ما ثبت من وجود «شيالين» في المحطة، لأن محمد يوسف مثل دور الشيال، وسئل عن رخصته فعلاً! فكان الواجب على عباس أن لا يحمل الطرد مطلقاً أو يبين ساعة حمله السبب! وحيث إن الرواية مسماة باسم «ناظر المحطة»، فقد كان الدور الأساسي فيها هو دور ناظر المحطة، ولذا عهد به إلى حسين لطفي. والسر في هذا الاختيار ظاهر لأن الناظر شامي الجنسية، التي امتاز لطفي بالقيام بها، لما يحيط به من عوامل أهمها الحركات والصوت والسحنة وهدوء الأعصاب. وقد تخلل الرواية دور الخواجة خريستو صاحب البوفيه الموجود بالمحطة، والذي كانت تعمل فيه أم محمد كجرسونة، فعهد به إلى حسين الشماع، وهذا لا نبالغ إذا قلنا إنه أجاده على الوجه اللائق سواء في معاملة الزبائن. وبالجملة سارت الرواية مع الفرقة سيراً وسطاً بين الإجادة والسقوط لما تخللها من نقط ضعف سربت إلى النفوس عدم الاطمئنان إلى وضع الرواية في ذاته سيما وأن ختامها لم يكن بالصورة المرجوة لرواية تلك أشخاصها، وتلك فصولها فلا علمنا مصير رستم بك مع شارلوت، ولا مصير هذه مع رجب بك الذي ضبط معها في منزل الزوجية، ولا مصير عثمان المخزنجي مع أم محمد! ومهما قيل بشأن تمثيل الرواية في ذاته على مسرح الأوبريت فإنها كانت على أي حال أسعد منها رواجاً وإجادة عما شهده الجمهور من تمثيلها على مسرح النزهة، وهذا طبيعي راجع إلى قدرة الفرقة التي نتكلم عنها في مجموعها - لا في بضعة أفراد منها - قدرة استطاعت معها تلاشي نقط الضعف التي في وضع الرواية، ولم يشعر الجمهور إلا برواية مُثلت، وحازت لديه استحساناً عاماً. ونحن كمتفرجين سررنا لمشهدها ولكنا كناقدين اطلعنا الجمهور على رأينا فيها.


سيد علي إسماعيل