زكي طليمات يؤسس فرقة مسرحية حكومية تونسية

زكي طليمات يؤسس فرقة مسرحية حكومية تونسية

العدد 752 صدر بتاريخ 24يناير2022

بدأ زكي طليمات تنفيذ مشروعه في إقامة نهضة مسرحية تونسية، بالقيام برحلة إلى تونس رفقة فرقته المسرحية، التي كوّنها من طلابه الخريجين من المعهد العالي لفن التمثيل العربي، وهي «فرقة المسرح الحديث»؛ بوصفه مديرها. وبدأت إجراءات الرحلة بوصول «عمانويل إسكاروس» متعهد الحفلات بشمال أفريقيا إلى مصر، بعد أن تعاقد مع بلدية تونس على هذه الرحلة. وقام طليمات بتحديد المسرحيات إلى سيختار منها، وهي: الأيدي القذرة، والبخيل، ومريض الوهم، والمتحذلقات، ولكل حقيقته، ورجل الأقدار، وتاجر البندقية، وابن جلا، وكدب في كدب، ومسمار جحا، وكليوباترا، والشيخ متلوف، وحورية من المريخ، هذا ما أخبرتنا به مجلة «الفن» في سبتمبر 1951.
تعطلت الرحلة في البداية، ثم أُلغيت نهائياً بسبب تغيير الظروف السياسية في مصر بسبب قيام ثورة يوليو 1952، وما نتج عنها من قيام بعض تلاميذ طليمات بكتابة تقارير أمنية ضده؛ بوصفه عنصراً محسوباً على العهد البائد «العهد الملكي»!! ونتج عن ذلك تطبيق قانون «التطهير» عليه، فتمّ عزله من إدارة الفرقة، وعزله من عمادة المعهد، وعزله من أي منصب كان فيه!! وظل هكذا عدة شهور، لتعود إليه الحياة الفنية مرة أخرى عن طريق تونس، عندما أرسلت إليه كي يشرف على إنشاء معهدها التمثيلي!! وكم كانت المرارة شديدة عندما يقرأ الجمهور المصري صياغة الخبر، الذي نشرته جريدة «القاهرة» في يناير 1953، قائلة: «عرض «محمود شكوكو» على الأستاذ زكي طليمات أن يتولى إخراج المسرحيات الاستعراضية لفرقته، فاعتذر لارتباطه بالسفر إلى تونس للإشراف على إنشاء معهد للتمثيل هناك».

إلى تونس مرة أخرى
سنة كاملة قرأنا فيها مقالات ومذكرات نشرها طليمات في الصحف من حين لآخر، وفي المقابل لا نعرف ماذا يفعل غير ذلك؟! هل مازال معتكفاً في بيته، حزيناً على نكران الجميل من قبل تلاميذه وجحودهم؟! وهل سافر إلى تونس أم لا؟ وهل أنشأ فيها معهداً للتمثيل أم لا؟ وفجأة في ديسمبر 1953، تنشر مجلة «الفن» خبراً - أرسله لها مراسلها في تونس - عنوانه «مدرسة التمثيل تحتفي بزكي طليمات»، قال فيه: غادرنا إلى مصر الفنان زكي طليمات ليعود إلينا مرة ثانية في أواخر شهر فبراير ليشرف على إعداد الفرقة البلدية. وقد أقامت له مدرسة التمثيل حفلة شاي تكريماً له حضرها نخبة من الممثلين والأدباء والصحفيين، وبعض أعضاء البلدية. وافتتح الحفلة السيد «حسن الزمرلي» مدير المدرسة بكلمة رقيقة رحب فيها بالضيف. ثم أعقبه زكي طليمات فألقى خطاباً رائعاً جاء فيه: «أعتقد وقد قابلت الكثير من أعضاء البلدية، ورأيت منهم إجماعاً على أنه لا بد من إيجاد نهضة مسرحية، ولهذا نوصيكم بالاتحاد والتساند لأن في هذا نجاح لقضيتكم، قضية كل بلد يريد أن يأخذ مكانه تحت الشمس».
وشعر الأستاذ «محمد بن علي» شغف المصريين قبل التونسيين لمعرفة أخبار زكي طليمات، فأخذ منه حواراً، نشرته مجلة «الفن» تحت عنوان «زكي طليمات يتحدث إلى الفن عن تونس فيضع النقاط فوق الحروف»، ننقل منه أهم ما جاء فيه من أسئلة وأجوبه: س: ماذا تنوي أن تعمل في تونس؟ ج: مهمتي الأولى أن أفي بالتعهدات التي تعاقدت بشأنها مع الأستاذ «أنطون عيد»، وهي أن أقدم موسماً تمثيلياً على مسرح البلدية في شهر أبريل. نقدم فيه نخبة من المسرحيات العربية تأليفاً أو ترجمة على أن أنتخب أصلح العناصر بين هؤلاء الممثلين للعمل معي حتى يتسنى للبلدية أن تختار من هؤلاء الصالحين للفرقة التي تعتزم إنشاءها. ويسعدني أنني رأيت بين الزملاء الممثلين الذين تفضلوا بالتمثيل أمامي، بمسرح البلدية في جلسات خاصة عناصر طيبة وبهذه المناسبة أشكر المسئولين في إدارة البلدية إذ وكلوا إليَّ أمر هذا الانتخاب كما أشكر الزملاء الممثلين. س: هل تنوي الإشراف على هذه الفرقة؟ ج: لا أستطيع الآن أن أدلي برأي حاسم في هذا لأن الإشراف الحقيقي على هذه الفرقة المزمع إنشاؤها يتطلب مني أن أقيم في تونس الخضراء مدة لا تقل عن عامين متواليين أكون فيهما هنا بكليتي لتدبير شئون الفرقة. وتكوين هذه الفرقة ليس بالأمر العسير، ولكن الأمر العسير هو أن أسير بها إلى النجاح وأن أجعلها موضع ثقة الجمهور التونسي إذ لا فائدة من تكوين فرقة بلدية أو غير بلدية ما لم تقدم هذه الفرقة ما يثبت جدارة أعضائها، وما لم تجعل الجمهور يسرع إلى شهودها وهي مسئولية لا أملك القيام بها ما لم يكن لي الإشراف الفعلي الكامل على جميع نواحي النشاط الذي يجب أن تتبعه هذه الفرقة البلدية. فبادرته بقولي: أرجو أن تفعل! فقال لي: سأحاول جهدي إكراماً للمسرح التونسي ولما لاقيته من تصميم رجال البلدية وإدارة التعليم في اختياري لهذا الأمر، هذا التصميم الذي تجلى على وجه ملأني زهواً، بين إكرامهم لوصولي إلى تونس، وبين هذه الثقة الاجتماعية الفائقة التي غمروني بها. س: هل تعتقد أن البلدية جادة حقاً في تأليف هذه الفرقة؟ قال: أعتقد هذا الاعتقاد تماماً بناء على ما سمعت من كبار المسئولين في البلدية وفي إدارة التعليم العام. لقد شاهدت بعيني وسمعت بإذني ما ينبئ بأن البلدية وإدارة التعليم العام جادتان الجد كله في إنجاز هذا المشروع لاعتقاد رجالكم هنا أن هذا هو المسار الوحيد ليسير المسرح التونسي إلى مرحلة جديدة من التقدم والارتقاء بيد أن حسن النيّة من جهة البلدية وإدارة التعليم لا يكفي ما لم يؤدِ الممثلون التونسيون واجبهم لتيسير إنجاز هذا المشروع. وواجبهم الأول الترفع عن الشحناء والبغضاء وأن يعملوا للصالح الفني العام. وأعود فأكرر أن الكلمة للممثلين وأن عليهم أن يتمسكوا بهذه الفرصة التي سنحت ولا يضيعوها. وسألت الأستاذ: ما هي أهم ظاهرة لفتت نظرك في المسرح التونسي ووسطنا الفني؟ قال: أهم ما لفت نظري افتقار المسرح التونسي إلى العنصر النسائي وأرجو أن يأتي قريباً اليوم الذي تنزل فيه الفتاة التونسية المثقفة إلى المسرح لتؤدي واجبها فيه، ورسالتها وهي رسالة لا تقل عن رسالة المحامية والطبيبة والمدرسة وبغير هذا لا يمكن النهوض بكيانه على الوجه المرجى. أما الوسط الفني فهو ككل الأوساط فيه علماؤه وفيه جهاله وفيه أخياره وفيه أشراره وهو وسط يتسم بطموح ناسه وبعضهم يريد أن يصعد الجبل في خطوتين. والطموح محمود على أن يدعمه الإنسان بالتحصيل والعمل المتواصل لاستكمال أوجه النقص. والخيال شأنه شأن الجناح الطائر الذي يدفع الطائر إلى شق أجواء الفضاء ولكن هذا الطائر قد يصطدم بالجدار إذا لم تكن له عين تحسن النظر.

بطلة العرض الأول
قام زكي طليمات باختيار الممثلين التونسيين، وشكّل منهم النواة الأولى للفرقة الحكومية التونسية، واختار بطلة الفرقة – والتي ستؤدي أدوار البطولة - من مصر، وهي الفنانة «لولا صدقي» - ابنة الكاتب المسرحي «أمين صدقي» - ولكنها اعتذرت لارتباطها بتصوير أفلام سينمائية، فقام باختيار «أمينة نور الدين» الممثلة بالفرقة القومية، والتي قامت بأدوار عديدة في الأفلام السينمائية المصرية .. هكذا علمنا من جريدة «الجمهورية» في فبراير 1954.
وكعادتها مجلة «الفن» لم تترك الفرصة، فنشرت – في مارس - حواراً مع أمينة نور الدين وزكي طليمات قبل سفرهما بأيام قليلة إلى تونس، نجتزئ منه هذا الجزء: ... وسألنا السيدة أمينة عما تحسه وهي على أهبة الرحيل، وعن شعورها وهي مسافرة إلى بلاد بعيدة عن وطنها فأجابت: إنني لست مسافرة إلى بلاد بعيدة عن موطني، فإن تونس هي وطني أيضاً، لأنها قطر عربي شقيق تربطنا وإياه روابط كثيرة، فضلاً عن إنني أعشق المسرح أينما وجد، وخشبته الصماء تناديني حيثما كانت. وإنني لأرجو أن أؤدي رسالة الفن المصري العربي في هذا القطر الشقيق. ثم سألناها: وما هي الأدوار التي ستقومين بها؟ فقالت: «الأهوازية» في مسرحية «ابن جلا»، و«بورشيا» في مسرحية «تاجر البندقية»، وما عسى أن يجد بعد ذلك من روايات يختارها الأستاذ طليمات. ثم وجهنا السؤال للأستاذ زكي طليمات: لِمَ اخترت أمينة نور الدين، وهل أنت راض عن اختيارك لها؟ فأجاب: لو لم أكن راضياً لما اخترتها، وإني سعيد كل السعادة أن تقوم السيدة أمينة برحلة إلى القطر التونسي، باعتبار أنها نجمة من نجوم السينما والمسرح المصري، وأنها فوق ذلك سيدة مثقفة، ويهمني ألا يطالع الجمهور التونسي في وجه أمينة الممثلة النابهة فحسب، إنما أحب أن يطالع فيها نموذجاً للسيدة المصرية في اعتزازها بفنها، وحرصها على كرامتها. وأعتقد أن السيدة أمينة ستؤدي دوريها على أحسن وجه، وأنها ستحظى بإعجاب الجمهور التونسي الذي أعلم عنه أنه يحسن تذوق الغالي والنفيس من مظاهر الفن. س: ممن تتكون الفرقة التونسية؟ ج: تتكون كلها من الشباب التونسي الذي عرف بالاقتدار في الأداء التمثيلي، وقد شاهدت أكثرهم، ورأيت فيهم خميرة طيبة أو بالأحرى نواة لإنشاء تلك الفرقة البلدية الحكومية التي تريد الدولة التونسية أن تنشئها. وسيكون للعنصر النسائي التونسي، مشاركة في هذا الموسم بقدر المستطاع وفي حدود ما يقدرون عليه. س: ولماذا اخترت روايتي ابن جلا وتاجر البندقية؟ ج: اخترت رواية تاجر البندقية باعتبار أنها إحدى روائع العبقري وليم شكسبير، وأن مترجمها شاعر القطرين النابغة المرحوم خليل مطران. ثم اخترت «ابن جلا» لأنها تقدم وجهاً كريماً من وجوه قادة الإسلام ألا وهو الحجاج بن يوسف الثقفي، ولأن هذه الرواية من أحسن ما أخرجته الأقلام المصرية في التأليف المسرحي، بل أن مؤلفها محمود تيمور ليتفرد وحده في كتابة المسرحية التاريخية إذ أنه يقدم الإنسان الخالد الكامن وراء الشخوص التاريخية، فالتاريخ لديه وسيلة وليست غاية. وفوق هذا فقد رأيت ألا أختار من أعمال موليير أو راسين أو غيرهما من كبار المؤلفين الفرنسيين على اعتبار أن الجمهور التونسي قد شاهد الكثير والعديد من المؤلفات الفرنسية عن طريق الفرق الفرنسية ومما تقدمه أيضاً فرق الهواة في تونس. ولا شك أنه إذا طال بي المقام، فسأقدم «البخيل» لموليير و«غادة الكاميليا» لألكسندر ديماس الابن. س: ما الذي دفعك للقيام بهذه الرحلة الشاقة؟ ج: شغفي أن أكون بما أملك من علم وتجارب نافعاً لا لمصر فحسب، وإنما للعالم العربي بأسره. فإن من شرف العلم أن يكون نافعاً لجميع الناس. ومما لا شك فيه أنه من حسن طالعي أنني سأحاول جهدي أن ابتدع جديداً في المسرح التونسي.
ومما يؤكد كلام طليمات وحماسته نحو جديده الذي يريده للمسرح التونسي، وجود صورة شخصية أخذها في تونس بتاريخ أبريل 1954، وأرسلها إلى حفيده «زكي» - ابن ابنته آمال – كتب خلفها الآتي: «إلى حفيدي زكي طليمات الصغير، أرجو أن يمد الله في عمره ويخصه بمواهب الفنان المجاهد ليحمل الراية من يدي يوم تعجز يدي عن حمل الراية، إلى زكي ... تحية من «تونس» التي ركزّت فيها راية لمصر وللفن المصري بإنشاء فرقة حكومية فيها مع أطيب تمنياتي له وكل قلبي وحناني [توقيع] «زكي طليمات (الكبير)» 12/4/1954».

تاجر البندقية
بدأ زكي طليمات تدريب أعضاء الفرقة الحكومية التونسية على أدوارهم في مسرحية الافتتاح «تاجر البندقية»، وذلك بإلقاء دروسه في تحليل الشخصيات، وشرح عصر المسرحية والتعريف بمؤلفها، وشرح إخراجها مما يثقف ويفتق الأذهان، ويجعل الممثلين يصدرون في أداء أدوارهم عن بصيرة ومعرفة. هكذا قالت جريدة «القاهرة»، التي حددت يوم العرض بالثالث من أبريل! وجاء الموعد وتم عرض المسرحية ونجحت نجاحاً كبيراً، لدرجة أن المسئولين طالبوا طليمات بإطالة مدة بقائه حتى يركز دعائم المسرح التونسي! وقد حضر العرض الجنرال الشاذلي رئيس بلدية تونس، وسكرتير عام البلدية، والسيد حسن بن منصور رئيس لجنة الفنون الجميلة.
وبعد نجاح طليمات في مهمة إنشاء فرقة مسرحية بلدية حكومية تونسية، طالبه المسئولون بإنشاء فرقة قومية تونسية!! وبذلك كانت تونس مكافأة طليمات الكبرى بعد نكران تلاميذه وجحودهم!! وهذه الأخبار كتبها طليمات في رسالة، نشرتها له جريدة «القاهرة» في مايو 1954، قال فيها: «نجحت الحفلات التي أقمتها بمسرح البلدية نجاحاً باهراً، دعا بلدية تونس إلى أن تكل إليَّ أمر تأليف فرقة قومية من التونسيين تحظى بإعانة ثابتة في كل عام. وقد ألفت لجنة فرعية من أعضاء المجلس البلدي ومن لجنة الفنون وأصبحت عضواً فيها. وقد رسمنا كل شيء لقيام هذه الفرقة، وقد قدمت اللائحة الداخلية ونظام العمل فيها. وجمعت البلدية رجال الصحافة العربية والفرنسية في حفل أنيق وأعلنت قيام هذه الفرقة، ونوهت بالجهد الذي بذلته في سبيل قيامها. وهكذا اتضح لي طرف من حكمة الله إذ قضى بأن أهجر المسرح المصري من غير مبرر لهجره. فلولا ما حدث لي في مصر لما سافرت إلى هنا. ولما استطعت أن أرفع راية للفن المصري في هذا البلد الكريم الخصيب برجاله. ولما قامت فرقة تحترف التمثيل يقوم على أثرها مسرح تونسي عربي بالمعنى الكامل. إن إنشاء الفرقة القومية التونسية يعتبر، كما كتب الصحفيون مفرق طريق للمسرح التونسي، الذي كان قائماً على جهود هواة التمثيل فحسب. وهي جهود مبعثرة لا قوام لها من الاستمرار. أما اليوم فقد أصبح في تونس ممثلون يعيشون بالتمثيل ولأجل التمثيل».


سيد علي إسماعيل