هكذا سقط شكسبير

هكذا سقط شكسبير

العدد 721 صدر بتاريخ 21يونيو2021

بعد كل هذه السنوات الطويلة من النجاح والشهرة التي ملأت الأفاق، ألا يجوز لنا أن نسأل لماذا في ألفيتنا الجديدة مازلنا نلتفتُ إلى شكسبير؟ وهو سؤال مطروح للمخرج أحمد الشريف، والشاعر محمد قبيصي، واللذيْن تعاونا معًا في ورشة صغيرة لإنتاج نص مسرحي، خاص لفرقة قصر ثقافة جمال عبد الناصر في أسيوط. وهذه التجربة مستحسنة بالطبع عن الاتكاء على النصوص الجاهزة والمستهلكة، وأتمنى تكرارها في كل المواقع الثقافية. وهي تجعل المتلقي في قرية بني مر يتساءل: هل كل هذا العمل والجهد وجلسات العمل والبحث عن شكسبير، تم من أجلي؟
يتناول الكاتب محمد قبيصي في نص «هكذا سقط شكسبير» خلفيات ووقائع دفعت وليم شكسبير إلى كتابة مسرحيته الشهيرة «ماكبث». منطلقًا من إشارات بتورط شكسبير في مؤامرة ضد الملك جيمس، ملك أسكتلندا، والذي خلف الملكة إليزابيث على بريطانيا أيضًا في تلك الفترة، ما جعل أمر أن يثبت شكسبير ولاءه لملك أسكوتلندا، مرتبطًا بأن ينجح في كتابة مسرحية جديدة، تنحاز إلى ثقافة الإسكوتلنديين، وتبرز جانبًا مضيئًا من تاريخهم. تمامًا كما فعل مع مسرحياته عن عائلتي ريتشارد وهنري.
يتوزع الديكور على ثلاث مناطق، منطقة قليلة الحركة، على يسار المسرح، وهي بيت شكسبير وزوجته، ومكتبه الذي يجلس إليه ليكتب. ومنطقة شديدة الحركة على يمين المسرح، وتمثل المساحة الخاصة بأهل اسكتلندا، سواء في الزمن الآني: الملك جيمس وأتباعه. أو في ما وراء هذا الزمن، الذي يكتب فيه شكسبير مأساة ماكبث.
أما المنطقة الثالثة؛ فهي في منتصف المسرح، وتشغل الحيز الأكبر منه، وهي مجموعة «بانوهات»، مثلت الجزء الوهمي في حياة شكسبير، وماكبث، فمنها تخرج الساحرات، ومنها يخرج مكدوبث الشخصية التاريخية الذي يقرع ضمير شكسبير بالذنب والشعور بالندم.
ومع ذلك ظلت مناطق الديكور الثلاثة مقيدة لحركة الممثلين، ولم ينجح الديكور كله في مجاراة الخطوط الدرامية المتوازية في الزمان والمكان، وهي: خط شكسبير والملك جيمس في الزمن الآني. وخط ماكبث الشخصية المتخيلة التي تخرج من رأس شكسبيسر لتجسد مأساتها. وخط الهواجس والساحرات اللائي يخرجن من رأس ماكبث ويغوينه بمصيره المنتظر. بل إن كل منطقة التمثيل تتم على مستوى «الزيرو» بمنطق التداخل، رغم أن ذلك لم ترمِ إليه الدراما نهائيًا.
يُمكن اعتبار الأداء التمثيلي هو الحصان الرابح في عرض «هكذا سقط شكسبير»، لأن تدريب ممثلين لاستيعاب ثقافة مختلفة، ومواكبة التفاصيل الصغيرة على خشبة المسرح، هو أمر شاق على المخرج والممثل، وهو ما نجح فيه أفراد الفرقة بشكل كبير. ويعتبر أفضل مثالان على الانضباط الأدائي، يمكن ملاحظته عند جوزيف رفعت في دور (شكسبير). أما وفاء كامل في دور (الليدي ماكبث)، فقد أضافت لنمط الأداء الكلاسيكي الغالب على العرض، سينمائية محببة، ما ساعد على بلورة الشخصية من الناحية التعبيرية، إضافة إلى الجسدية.
يضعنا عنوان العرض، في ترقب طوال الوقت، «هكذا سقط شكسبير»، الهاء للتنبيه، والكاف للتشبيه، وذا للإشارة. ولذلك يبحث المشاهد طوال الوقت عن «كيف سقط شكسبير؟». ولنجيب على ذلك، لابد أن نعرف من الأساس، ما هو السقوط المقصود؟
تصل إلى الملك جيمس، أنباء عن تورط شكسبير في مؤامرة لقتله، ولأنها أنباء غير مؤكدة، يفكر في أنه بإمكانه التأكد من نوايا شكسبير، إذا استطاع الأخير أن يكتب مسرحية عظيمة عن الإسكتلنديين، مثل مسرحية هاملت.
وتبدأ لحظة التوتر عندما يشك شكسبير في قدرته وهو يكتب، على إنتاج مسرحية مثل هاملت. وذلك لأن ظروفها مختلفة، ولم تكتب بتوجيه ملكي، أو رغبة في كسب رضاء سلطة ما. بل كتبت عندما شعر شكسبير في لحظة ما أنه هو هاملت، ولذلك خرجت أصدق ما يمكن أن تكون.
يبحث شكسبير في التاريخ، ويختار شخصية «مكدوبث»، ويبدأ في انتزاع هذه الشخصية من بطولاتها وأمجادها التاريخية، ويضعها في شرك مؤامرة للاستيلاء على السلطة. وفي لقاء شكسبير مع الملك، أثناء مشاهدة عرض مسرحية «ماكبث»، يستحسن الجميع هذه المسرحية المميزة، التي تعيد للإسكتلنديين اعتبارات حضارية وقومية، ولكن شكسبير يقول للجميع: لا توجد مسرحية أعظم من هاملت.
هنا ما يقصده المؤلف بـ سقوط شكسبير. إنه اللحظة التي تخلى فيها عن الصدق الفني، تخلى فيها عن شرارة الإبداع وتلقائية التجربة، وكتب من أجل ارتضاء ملك. ولذلك كان المشهد الأخير في المسرحية معبرًا ودالًا، عندما يتحول شكسبير إلى «ماريونيت» في يدي الملك جيمس. وهكذا تأخذنا هذه اللقطة إلى إشارة أكبر: أن الفن حينما يجاري السلطة ويتملقها؛ يصبح ساقطًا ووضيعًا.
تعتمد اللغة على مجاراة ألفاظ متحفية من ترجمات شكسبير القديمة، دون أن يتم خلق اعتبار لغوي للفاصل بين حدود لغة الشخصيات المتخيلة: ماكبث ورفاقه. والشخصيات الحقيقية: شكسبير والملك جيمس. ما جعل الأحداث كلها – على مستوى النص- أشبه بمسرحية واحدة متخيلة، بكامل شخوصها وأحداثها، بما فيها شخصية شكسبير نفسه. وهو ما لم يكن يقصده العرض، ولا أراده هذا البناء الدرامي، والسينوغرافي، الذي ينهض في الأساس على أسلوب «الميتا تياتر».
يتجاوز زمن العرض الساعة والنصف، وهو ما يجعل المشاهد في حاجة إلى إيقاع أسرع نسبيًا من أجل المحافظة على انتباهه. كما أن اعتبارات توظيف مكونات الصورة المسرحية من أجل بلورة وتحديد، وتأكيد مناطق «اللعب الميتاتياترية» هو أمرٌ ضروري وملح.
ويظل عرض «هكذا سقط شكسبير»، تجربة ذات قيمة، في ميدان السير الذاتية. وهو ميدان الإنتاج فيه نذير للغاية في السنوات الأخيرة، ولا يُلتفت إليه كثيرًا، سواء من جانب الكتاب أو المخرجين أو النقاد. ولذلك يمكن اعتبار تجربة محمد قبيصي في الكتابة المسرحية في هذا الميدان، صافرة لاستئناف مشاريع قديمة في المسرح المصري، لإعادة توظيف التاريخ، وتقديم الشخصيات المؤثرة والملهمة في ثياب درامية جديدة على خشبة المسرح.

 


محمد علام