إدراك الزمن في المسرح(2)

إدراك الزمن  في المسرح(2)

العدد 867 صدر بتاريخ 8أبريل2024

 لقد انهارت منذ فترة طويلة عقيدة الإدراك الطاهر (أي الجسم كموضوع، وليس الجسم المُستكشف والذي يتم استكشافه). وهذه العقيدة ليست نفسية أو إدراكية فحسب، بل إنها اجتماعية أيضا، وعلى هذا الأساس دنسه بالفعل نموذجين مهمين: المسرح الحي الذي يدرك جيدا نضالهم ضد المسرح المنهار، المحروم من العلاقة العاطفية بين الممثلين والمتفرجين، وجروتوفسكي الذي أكد على أن «هذا يجب أن يكون واضحا من البداية، فنحن لسنا معنيين بأي جمهور، إلا الجمهور الخاص». 
 ونحن اليوم مقتنعين أن الإدراك بنّاء، وليس مجرد إدراك تمثيلي: بدلا من أن يقتصر المتفرجون على الملاحظة، فإنهم ينتجون تصوراتهم الخاصة. فلا أحد مدعو إلى المسرح، بل يستضيف كل منا المسرح بداخله . ونعرف أن جسم المتفرج الحي المجرب الذي يضع نفسه حركيا في العالم المسرحي الذي يسكنه، أي أنه قادر على حمايتهم من الضرر، وبالتالي يولد الذكريات، القصدية باستمرار، والمتحركة دلاليا. في النهاية يمكننا أن نقول إن الإدراك ليس مسألة بصريات بل مسألة روابط، ووجود مع.
لقد سمح لنا تقديم الدعم العلمي للمعرفة الجوهرية المكتسبة في ممارسة المسرح، واكتشاف مرآة الأعصاب، أن نتقدم بضعة خطوات الى  الأمام. وكما يعرف الجميع، أن الآلية هي التي تنظم العلاقات بين الشخصية عن طريق عملية المحاكاة، التي لا تولد فقط في الشخص الذي يتصرف – المستوى قبل الانعكاسي، وقبل الإدراكي – بل أيضا في الشخص الذي يراقب، مساحة مشتركة من الفعل، نفس حالة التغير الحركي والبدني والعاطفي. 
 الآلية الوظيفية الموجودة في أساس نمط التفعيل المزدوج هذا في الخلايا العصبية المرآتية هي محاكاة مجسدة تنتج بدورها قصدا بين شخصي متناغم. إنه ليس سلوكا تلقائيا، ولا نسخة ولا محاكاة مكروهة جدا. إنها ليست أجساما مقروءة، بل أجسام متجسدة تجذب المتفرج، وتسمح لنا بالتغلغل لاشعوريا في عالم الآخرين وأن ينشئ صلة مباشرة مع الممثل، بسبب الحتمية البيولوجية وليس التلقائية. وبإنشاء صدى مع فعل المؤدي، لا يشارك المتفرج على الفور في عملية الفعل فقط، بل ينشط كفاءته الدراماتورجية في اتصال كامل من جسم إلى جسم مع الممثل. علاوة على ذلك، تكمن هذه الآلية في أساس فهم القصدية في أفعال الآخرين. ويتم تحفيز إسناد النية من خلال النشاط الإجباري لآلية المحاكاة هذه وهي ذات طبيعة استباقية وتنبؤية، لأن المراقب والوسيط يملكان نفس المرجع الحركي ويتشاركان فيه. فنحن قادرون على التنبؤ، أو ربما مبرمجون عليه. 
 وبالتالي يكمن فن الممثل في تحفيز النوايا وفي تعديل مسار البوصلة من خلال عملية الحسية الحركية. ومن خلال تثبيط هذه العملية – لأن النوايا أفعال محتملة – أو تحويلها، يثير الممثلون قلقا مضاعفا في المتفرجين، ويتركونهم في حالة من عدم الاستقرار والارتباك. إنها مقامرة بالمعنى، واستغلال للتنبؤ لإفساح المجال لغير المتنبأ به وبالتالي رؤية جديدة. 
 والآن – وهذا هو جوهر الأمر – وفقا لدراسات الأعصاب العلمية التي يعود تاريخها إلى عقود من الزمن في أعمال ليبيت Libet، فإن الفاصل بين تنشيط الخلايا العصبية للبرنامج الحركي وتنفيذ الفعل هو أجزاء من الثانية. 
 ودعونا نركز على الزمن المنقضي. تنفتح وقفة على المستوى قبل الإدراكي في العلاقة بين الممثل والمتلقي: فعل يتم ضبطه تلقائيا في اتجاه واحد، وما يظهر هو تعليق مرتبط بتكوين الوعي. توقع يتوافق مع الزمن المنقضي بين الفعل ووصوله إلى الوعي. فاصل فارغ يلقي بظلاله الزمن المستقبل. 
 ومن المفترض أن ما يحدث على المستوى قبل المعرفي هو أصل ما يُعرف، على المستوى المعرفي، بالخاصية الزمنية للمدة (والتي مع الأخذ في الاعتبار التغير في الدوام هو التصنيف الحقيقي الوحيد للزمن). وأن المدة أساسية للبعد الإدراكي الفعال في علاقة الممثل- المتفرج. وتأمل عمليات التعليق التي تملي الإيقاع. وهي سوف تولد كما سنرى جميعا، علاقة متميزة إلى حد ما مثل التشويق (أي نوع من الزمنية المجسدة حقا). وهذا يأسر المتفرج بشكل لا مثيل له، وهنا يتجلى الزمن كحالة وعي قوية وكأنها الوعي نفسه. 
 يبدو أن مثل هذا الزمن اللحظي الذي يوّلد أشكال الانقطاع، ينتج جدلية أساسية للظواهر الزمنية، أو الشكل الإيقاعي والموسيقى. جدلية الانقطاع التي تقوم على الوحدة الإيقاعية الأولية، أي الوحدة المكونة من نغمات مبهجة (arasis) ونغمات متشائمة (thesis)، ومن إيقاع ضعيف وقوي، ونغمة قصيرة ونغمة طويلة، ومن نطق ووقفة... أي وحدة مكونة من ايقاع يتميز بالوعي ونبض غير واع. ولنتأمل الظاهرة التي تحفز الإدراك، لمدة ثلاثة ثوان على الأقل، في دقات الساعة (أو الصنبور الذي يقطر) تك تك تك تاك تك. يبدو وكأن العقل في محاولة للتغلب على الرتابة المملة ولكنها حقيقية، كان بحاجة إلى التباين للإلهاء، أي إلى تنشيط الإيقاع. 
 كما رأينا، الفعل في حد ذاته إرشاردي، في أن أشكاله تحدد أنماطا معينة من الملاحظة والتفسير مقدما. إننا في الواقع، نكتشف قدرا كبيرا من العفوية والطبيعية في الحركات المفتوحة على التنبؤ بالمواقف أو الحركات المستقبلية (جماليات التناغم في البالية الكلاسيكي، أو مقاطع اللحن التي يمكن عزفها بسهولة أكبر من الأجزاء النشاز). على العكس، إن الحركة التي يمكن التنبؤ بها أكثر من اللازم لا فائدة منها ولا ترضي إلا نفسها، لأنها لا تبشر بتوقع  يمكن تحقيقه. وفي نفس الوقت، صحيح أن الوقع يُثار عندما لا يطيع السلوك التلقائية والعادات (التي لا تحتاج أن تصبح واعية بذاتها على هذا النحو)، عندما ينحرف المسار، ولا يتشبع الإحساس، ولا ينغلق على نفسه. وليس من قبيل المصادفة أن الأداء عرف، منذ قرون، تقنية غير كفء تتكون من تكرار السطر أو الإيماءة مرتين، متبوعا بانحراف معهود في التكرار الثالث. 
 العقل هو العضو الذي يسعى إلى المخططات المتكررة والمتوقعة، ولكن مع متعة التغير غير المتوقع، وبذلك فهي تميز الفن عن مجرد الآلية. 
 ويمكن أيضا تتبع جدلية الانقطاع في أنماط أخرى من الإيقاع، كما هو الحال في أي إيماءة تشتمل على الانكماش والانطلاق، في أي فعل يتكون من التوتر والاسترخاء، أو في حركة تشمل اندفاع وراحة. وبالمثل، فان الفرق بين مجرد النبض وأشكال التنظيمات العقلية المترية والإيقاعية يكمن في أن الأخيرة تحتوى على تمييز بين النبضات القوية والضعيفة. وحتى لو لم نأخذ في اعتبارنا المحفزات الفكرية المستمدة من الدراسات الإدراكية والعصبية العلمية، فإننا ندرك جميعا أنه في مرة يتضمن الفعل أو المشهد تعليقا زمنيا، تنشأ حاجة في وعي المتفرج لتوليد عملية من شأنها أن تملأ الفجوة. وبالتالي، فان الانقطاع المبني على التأجيل هو الإستراتيجية الوحيدة نحو ضبط التوقع، أو الوعد بالتجديد، أو إشباع الرغبة، أو كما نقول اجتماعيا، إشباع الحاجة . إنها الطريقة الوحيدة التي تسمح لنا أن نفهم الزمن باعتباره عملية، وأن نحول المتفرج إلى ذات راغبة مستعدة للتوقع، وتكتشف الرغبة للرغبة، وتحول أسهم الزمن إلى أسهم الفعل. وعلى العكس من ذلك، أي مسار موحد يجعل الزمن الخيالي متجانس مع زمن المتفرج يضعف الوعي بهذه العملية ويقضي عليه – درجة الصفر في الزمن. ففي التعليق، يبقى الزمن الذي لا يرجع مفتوحا، لأن التعليق يهيئ توقعا جديدا، سواء في جزء التمثيل أو في زمن الأداء الكلي الذي يبدأ على وجه التحديد مع تعطيل الحياة اليومية مما يؤسس للتوقع. ونفس السمة الزمنية التي عرفها بيتر سوندي بأنها «الآن الدائم everlasting now”، أي التتابع المطلق للحظات الحاضر، هي أيضا توقع، لأن الأداء يتقدم بالفرضيات وبالتالي فهو مفتوح على المستقبل في كل لحظة في اندماج مع الحاضر الذي يتعايش مع الماضي. وطبقا لستانسلافسكي، نفس تلك الوقفات، لحظات التوقف هي اللحظات التي ينتظرها انتباهنا، والسبب في أنها تراقب مسار الطاقة بالكامل، والتي تسمح لنا نفهم الدينامية حتى في السكون. 
 والمخرج الذي يريد أن تكون المدة والدينامية محسوستين يعمل بشكل متقطع: تقطيع مرئي، وتوقفات، وإظلام. إن الإستراتيجية التي يقوم عليها تماسك القصة (الحبكة) تكسر بالفعل التجانس الذي يشكله المنطق والتسلسل الزمني للحكاية. على أي حال، التأجيل هو الوسيلة الأكثر فاعلية لأنه يمّكن النفي المحتمل للفعل وبالتالي يجعله غير متوقع. وفي مقولة لا لبس فيها يؤكد يوجينو باربا أن: «كل فعل يصبح قصة عندما يمنعه شيء ما من الاندفاع إلى نهايته». 
 اسمحوا لي الآن أن أطرح بعض الأفكار حول الموسيقى. 
 من الواضح أن الزمن في الموسيقى له أهمية أساسية. ومع ذلك، فإن المادية الأساسية في الموسيقي توجد على حدود ذوبانها الكامل؛ في حين أن قوة المسرح تكمن بالتحديد في حقيقة أنه يتم الإمساك بالوقت في علاقته المادية غير القابلة للذوبان مع الحقيقة الذاتية والموضوعية. ورغم ذلك، فإن الأمر المثير، هو أن أساتذة المسرح يميلون باستمرار لتأمل الأداء أو التمثيل في أميز أمثلتهما على غرار الموسيقى: بداية من ج.ج. انجل وستانسلافسكي ومييرهولد وبيتيوف، ودانانسيو وباربا (الذي قارنهما بالرقص)، وصولا إلى أوسون ويلز الذي رأى الموسيقى في سينما فيدريكو فيلليني. من الواضح أنهم يشيرون إلى عملية الأداء الزمني. أو يشيرون بالأحرى إلى الأداء الذي يشعرون أنه لا يكمن في الشكل بل في قوة الحدث، الذي يجبر على التغيير عند حدوثه – إلى جانب أنه أيضا وسيلة لتعريف نوع الأداء الذي يميز نفسه باعتباره الأحياء، حيث تهيمن المحاكاة على التمثيل. 
 الموسيقى، تحديدا، لها معنى شامل. ولا يشير المؤثر الموسيقى أو مجموعة المؤثرات الموسيقية إلى مفاهيم أو موضوعات خارج الموسيقى، ولكن تشير أحداث موسيقية أخرى على وشك الحدوث. والحدث الموسيقي (سواء كان نغمة أو فكرة موسيقية أو مقطع موسيقي كامل) له معنى بقدر ما يعلن عن حدث موسيقي آخر، وبالتالي يثير انتباهنا. باختصار، المعنى الموسيقي الشامل هو نتاج توقعات كما هو الحال في المسرح، ولاسيما عندما يتقارب المسرح من الرقص. بالطبع تتغذى التوقعات على التجربة السابقة أو على النماذج التي تنظم محفزنا. ولكن بدون التعليق الذي يولد التوقع، أي، بدون البواعث المؤجلة، فإن فن أدائي مثل الموسيقي يموت، بدون الدينامية. وذلك ما يحفزني للتركيز على التعليق.  
     لذلك دعونا نرجع إلى الأداء لكي نحلل التعليق وذلك الشكل المتطرف من الفعل المعلق والتشويق. وهذا شكل مثير للاهتمام ولاسيما فيما يتعلق بإدراك الزمن، لأنه يسمح لنا برؤية الزمن والشعور به بكل قوته. وهذا هو الجانب الكيفي وليس الجانب الكمي لزمن الأداء الذي ربما يمثل أعلى درجات الشعور في الأداء؛ إنه بالتأكيد مغناطيس قوي يربطنا، ويربط كل عقل الجسم بالأداء. وفي مثل هذه اللحظة، يكافح المتفرج، عن طريق المحاكاة المتجسدة، في محاولة لوقف أو تسريع مسار الزمن. 
 في الأداء، عمليات التعليق عموما سببها التأجيل في إشباع شيء ما مرغوب أو يجب أن يحدث. ورغم ذلك، لكي يتأجل شيء مرغوب، فلابد أن يكون معلن عنه مسبقا. وهيتشكوك، وهو الشخص الذي لا يسعنا إلا أن نستشهد به في هذا السياق، «تأثير التشويق من خلال تمييزه عن المفاجأة أو الغموض، ولا يستند هذا التمييز إلى الإعلانات والمعاينات التي تنتقل إلى الجمهور: “يجب علينا أن نبلغ الجمهور في كل مرة». بمعنى آخر، لن يكون هناك أي تشويق في حكاية سندريلا إن لم يتم تحذيرها بأن تترك الحفل عند منتصف الليل. إن تطور الأداء بمعناه العضوي، هي سلسلة متتالية من الزرع والحصاد والإعلان عن البذر والأفعال المرتقبة التي ربما تحقق أو لا تحقق. ويعلم كتاب المسرح وكتاب السيناريو أنه من أجل استعادة مشهد ضعيف كل المطلوب هو بدء دقات الساعة وتحديد حد زمني على خشبة المسرح: وهي صيغة يعالجها يونسكو بسخرية غن طريق تغيير وظيفة البندول في مسرحية “المغنية الصلعاء». 
 ينتج هذا الحد الزمني توقعا يتضمن تطور التوتر الزمني الذي ينشأ غالبا من شعور قوي (بالقلق أو الخوف أو الجاذبية أو السرور الذي ينشأ من توقع السرور)، لأن الحد  يشبه نهاية شيء. وفي تتابع التطور الدرامي، فإن التعبير عن حدود هذا الزمن هو أمر أساسي بوضوح، لأنه فضلا عن إغلاق الفعل يعاد إطلاقه وفتحه من جديد في اتجاه المستقبل. 
 وتتجلى هذه الآلية بوضوح أكثر في أحد أكثر النماذج الدرامية (والأدبية) المتكررة. ودعونا نستدعيها للاستشهاد بمثال واحد من بين عدة أمثلة، قصة دون جيوفاني المجدف والتي تم التقاطها بالكامل في السؤال اللاهوتي «متى يجب أن يتوب الإنسان؟”. ولكن دعونا نفكر أيضا في الاستعجال المؤجل المطلوب من هاملت في إتمام مهمته، والمهلة الزمنية التي حددها شايلوك لذلك القرض الشهير، أو التقلبات النموذجية في مسرحية “ كل إنسان «Everyman، وفكر في هوفمانستال في مسرحية «لعبة موت الرجل الغني The Play of The Rich Man’s Death”، أو الموعد النهائي المفروض على فاوست، أو على ناثان، الذي يؤجل الوقت لبناء فخ لصلاح الدين،  في مسرحية ليسينج المتجانسة. 
 تستند عمليات التعليق، في الجزء الأكبر منها، على الإجراء الذي ينشأ من توليد باعث أو رغبة في المتفرج لإبعاده فقط عن إشباعها. وبالطبع، هناك طرق مختلفة لإثارة شوق المتفرج: مثل معاملة الأداء وكأنه موع من التعري (وهي مقارنة مثيرة للذكريات استخدمها رولان بارث). توجد الإثارة هنا في الأمل في مشاهدة الجنس (في حلم طالب جامعي مثلا) أو أن نعرف كيف سوف تنتهي القصة. ويكمن الشكل الآخر من التعليق في رغبة المتفرج لمشاهدة أحداث معينة، أو عرض أجزاء من الرؤية أو المعرفة التي يتم تأجيلها. إنه التعليق الذي يولد الشك وهذا ما اختمر في عقل عطيل. 
 باختصار، تحدث ظواهر التعليق التي نشير إليها هنا عندما يتم تأجيل إشباع الرغبة، أو إعاقتها. ويحدث التعليق الزمني عموما من خلال زرع أشياء مجهولة في الأحداث الماضية، كما هو موضح في دراماتورجيا تشيكوف وابسن وآخرين – وهب صياغة يتم توسيطها من خلال ذكريات الماضي (الفلاش باك). ولكن أيضا من خلال توزيع المجهول في الحاضر، عن طريق قطع الربط في سلسلة الزمن. بينما فيما يتعلق بالمستقبل، فإن صعوبة التنبؤ تجعل علامات التعليق أكثر وضوحا. ومن الجدير بالذكر، أن تطبيق تزامن الفعل ينتج حتما أشياء مجهولة مما يؤدي بالضرورة إلى تعليق الجزء الأساسي من الفعل الدرامي إلى درجة تقسيم الأداء الى أجزاء؛ وهذا غالبا ما يكون هو الحال في الطليعة أو في بحوث المسرح. 
 بمعنى آخر، يقدم لنا التعليق المفارقة: يجب أن يتطور الأداء، ولكنه في الواقع يفعل كل ما بوسعه حتى لا يتقدم، ويعلق هذا الالتزام. أو لكي يصبح مثيرا، فانه يتحرك عبر مسارات زائفة. وبدلا من ذلك، يعلق الأداء التسلسل ومعانيه بمجرد أن تظهر إشارات الفعل. وهذا ما يحدث مثلا في التتابع غير المتوقع في عروض مسرح أودين (حتى عندما تسمى هذه العرض «هاملت» أو “دون جيوفاني”)، بالتالي تثير الصدمات الإدراكية والعاطفية. في النهاية، إنه يحدث تحديدا عندما يتم تعليق ميل أو عادة أو تثبيطهما، إذ يتم تجسيد المعنى ويصبح مركز الاهتمام. إنه المعنى الذي يضخم أبسط الأفعال ويحولها إلى قصة. 
 والمرور من التعليق الى التشويق هو مرور إلى أقصى الحدود الزمنية للدراما. ففي التعليق يقدم الزمن نفسه بما هو كذلك، ويجعل نفسه مرئيا ومحسوسا. وليس من قبيل المصادفة أن أول سمات التشويق، بسبب ذلك الاستهلاك المحسوس للزمن، هو أنه يظهر أنه مفروض على المتفرج. فالمتفرج يشعر أنه حبيس، مثل جيفريس بطل فيلم هيتشكوك “النافذة الخلفية” الذي يشاهد الخطر القادم من نافذته، ولكنه – في موقف مقارن مع موقف المتفرج – لا يستطيع أن يتحرك لأن ساقيه في الجبس. وبالمثل، يجرب المتفرج في التشويق زمانيته الخاصة، غير الملحوظة، وغير المرنة ماديا، والدمج الذي لا يمكن تجزئته، إذ أنه لا يمكنه الخروج من التدفق الزمني الذي يجد نفسه منغمسا فيه. 
 ويمكن أن تكون مدة التعليق الزمني قصيرة (مثل الباعث المعلق) بينما لا يزال يتضمن كثافة شديدة، كما يحدث في الثواني القليلة التي تفصل شوق عاشقين للعناق عن تنفيذ العناق. 
............................................................................. 
 • لوشيانو ماريتي يعمل أستاذا للمسرح في جامعة سبانزا – روما – ايطاليا 
 • هذه المقالة هي الفصل التاسع من كتاب «المسرح وعلم الأعصاب الإدراكي» الصفحات 139-153 – الصادر عن دار نشر بلومسبري 2016.


ترجمة أحمد عبد الفتاح