الحبكة.. في مسرح ما بعد الحداثة (2-2)

الحبكة.. في مسرح ما بعد الحداثة (2-2)

العدد 722 صدر بتاريخ 28يونيو2021

أحد الأشياء التي فعلتها (تشرشل) هو أنها تتناول سلسلة من الأحداث العادية، ثم قلبت تتابع بعضها المتطورة بينما احتفظت علي خطية الأحداث الأخرى . وينشأ هذا من نوع أشبه بشريط موبس السردي، لتوظيفه أحد الصور الرئيسية للدراما . كما تقرر (تشرشل) في مقدمة المسرحية :
“انها مثل شيء مستحيل، أو لوحوا موريس ايشر، حيث توجـد الأشيـاء علي الورق، ولكـن ربما كانت مستحيلة في الحياة . وفي اللعـب، لا يمكـن التوفيـق بين المكـان والزمـان وواقـع الشخصــيات وعلاقاتهـم – ويمكن أن أن يحدث ذلك علي خشبة المسرح – لأنه لا يوجد واقـع آخر بالنسبة لهم ولا توجد ذكريات ماضية ولا فنتازيا، فكل شيء يحدث هو شيء حقيقي ومادي مثل أي شيء آخر في المسرحية .«
 والتوازي المحتمل الآخر الذي يجول بخاطرنا هو الكتاب الخيالي في قصة (بورخيس) “الحديقة ذات الممرات المتفرعة “ الذي هو كتاب ومتاهة، لأنه يسمح بظهور العديد من احتمالات السرد بشكل تبادلي . ولكن بخلاف عمل (بورخيس) الذي يصف فقط مثل هذا النص، وقد جعلته (تشرشل) يحدث علي خشبة المسرح . وقد أثارني عملها باعتباره احد أكثر الأعمال الدرامية الطليعية سحرا وطموحا، والذي يختبر حدود المسرح التمثيلي المضاد .
 لا يبدو واضحا لي أنني استطيع أن أمضي الي أبعد في هذا الاتجاه مما ذهبت (تشرشل)، رغم أن أنه يمكن تقريب الحدود المقارنة بطريقة أخرى . وتقدم مسرحية ( مارتن كريميه) “محاولات في حياتها “ (1997) سلسلة من أنواع الخطاب عن امرأة ( أو عن عدة نساء ) اسمها ( آن Anne )، أو ( آنيا Anya)، أو ( آني ) أو تنويعة أخرى علي الاسم . ويتم تقديمهم كأناس مختلفين لهم قصص حياة مختلفة في مواقف مختلفة : الفتاة بالجوار، وفنانة الأداء، والمرأة الثرية، والإرهابية، والعالمة، وممثلة العري، وشخصية في نص، وحتى النوع الجديد من السيارات ( آني بشكل طبيعي) . وإذا كان هذا كل شيء فيمكن أن نسمي المسرحية (نماذج «آن» المتعددة في العالم ) ولن تكون أكثر من مجرد سلسلة من اللوحات غير المترابطة. ولكن هناك عدة استراتيجيات، تبدأ بالعنوان الفعلي، الذي يدعو المشاهدين لاستحضار العديد من هذه القصص المتفاوتة في الحبكة . وتتضمن العديد من الرسائل التي تبدو متناقضة والتي يتلقاها تليفون ( آن ) في مشهد المسرحية الأول، الذي يستبق عناصر القصة المقدمة في كثير من المشاهد التالية . فالمشهد الرابع عشر، وهو أداء موسيقي، يؤكد بالمثل وحدة الشخصية ( « هي « ) حتى عندما يهدم أي جوهر أو أرضية هذه الوحدة :
 إنها ملكية خاصة
 تمارس الفن
 وهي لاجئة
 في عربة وحصان
 ونجمة لأفلام العري
 قاتلة ونوع لسيارة !
 وتهديد إرهابي
 وأم لثلاثة .
بالمثل، تتكرر العديد من التفاصيل من مشهد لآخر والتي توحي بعلاقة أقرب من مجرد الارتباط العشوائي . ويبدو أن الحرب، والسفر الدولي، ومنافض السجائر، والعلاقات الغرامية مع الرجال المتزوجين، والإرهاب، واللعنات المتكررة، تربط بعض المشاهد . وعندما يقال لنا أن ( آن ) فنانة الأداء المنتحرة، تقدم حوارا عن « الدم واللعاب والشوكولاتة»، يتم تذكيرنا بالسيارة ( آني ) التي لن تكون زلقة بسبب اللعاب، أو لزجة بواسطة الشوكولاتة الذائبة . بالطبع، يجب الاعتراف بأن لاشيء من هذه التكرارات مميز بوجه خاص . وفي نهاية المسرحية، لا نجد حلا والسؤال الأساس بالنسبة للمنظرين ( والمشاهدين أيضا ) يظل : هب هناك قصة واحدة ( أم بضعة قصص) تستطيع أن تضم العمل ككل، أم هل هناك ببساطة ستة عشرة قصة تتابع بعد المشهد الأول ؟ . فالعمل نفسه يتقدم آنيا ويمنع كلا الإجابتين . وربما نقرأ العمل مجازيا أو بشكل بعد درامي، باعتباره نقد لمفاهيم الشخصية الثابتة والراسخة، أو باعتباره قصة حولها . والعمل نفسه يوحي رغم ذلك ببديل تفسيري آخر . فالمشهد قبل الأخير، الذي كان يعد فيه فيلم العري، يوحي بعدد من التطابقات بين الفيلم والمسرحية نفسها : « بالطبع لا توجد قصة أو شخصيات نتحدث عنهما .. بالتأكيد ليس بالمعنى التقليدي « . وبعد فترة عملها، توحي الأصوات بأن ممثلة العري يمكن أن تستمر لتكون عددا من الأشياء، من بينها عارضة أزياء، ورسامة، وسباحة، ومهندسة كيمائية، وخبيرة في شئون الإنسان، وكاتبة ... الخ . وبناء علي هذا الاقتراح، ربما نختار أن نفسر التنويعات علي شخصية ( آن ) في المسرحية باعتبارها شخصيات مختلفة تفترضها امرأة واحدة خلال حياتها، هي كلها صور لحبكة محتملة.
 ونستطيع أن نفكر في انجازات مثيرة متوازية في الفنون التشكيلية، وبضعة انجازات في فن القص التجريبي، مثل قصة ( الآن روب جرييه ) « الغيرة « . وأعمال ( بنتر) و (تشرشل) و(كريمب) يمكنها بشكل مريح بالتأكيد أن توضع الهدف الجمالي المحدد لعدة أشكال فنية في القرن العشرين لكي انتقل إلى ما وراء التمثيل باتجاه التجريد الخالص . فبخلاف المحاولات المقارنة في فن التصوير الزيتي والنحت وحتى فن القص، فان مثل هذا التجريد سوف يكون أصعب في التحقيق في وسيط الدراما، وبالتالي، فان أكل هذه المحاولات هي الأكثر إثارة للإعجاب بمجرد تحقيقها . ومن المدهش أن هذه الأعمال الحدية التي تقع علي حدود التمثيل الدرامي لم تلق الاهتمام النظري الذي تستحقه، وربما مقدر لها أن تكون مهملة حتى يمكن أن تصاغ اللغة النقدية التي يمكن أن تسمو علي المحاكاة التمثيلية . والتحليل النقدي لهذه المسرحيات يمكنه بالتأكيد أن يثري اعتبارات الزمن والشخصية والحبكة بوجه خاص، وهو يسفر عن الإمكانيات غير التمثيلية والتناقصية التي نادرا ما تُفهم بواسطة منظري الدراما والمسرح التقليديين . فهذه في النهاية كل المسرحيات التي، كما تلاحظ ( تشرشل) في مقدمة مسرحية “ الفخاخ”، يمكن تأمل شخصياتها باعتبار أنهم يعيشون احتمالاتهم فورا “، وهو الموقف الذي لا تعترف به البلاغة الحالية ك احتمال نظري .
 واستكمالا لهذا التحليل للحبكة بعد الحداثية، يجب أن نعبر باختصار حدود الدراما، اذ تأخذنا مسرحية ( بيتر هاندكه) “ اهانة المشاهدين « إلى أبعد من التقاليد والأعراف . . فهنا لا مكان للقصة مطلقا : الممثلين لا يجسدون الشخصيات وأفعالهم لا توضح القصة أو الأحداث، فهذه مسرحية غير تمثيلية يقول فيها المؤدون سطور النص . بينما يؤكد الممثلون للمشاهدين : «هذه ليست مسرحية . وليست حدثا يقع في أي مكان ويتم تجسيده هنا .... وليست تظاهرا يجسد فعلا حدث ذات يوم . فالزمن لا يلعب دورا هنا . ونحن لا نقدم حبكة « . يعري هذا العمل كل تقاليد الدراما، ومن ضمنها العناصر الأساسية التي تنشئ أي مسرحية . من الجيد ألا تكون المفاهيم الأساسية للقصة والحبكة غير موجودة هنا مطلقا . فالممثلون يستمرون في الإشارة بشكل هزلي إلى مفهوم الوحدات الكلاسيكية الجديدة، مع ملاحظة أنه بسبب عدم وجود زمان يتم تميله ولا مكان، بل فقط زمن التجسيد ومكان المسرح، فهناك وحدة كاملة للزمن والمكان – وهما صحيحان في هذا . ويقررون أيضا أنه « بالتحدث دائما إليك بشكل مباشر وبالحديث إليك عن الزمن، وعن الآن ، الآن، نلاحظ وحدة الزمن والمكان والحدث، وبالتالي فهذه المسرحية كلاسيكية «
 وربما نسأل عما إذا كانت هناك حبكة فعلا أم لا، فإذا كانت الإجابة بالنفي، فما الذي يدفع الخطاب إلى الأمام ؟ . بمعنى آخر، هل هناك مبدأ منظم بديل يمكن أن يقترح لماذا توضع بعض هذه المادة أولا والبعض الآخر لاحقا في العمل ؟ في الواقع، نستطيع أن نجد علي الأقل نوعين من التطور هنا . الأول هو مستوي الكثافة، الذي مثل كل المسرحيات الجيدة، يصل إلى ذروة عند النهاية لأنه يتم اهانة المشاهدين فعليا، كما يقول العنوان . والثاني هي الطريقة التي يتم بها استخدام الأزمنة النحوية لوصف تجربة المشاهدين . « فضولك لن يكون مرضيا» . وبعد استخدام زمن المضارع لوصف الاستجابات الأولي للمتلقين : “ انك تبدأ تتنفس بإيقاع واحد « . وبينما يستمر العمل، يحدث تغير في مادة الموضوع، لأن كثيرا من المقولات عن الأداء تفسح الطريق لمقدار أكبر من المقولات عن المشاهدين : « إنكم تقدمون لنا الكلمات هنا . فأنتم صناع المسرحية والحبكة المضادة « . وعند النهاية يتم استخدام زمن الماضي : « كنتم صادقين مع الحياة . كنتم واقعيين « وفي النهاية نصل علي خطاب يتحرك من البداية إلى الوسط والنهاية – بهذا الترتيب – ويقدم إحساسا بالانغلاق، وتشير الكلمات الأخيرة إلى : « كنتم محل ترحاب هنا . نشكركم . طاب مساءكم « .
 علي الرغم من أن الممثلين أكدوا أن « الحبكة ليست مبتكرة بحرية، لأنه لا توجد حبكة، وربما مع ذلك نوضح أن الترتيب البديل للخطاب قد تم تقديمه، وهو الخطاب الذي يوظف بلاغة التطور ويميز نوعا من نموذج الظل الذي يتحدث عموما ويقلد حركة أكثر الحبكات تقليدية . وربما نسميه « شبه حبكة، أو ربما حبكة غير سردية، أن لم يكن ذلك تناقضا في المصطلحات، انه يوضح لنا في كل حدث كيف أن الرفض بعد الحداثي للحدود والتسلسلات يمكن أن يقدم عملا أصيلا تماما يدفعنا إلى تأمل أو إعادة بناء مفهوم الحبكة نفسه . وليس فقط الحبكة، بل أيضا فكرة التمثيل . ولكي نصف نوع الحساسية فيما وراء أكثر الأعمال انتهاكا، فربما ننظر إلى أفكار الطليين الأوائل، مثل ( جرترود شتاين ) . وكما يوضح ( مارك روبنسون) في اللغة التي تردد أصداء تأكيدات ( هاندكه)، فكرت أن المسرحية يجب أن تكون لعبة، وليست بعثا لشيء آخر مدروس لكي يتحرى دقة التمثيل . وبدلا من ذلك ينبغي أن تكون موجودة وفقا لكلام ( شتاين ) .
 باختصار، لقد رأينا امتداد بنيات الحبكة التقليدية وضغطها وبناءها من جديد في مسرحية (بركة ) « سفينة العبيد « التي تقدم بعد تمثيل أحداث القرون، نموذج حبكة تقليدية في النهاية . ونرى ( بيكيت) يثير بشكل متكرر ( وأحيانا بوضوح ) العناصر الأساسية للحبكة، والإثارة، والتطور والانغلاق، ومن الأفضل أن نميز رفضه لكل من هذه العناصر . وإذا كان بيكيت، من منظور تقليدي، يبدو أن لديه القليل من الحبكة، فان ( كاريل تشرشل) و (مارتن كريمب) بالمقارنة، لديهما الكثير منها . فهناك عدة قصص مختلفة غير متوافقة مع بعضها البعض، وترفض كلأ منها أن ترتب أي منها علي نحو أنطولوجي بتسمية بعضها بأنها متخيلة أو حتى يتم محوها، وكلها حقيقية . ولم يستطيع ( هاندكه) أن يقاوم توظيف لغة البلاغة التقليدية حتى وهو يبتعد بشكل متطرف عن الانتشار التقليدي للحبكة والقصة والتمثيل نفسه .
 ولكن ما هي الخلاصة النظرية التي يمكن أن نستمدها من المسرحيات التي ناقشناها آنفا ؟ . أولا، ربما نلاحظ الفائدة العامة لمفاهيم الحبكة والقصة في تحديد في تحديد طبيعة هذا الترتيب المبتكر للحبكة بدقة . بمعنى، في كثير من الحالات حيث يتم انتهاك المفاهيم الأساسية في تحليل المسرح، وأفضل وصف لهذا الانتهاك هو باستخدام المفاهيم نفسها . وبذكر ذلك، لا أعني تضمين أن هذه الأعمال هي هامشية أو طفيلية علي الممارسة الدرامية الواقعية علي سبيل المثال . فكل من هذه الأعمال بذاتها إبداع متكامل وتتبع مسارا منفصلا . إذ أنها تتناول عناصر الدراما الأساسية وتعيد بناءها بأسلوب مختلف عن ما يقوم به كتاب الواقعية . ومهمة دراسة الدراما الآن هي صياغة مفاهيم ممتدة للقصة وتطورهما والنزعة الزمنية التي يمكن أن تحدد ممارسات كتاب الدراما بعد الحداثيين . وأتمنى بوجه خاص أن تساعدنا اقتباس مفاهيم القصة والحبكة اللذان استخدمتها آنفا أن نصف ونحلل الأعمال بعد الحداثية البارزة . وفي النهاية، نحتاج إلى أن نحرر أنفسنا من التحيزات تجاه التمثيل والمحاكاة الموجودة في النظرية الدرامية منذ أرسطو . وبمفاهيم أكثر اتساعا نستطيع أن نفهم بشكل أفضل ونتذوق بشكل مؤثر الأعمال الجديدة في عصرنا .
 ..............................................................................
براين ريتشاردسون يعمل أستاذا بقسم اللغة الأنجليزية بجامعة ميريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية .
نشرت هذه المقالة في كتاب “ Contemporary English Drama “، vol.14، ed.  By Martin Middeke


ترجمة أحمد عبد الفتاح