من دفتر أحوال المسرح المصري «عفوا أيها الأجداد.. وعلينا السلام»

من دفتر أحوال المسرح المصري «عفوا أيها الأجداد.. وعلينا السلام»

العدد 816 صدر بتاريخ 17أبريل2023

 قدم الكاتب المسرحي الراحل (نبيل بدران) {1941 – 2008} نصه المسرحي “عفوا أيها الأجداد.. وعلينا السلام” عام 1988 إلى المسرح الحديث، ويبدأ مخرجها الراحل (فهمي الخولي) [يوليو 1941 – 29 يناير 2021]، في التدريبات لتجهيز العرض.. وفجأة تم الحكم على النص بالإعدام. وقبل أن نعود إلى هذا النص نعود إلى أعمال نبيل بدران السابقة. ونبيل بدران منذ تخرجه في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1965، كان قد قدم من قبل عددا من النصوص بدأها بمسرحية “السود” 1966 التي تتناول قضية التفرقة العنصرية في العالم، وأثارت مسرحيته التالية ضجة كبيرة في الحركة المسرحية الطلابية وهي “البعض يأكلونها والعة” 1968، ويتناول فيها بأسلوب الكاباريه السياسي وبأسلوب هجائي ساخر الانحرافات ومظاهر الفساد في المجتمع التي أدت إلى هزيمة يونيو 1967 من إخراج هاني مطاوع، وظل سيف الرقابة مصلتا عليها –فصمت قليلا– لكن ذلك لم يُثنِه عن عزمه لمواصلة الكتابة للمسرح، فقدم لمسرح القطاع الخاص مسرحيته “نحن لا نحب الكوسة” 1975 ومثلتها فرقة المسرح الجديد من إخراج هاني مطاوع أيضا، وتتناول قضايا الفساد المنتشرة في عصر الانفتاح الاقتصادي.  
 ويرحل نبيل بدران عن مصر لفترة قصيرة إلى بعض البلدان العربية. وفي بغداد ينشر مسرحيته “انتبهوا أيها السادة” 1975 ويتناول فيها قضايا التحرر بدول العالم الثالث في إطار الدراما التسجيلية، وهي القضية التي لا يزال العالم الثالث يقاتل من أجلها في مواجهة أشكال الهيمنة والاستعمار الجديد، وتحت شعارات العولمة وغيرها من الشعارات، ويعود الكاتب بذكاء لقضايا نصه الممنوع “البعض يأكلونها والعة” الذي يتناول فيه كل الانحرافات ومظاهر الفساد في الدولة وفي المجتمع التي تؤدي حتما إلى الهزيمة والانهيار، وذلك في مسرحية “عالم علي بابا” وقدمها المسرح الحديث عام 1976 من إخراج سعد أردش، وبعد أربع سنوات من تقديم “الكوسة” وفي قمة عصر الانفتاح الذي أفسد وهدم الكثير من أركان المجتمع المصري، وبعد خمس سنوات في التجوال يقدم له مسرح الفنون بالكويت مسرحيته الساخرة “باي.. باي لندن” عام 1981 متبنيا قضايا شباب الوطن العربي للبحث عن مستقبل أفضل، وقبلها كان مسرح الكويت قد قدم له أيضا مسرحية “حجا باع حماره” 1980، وهي المسرحية التي أثارت الكثير من الجدل –فقد تم السطو عليها، وقدمت في القاهرة بعنوان آخر في مسرح القطاع الخاص– إلى أن تم تقديمها بعد ذلك بأربع سنوات في مسرح السامر، من إخراج رؤوف الأسيوطي عام 1984، وفي العام نفسه يقدمها في الجزائر الكاتب والمخرج الجزائري الكبير (مصطفى كاتب)، وقد فاز هذا النص (مناصفة) بجائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم للتأليف المسرحي، ورغم ذلك لم يتم إثبات السطو على هذا النص في مصر! وكان –من خلال تجربته القاسية بالبلدان العربية قد قدم في الكويت على منوال مسرحيته “باي.. باي عرب” 1981 التي تكشف عن طبيعة العلاقات السيئة بين الأنظمة العربية الحاكمة، وما بينها من صراعات أيديولوجية وتناقضات تحكم هذه العلاقات، وذلك من خلال سبع لوحات يربط بينها الراوي، وبأسلوب تهكمي لاذع وساخر يثير الضحكات المريرة على واقعنا العربي المؤسف.
 ومن دفتر أحوال المسرح المصري نتوقف طويلا عند مسرحية “عفوا أيها الأجداد.. وعلينا السلام” 1988، التي قدمت للمسرح الحديث من إخراج فهمي الخولي، والتي تدور أحداثها في بلد خيالي هو (سلامستان) إحدى دول العالم الثالث التي حققت السلام نهائيا. ويتساءل النص: هل تحقق السلام بالفعل؟ بالطبع، لم يتحقق هذا السلام الوهمي أمام عدو يعيش على العدوان والاستيطان والبطش والمجازر، وفي الواقع كان قد تم توقيع إتفاقية سلام مع العدو الصهيوني، وقرر أن يفرض هذا السلام من ناحيته –بغض النظر عن رأي الناس في هذا الاتفاق، وعلى خشبة المسرح الحديث تولى المخرج التدريبات مع فريق الممثلين، وطالت فترة التدريبات دون الوصول إلى موعد العرض الأول– رغم موافقة الرقابة على عرض هذا النص! وتوافر عدد كبير من المشاهدين على مسرح السلام لمتابعة هذه التدريبات دون أن تتم الموافقة على العرض، وبعد تدريبات لأكثر من شهرين ونصف وجاء عدد غير قليل من المشاهدين على التدريبات، فوجئ الجميع ما عدا المخرج! وعندما ارتفعت الضجة حول العرض تطوع في استدعاء الرقابة مرة أخرى رغم أنها قد سبق وأن وافق على النص من قبل! وهنا قررت الرقابة منع المسرحية بدون أسباب مما جعل هذا النص حبيسا في الأدراج  حتى رحيل الكاتب عام 2004، ورغم ذلك فقد عاند وأصر على تقديم نصه لنيل جائزة المجلس الأعلى للثقافة عام 1989، ووقفت لجنة الجائزة أمام هذا النص الممنوع في حرج وتردد أعضاؤها، وكانت برئاسة أستاذ جامعي وناقد كبير، وفي اللجنة دافع كاتب مسرحي شاب عن النص وأحقيته في الجائزة بعد أن بدد مخاوف اللجنة حول النص الممنوع، إلى أن وافقت على منحه جائزة متواضعة وهي جائزة الدولة التشجيعية، وكان الكاتب حينئذ في عامه الثامن والأربعين، وبعد أن قدم هذا العدد المهم من النصوص المسرحية.
وفي عام الرفض نفسه، يقدم كاتبنا عرضا مسرحيا في مسرح القطاع الخاص هو “بوليتيكا “ 1989 في افتتاح مسرح جلال الشرقاوي بالمنتزه بالإسكندرية صيف 1989، وكان ذلك –في تصوري– شكلا من أشكال المنظومة السياسية التي سارت عليها الأمور في محاولة لتدجين المثقفين وإدخالهم الحظيرة.. لكن “نبيل بدران” كان واعيا.. فقد التزم بقضايا وطنه وسخر في هذا النص من ديكتاتورية الحاكم الذي يضم عشر لوحات انتقادية ساخرة مقسمة إلى جزأين، ويربط أحداث لوحات العرض العشر –إذا كان هناك أحداث مسرحية بالمعنى التقليدي– (مثلثان أساسيان يدور الصراع بينهما).. المثلث الأول زوايا شخصيات ثلاث التي تصطدم بزوايا المثلث الثاني الذي يتكون من ثلاث شخصيات سلبية.. يتبادلون أدوارا عدة ويتقمصون أكثر من شخصية وتتعدد أسماؤهم، ويتناول النص قضايا الخطف والنهب والتزييف، وتجارة العملة، والمستشفيات الاستثمارية، والتهريب وانهيار التعليم، والتسلق والطفيلية في الحياة النيابية، وبطش المزيفين الغاشم، ويقف المؤلف وحده –على لسان الجنايني “متولي” الطيب– مدافعا عن القيم الشريفة.
وبعد خمس سنوات يقدم له المسرح الحديث مسرحيته “للأمام قف” عام 1994 من إخراج هشام جمعة، وتقوم على حكاية بسيطة تتناول مشكلة أرملة شهيد من شهداء حروبنا ضد العدو الصهيوني.. إذ تعيش وحيدة تبحث عن الأمان.. حيث لم يترك لها زوجها الشهيد سوى أوسمة البطولة، وحيث ينطلق المؤلف المهموم بأوجاع وطنه –من هذه المشكلة الفردية لأرملة الشهيد حين يتقدم إليها الرجال طامعين فيها لتتحدد أنماط الناس مثل الجزار، أو الأفندى الفقير المنسحق، والرأسمالي الداهية، وتحتار الأرملة.. والنص اقترب إلى المونودراما.. تتحول إلى ثنائيات في مشاهد الشخصيات المتعددة التي تمر بذاكرة أرملة الشهيد، وفي الشكل الذي يفضله الكاتب وهو الكباريه السياسي الذي تتألق فيه الكوميديا الساخرة، ويصطدم الكاتب بأزمة جديدة في مسرحيته “لامؤخذة يا مستر ريختر” 1996، التي سبق أن أشرنا إليها في دفتر أحوال المسرح المصري. 
ونشير هنا إلى أن “نبيل بدران” قد قدم مسرحية “علي بابا كهرمانة شكرا” عام 1988 للمسرح القومي للأطفال، كذلك قدم مسرحيته الفانتازية السياسية “ألو يا أرض” 1994 التي تتناول في حدث فانتازي الحياة المثالية ومجتمع الرخاء في كوكب المريخ، لكن ما تلبث أن تنتقل إليه شرور الكرة الأرضية وفساد أهلها.. كما قدم كتابا نقديا تناول فيه العروض المسرحية العربية التي شاهدها في تلك البلدان. وأخيرا يشارك في تجربة مسرحية جادة في مسرح الهناجر حين قام بتحويل مسرحية “زهور الأوركيدا في ضوء القمر” للمكسيكي كارلوس فوينتوس، إلى عرض “لولو وشوشو” 2001 من إخراج هشام جمعة، يدور حول حكاية بسيطة عميقة لممثلتين كانتا في الماضي من المشاهير.. إلى أن بلغتا سن الشيخوخة.. فانطفأت نجوميتهما، وضاع كل ما كانتا تتمتعان به من بريق، وأصبحتا في طي النسيان لا يدق أحد بابهما، وقد حاول “بدران” أن يربط النص الأجنبي بحساسيتنا باعتبارنا متلقين، لكن يظل هذا النص، رغم أنه تراجيديا مؤثرة، يختلف كثيرا عن رصيده الثري من الأعمال التي توقظ الوعي، والحريصة على تغيير الجمهور كي يصبحوا مواطنين وبشكل أفضل، ويعمل على أن يُسقط عنهم تلك الحواجز التي تعوق حريتهم، وكذا ميكانيزمات الدفاع التي تحول بينهم وبين الانتباه إلى حقائق هذا العصر الذي ظل نبيل بدران طوال حياته باحثا عنها في إصرار وعناد. 


عبد الغنى داوود