إدراك الزمن في المسرح(1)

إدراك الزمن  في المسرح(1)

العدد 866 صدر بتاريخ 1أبريل2024

يمكن أن يتخلص المسرح من كل شيء، حتى الممثل، ولكن لا يمكنه التخلص من الزمن. إذ تسمح الصيغة الزمنية للأداء أن يصبح ذا مغزى. فمثلا، إذا حُرم هاملت من نكساته، فإن المسرحية سوف تتحول رحلة مملة، ومستمرة نحو الانتقام، ومع ذلك فإننا ندرك أنها دورة زمنية متقطعة تتصاعد فيها موجة شاذة من الأحداث الدرامية. وماذا يمكن أن تكون مسرحية تشيخوف «طائر البحر» إذا حُرمت من التناقص غير الطبيعي في إيقاعها؟، إن تأليف حدث أو أداء مسرحي يفتقر إلى الجودة الزمنية هو بمثابة بناء قلاع رملية بدون ماء. 
مزايا الأداء في معظمها ذات طبيعة زمنية، فقد يحتوى الكتاب على مقاطع مملة، ولكن، في المسرح، إذا تعثرت وتيرة الإيقاع للحظة، فإننا نخاطر بخسارة الجمهور. فالمسرح، كما يشير بيتر بروك، المسرح فطري وعضوي. إنه مثل النبيذ: إن لم يكن جيدا في اللحظة التي نشربه فيها فانه يضيع. وبالمثل، نلاحظ على الفور نقص كفاءة الممثل الهاوي عندما لا يحترم وتيرة وإيقاعات سطور النص: إيقاعه ينخفض عندما ينبغي أن يكون متصاعدا والعكس صحيح. 
 إن أهمية البنيات الزمنية بداية من الإيقاع الذي يضبط من خلاله المخرج أو المؤدي صوتنا الداخلي هو أمر مذهل. وكما هو الحال مع كل شكل حي، فإن المسرح لا يقتصر على الزمن فقط، بل إنه يعرف وجوده ذاته باعتباره زمنا. وكلنا نعرف هذا، ومع ذلك، حتى مع أكثر دراسات الأداء احتراما، هناك لامبالاة مذهلة بالزمن. ومقارنة بالكتب المتعددة عن المكان، فيمكننا من جهة الاعتماد على الزمن من جهة. 
 هل يمكن أن يُعزى هذا الإهمال التاريخي المعرفة الفارغة، أو إلى حقيقة أننا جميعا، كما أشار القديس أوغسطين، ماهية الزمن – ذلك اللغز الغامض – ولكننا غير قادرين على تفسيره؟. أم هل لأن الزمن محض وهم، باعتبار أن الحاضر يكمن بشكل متناقض في اللحظة التي تميل إلى التلاشي؟. أم أنه نتيجة لحقيقة أننا يمكن أن نعرف الزمن من خلال المؤثرات المكانية؛ عندما يصبح ساعة، وعندما يتكلس ربيع الوجه الأنثوي البالي الذي لا يمكن الدفاع عنه، أو عندما يعبر عن نفسه في علامات الشيخوخة المؤذية التي تكتنفها لامبالاة مرضى الزمن الشجعان؟ إن تصور الزمن عبارة عن تداخل نظري معقد، وذلك، قبل كل شيء، لأن الزمن ليس الشكل الذي تبدو لنا من خلاله الظواهر. إنه أيضا الطريقة التي يعرف كل واحد منا نفسه ويفهمها، نظرا لأن كل منا ليس لديه ذاكرة فحسب، بل إنه هو ذاكرة الذات: فإذا حرمنا من الذاكرة، فلا يمكننا إلا أن نرمي جسور العبث على وجودنا الوهمي. 
 ينقسم الزمن وظيفيا إلى ثلاثة جوانب متميزة: المدى والنظام والتكرار، ويبدو بطريقة ما أنه لا يمكن فصله عن توأمه المكان (التزامن مثلا يتعلق بأحداث زمنية متعددة، ولكنه يتعلق أيضا بأشياء متعددة في المكان). وهناك فرق بين المكان والزمان، ومع ذلك، ينتمي إلى البعد الأنثروبولوجي (على عكس الفيزياء، حيث فصل الزمن والمكان والفصل الزمني لا معنى لهم) حيث يسمح لنا المكان بالتحرك بحرية في الاتجاهات، ويبدو أن سهم الزمن أحادي الاتجاه لا رجعة فيه. ولا يمكن اختزال الزمن والمكان: صيرورة المكان تتضمن الزمن، ولكن الزمن ملائم أيضا للكينونات الساكنة. باختصار، ورغم كل شيء، يختلف الزمن عن المكان لأنه يتجلى في بعد واحد. وطبقا لبعض العلماء، يمكن التفكير في الزمن كمكان معبر عنه في بعد واحد. وبالنظر إلى التجربة الواقعية، فان عدم رجوع الزمن أمر أساسي، إذ أنه يمثل بُعد الضرورة والحتمية الذي يستعصي على سيطرة الإنسان . وتتلخص سهام الزمن التي نمر بها في حياتنا اليومية في ثلاثة أشكال: الديناميكا الحرارية (التي تنتقل من الأجسام الأكثر دفئا إلى الأجسام الأكثر برودة وليس العكس) والكهرومغناطيسية (الضوء الذي ينتشر من المصباح الى بيئته وليس العكس) وعلم النفس (تذكر الماضي وليس المستقبل). والمثال الأخير مألوف لنا، حيث أن قانون الديناميكا الحرارية يحدد أنماط الأنتروبيا، أي المستقبل كشكل من أشكال الاضمحلال، وهذا ما يحدث لأجسامنا في الواقع. 
 مثل هذه الفرضية ضرورية، لأن نظرية الإدراك المنهجية لا يجب أن ترتكب الخطأ المنهجي الذي قد يدفعنا إلى التحدث عن الزمن بطريقة معينة. ومن الخطأ المنهجي أن نتحدث عن الزمن أو نتأمله من الناحية المكانية (اختزاله من حيث الكميات، والمعايير، والتمايزات). ويمكننا أن نخلط بين المعايير المعتمدة لقياسه، مع الحركة والسرعة، وبالتالي مع المكان، أو حتى الخلط بينه وبين الخط المنسوب إلى أوغسطين الذي يقيس دقات اللحظات كما تقيس الخطوات نزهة على الشاطئ. وبدلا من أن يفهم الزمن على أنه زمن، فإنه يُفهم من الناحية المكانية، كما أشار برجسون بالفعل في نقده لمفهوم الزمن الأرسطي. وفي حين أن الزمن، ما لم نرغب في تزييفه، فإنه تدفق العقل، وغير مرئي ومتغير، إنه يجري كالنهر (كما يقول جويس) وعلى هذا النحو لا يمكن تثبيته ولا تجزئته. الزمن هو تدفق غير متجانس، والذي خوفا من نفاذه، نسميه الحاضر. في النهاية، تكمن أحد الاختلافات الأوضح بين الفن والعلم في غياب الزمن الذاتي لكل منهما. فالعلم يميل للتأثير في العمليات المكانية: إنه يحسب، ويقيس، وبالتالي يستبعد الزمن من الحياة، بينما الفن متشابك في الزمن المعاش والزمن الشخصي. فمن ناحية يمكن أن يهدف الموقف العلمي إلى تقسيم الطبيعة وفقا لنقاط التعبير، مثل القصاب البارع في تشريح الأجسام وتكسيرها من المفاصل، ومن الناحية الأخرى، يؤيد النفي المنهجي للشخصية كشرط للأحداث، مقتنعا أننا نعيش في عالم غير شخصي تماما. (يقودنا مثل هذا التفكير، كما سنرى فيما بعد، إلى نفي المتفرج والمسرح باعتباره عالما حيا). فقوانين العلم موضوعية وصادق. على العكس، كما يشير بروست «الحياة صادقة بالنسبة لنا جميعا، ولكنها مختلفة بالنسبة لكل منا، لأنها متشابكة في الزمن الذاتي، وفي الزمن الداخلي.  
 علاوة على ذلك، فإن سوء الفهم هذا، الذي يخلط جوهريا “كمية الزمن بكيفيته، يأتي من اللغة الإنسانية. وهذا أمر تتابعي ومنظم بطريقة تجعلنا نفكر في المفاهيم المكانية التي تميل إلى إصلاح الحركة وعدم التجانس، مثل التصورات غير المحددة أو المشوشة مثل تلك المتعلقة بالعواطف والأحاسيس. فشروط العلوم الإنسانية، ومن ضمنها دراسات الأداء، التي تمارس لما مصنوعا من الكلمات: علم لا يمكنه مثلا  وصف تعقيد حدث أو أداء يتم عرض بالتزامن – وهذا ليس بالأمر الهين! ونتيجة لذلك، يمكن أن تكون اللغة غير ملائمة لنقل تجربة الزمن المتغيرة، التدفق الذي يتكون من بمدى غير متقطع نشعر جميعا أننا داخله: التزامن الدائم لما كان وما هو كائن وما سيكون. 
 ولكي نتناول الخاصية الزمنية للحياة، فإننا نحتاج بديهية الزمن التي لا يمكن اختزالها إلى حركة مكانية. وكلنا نتذكر مفارقة زينون الشهيرة فيما يتعلق بأخيل والسلحفاة. وتأتي الحجج المرنة ضد الحركة من تصور حركة أخيل أنها قابلة للقسمة في الفراغ بشكل لا متناه، بينما إذا اعتبرنا كل خطوة من خطوات البطل وحدة بسيطة غير قابلة للتجزئة، فسوف يتضح لنا أنه بعد عدد معين من هذه الخطوات غير القابلة للتقسيم أنه سوف يلحق بالسلحفاة ويمسك بها. 
 وبالالتفات إلى دراسات الأداء، نحتاج أولا أن نتذكر أن محاولة تحليل وتحديد أشكال الأداء الزمانية، في غياب معايير مبادئه الخاصة، قد استسلمت للنموذج الأكثر شيوعا في العلوم الإنسانية: علم السرد عند جينيت. ويقوم هذا الأخير على التمييز بين التتابع الزمني لأحداث القصة وترتيب سردها، ويقوم أيضا على فئات المدة والتنظيم (اللذان تم تعريفهما لاحقا بشكل أدق في إطار السرعة) والتكرار. مثل هذا الإطار الذي يتم فرضه على عدم الاستقرار المتأصل في الأداء، سوف يتحول في حد ذاته من أداة إلى موضوع البحث وغايته وبالتالي يسجن المحلل. ومع ذلك، الوتيرات المتعددة لا تتناسب مع الإطار المحدد (وتيرة الصوت، والإيماءة، والفعل والعاطفة والأشياء والقصة والسرد والإدراك والواقع على خشبة المسرح).
 ومن الطبيعي أن يرتبط هذا النموذج بالنص الدرامي المكتوب، والذي يوصف وقته ويتحدد، في حد ذاته، بسهولة. علاوة على ذلك، لا يمكنه أن يمنح هذه الخاصية الزمنية، التي تخص الأداء، خاصية مستمدة من علاقة الممثل-المتفرج: علاقة حية تعتمد على قوى الزمن، وليس أشكاله. واستمرارية الإدراك الزمني في تجلي الأداء هي عملية غير قابلة للتقسيم، وليس مجموع سلسلة من الأحداث المحددة مسبقا، فلا يهم كيف يقرأ المتفرج الزمن، بل المهم كيف يعيشه ويشعر به. 
 ونهتم بهذا الجانب المحدد للإدراك الزمني، الإدراك الذي ربما يسمح لنا أن نحاول توجيه بحوثنا النقدية في اتجاه مختلف.

............................................................................. 
 • لوشيانو ماريتي يعمل أستاذا للمسرح في جامعة سبانزا – روما – ايطاليا 
 • هذه المقالة هي الفصل التاسع من كتاب «المسرح وعلم الأعصاب الإدراكي» الصفحات 139-153 – الصادر عن دار نشر بلومسبري 2016.


ترجمة أحمد عبد الفتاح