البنية الدائرية في مسرح صلاح عبد الصبور (1-3)

البنية الدائرية في مسرح صلاح عبد الصبور (1-3)

العدد 758 صدر بتاريخ 7مارس2022

“مأساة الحلاج” أولى مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية، كتبها عام 1964، بعد محاولتين فاشلتين مع كتابة المسرح الشعري، الأولى عن حرب تحرير الجزائر، والثانية عن”الزير سالم”.
وقد حصلت المسرحية على جائزة الدولة التشجيعية عام 1966.
تدور أحداث المسرحية حول شخصية “الحسين بن منصور الحلاج” المولود في منتصف القرن الثالث الهجري، وهو أحد أعلام الفكر الصوفي في العصر العباسي.
كان صاحب آراء إصلاحية ، جمع حوله الفقراء وعامة الشعب ودافع عن قضاياهم ، لذا عاش حياته بين سجن ومحاكمات واتهام، حتى كانت محاكمته الأخيرة في عام 309 هجرية. أمام القاضي المالكي أبي عمر الحمادي، ومعه قاضيان أحدهما شافعي والآخر حنفي كما جرت بذلك العادة.
تلك المحاكمة التي حكم فيها بصلبه وإعدامه. 
صلاح عبد الصبور كتب مسرحيته، في الوقت الذي كان مشغولا فيه بقراءة إليوت والكتابة عنه، ففي سنة 1964، قام بترجمة مسرحية “حفل كوكتيل” لإليوت، وفي العام نفسه قام بترجمة مسرحية “ جريمة قتل في كاتدرائية” لإليوت أيضا،، ولعل هذا يوضح لنا استمرارية تعلقه بهذا “الصوت الصارخ في البرية” و “الأرض الخراب”، قبل البدء في كتابة المسرحية، مرورا بقراءات متنوعة في شعر إليوت ومسرحه وكتاباته النقدية والثقافية.
وعندما كتب “مأساة الحلاج” كانت البيئة الاجتماعية تشهد تغيرات جذرية، تاريخيا واقتصاديا وفكريا، ربما لم يرض عنها الشاعر، أو لم يرض على جوانب منها.
هذه القراءة محاولة للبحث عن الخلفيات السياسية والاجتماعية والثقافية المؤثرة في بنية النص المسرحي “مأساة الحلاج”.
والبحث عن جدليات الواقع المتعددة وأثرها على وعي المؤلف، وأثر الثقافة العربية والعالمية، وتوظيف البنية الزمنية – بشكل منحرف- (غير تقليدي)، مع إلغاء الفكرة الزمنية التراتبية‘ لتكوين بنية دائرية، تساءل الزمن والمجتمع والسياسة، عبر رؤية فلسفية عميقة، وإن جاءت في إطار لغوي إشاري شديد الرمزية.

(1) البعد الاجتماعي
تناقش مسرحية “مأساة الحلاج” قضية علاقة المثقف بالسلطة من ناحية  وعلاقة المثقف بالمجتمع من ناحية أخري. عبر مجموعة من الأقنعة والاحتفاء بالشفرات الجمالية “ التي تميل إلى الاحتفاء بالتضمين ، والإيحاء، وتنوع التفسيرات”. (1)
المثقف فيها عاكف على نسج سيرته الشخصية في تماهيها مع المعشوق، سعيد بإشعاعات النور الصافي في وجدانه ولا يستطيع إلا أن يتمتم بكلمات غير مفهومة من فرط الوجد،  فهو تارة يتحدث عن الفقد وتارة عن التوحد، وهو في كل الحالات مأخوذ بكليته إلى ما لا يراه الآخرون، مما يجعل التأويل مفتوحا على مصراعيه، فتدلف السلطة ناسجة شباكها حوله، مؤولة ألفاظه إلى حيث تريد فتثبت عليه التهمة الجائرة ليعلق ويصلب ويموت.

فأين ترى تكمن “مأساة الحلاج”؟
هل في طوباويته المثالية، في كونه اكتفى بخلع الخرقة من أجل الفقراء، لم يعرفهم طريق الثورة الفاعلة، لم يكن واقعيا وهو يعاين كل هذا الكم من الشرور المحدقة بهم، كان يرى أن العبء كله واقع على النخبة، لا على مجموع الشعب، وتكون المفارقة أن هؤلاء الفقراء هم الذين شاركوا في المؤامرة المنسوجة لقتله بالترهيب أو بالترغيب، أو بالتواطأ المعلن أو التواطأ بالصمت على ما جرى له.
 فبالتأكيد فإن الحلاج قد قتل بسبب أفكاره الاجتماعية وليس لموقفه الديني الذي اتخذته السلطة وقتها ذريعة لمحاكمته.
يقول صلاح عبد الصبور في خاتمة مسرحيته: “مما لاشك فيه أن الحلاج كان مشغولا بقضايا مجتمعه، وقد رجحت أن الدولة لم تقف ضده هذه الوقفة إلا عقابا على هذا الفكر الاجتماعي”.(2) 
 لنا أن نقرأ هذا النص المسرحي من خلال المدخل الاجتماعي على اعتبار ما قاله الناقد الفرنسي”هيبوليت تين” بأن” الأدب نتاج ثلاثة عوامل: العصر ، الجنس، والبيئة”(3)
 وهذا لن يتأتي إلا من خلال قراءة البنية الزمنية لكتابة النص ومتعلقاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية. فزمن كتابة المسرحية 1964 أي في في فترة الستينيات ، وهي فترة حرجة في مسألة علاقة المثقف المصري بالسلطة الناصرية- وقتها- ففي هذا العام تحديد تم الإفراج عن عدد من المثقفين والمبدعين اليساريين الذين تم اعتقالهم عام 1959، في التجريدة الأمنية الشهيرة وكان ممن تم اعتقالهم وإيداعهم “معتقل الواحات” ألفريد فرج وفؤاد حداد وحسن فؤاد وصنع الله إبراهيم ونبيل زكي وفوزي حبشي ومحمود أمين العالم وفتحي عبد الفتاح وغيره.
ولم يكن صلاح عبد الصبور بعيدا عما يحدث ففي تلك الفترة كتب قصيدته” الرجل ذو الوجه الكئيب” التي تحمل إسقاطات سياسية على النظام السياسي في تلك الفترة والتي كانت تستخدم لعبة” العصا والجزرة” مع المثقفين.
تلك الفترة التي كتب عنها صلاح عيسى كتابا يحمل عنوانا دالا هو “مثقفون وعسكر” وكتب عنه الناقد والمفكر الراحل د. غالى شكري كتابه “المثقفون والسلطة في مصر”.
يقول هشام شرابي في كتابه “مقدمات لدراسة المجتمع العربي”: “ما يميز المثقف هو الوعى الاجتماعي والدور الذي يمكن أن يلعبه بواسطة هذا الوعي”(4)
 ومن يمكن أن نقول بأن للظرف السياسي أثر واضح في مسرحية”مأساة الحلاج”، فشخصية “الحلاج” كقناع مسرحي تمثل في “زمن الكتابة المسرحية” المثقف المؤمن بأفكاره المتوحد مع قضيته الساعي إلى التنوير بقضية اجتماعية مهمة وهي “العدالة الاجتماعية” من خلال الانحياز للفقراء وللطبقات المهمشة.
مما جعله ينادي فيهم بكلماته التي يراها مشكاة ودليلا لهم كي يعرفوا حقوقهم:
الحلاج: إلي إلي يا غرباء.. يا فقراء .. يا مرضى
كسيري القلب والأعضاء، قد أنزلت مائدتي
إلي إلي
لنطعم كسرة من خبز مولانا وسيدنا
إلي إلي، أهديكم إلي ربي
وما يرضى به  ربي (5)
وهنا نلاحظ الثنائيات المتقابلة / “الفقراء” الذين لا يملكون قوت يومهم والذين يسيطر عليهم الجهل والتخلف مما يجعلهم غير قادرين على الدفاع عن حقوقهم في الحياة، و”كسرة من خبز مولانا وسيدنا”، والمقصود بها هنا نور المعرفة  وفق الرؤية الصوفية، فالزاد – هنا – هو زاد العقل. تأذي هو –أيضا – الوسيلة للوصول إلى الحرية بمعانيها المختلفة. فمن عرف وصل وفق المعنى الصوفي أيضا.
فالبنية المسرحية التراجيدية – هنا – تختلف عن البنية التراجيدية اليونانية ، فالبطل التراجيدي في “مأساة الحلاج” لا تهمه ذاته وعذاباتها قدر اهتمامه بعذابات الآخرين والبحث عن حلول لها.
وكأن صلاح عبد الصبور يؤكد على فكرة “المثقف العضوي” على حد تعبير “جرامشي”.  
وهذا ما نراه في الجزء الأول من المسرحية والذي حمل عنوان “الكلمة”،والذي يبدأ بنهاية القصة من خلال تفعيل البنية الدائرية ، بتقديم الزمن الحاضر على زمن الحدث /الزمن الماضي.
وهذه سمة من سمات “مسرح الحداثة” الذي يعتمد في أحد أشكاله على” النص الذي يحاول العودة إلى الأشكال المسرحية الأولى والأزمان السابقة على الحوار. فالكلمة تفصح عن نفسها فقط، وتتوجه إلى جمهور تجمع للإنصات، تماما كما يحدث في المحافل الدينية، فلا تواصل جانبي، ولا علاقات تبادلية، إنه فضاء مركزي يقذف بالأقنعة إلى أصول الكلمات فيضفي النسبية إلى معانيها”.(6)
تفصح المجموعة في “المنظر الأول” من المسرحية عن عقدة النص / عن السبب في المصير الذي وصل إليه “الحلاج” ، تلك المجموعة التي تمثل جماعة الفقراء الذين وهب الحلاج حياته للدفاع عن قضاياهم في مواجهة استبداد السلطة في ذلك الزمان. لكنهم باعوه عند المحاكمة، ورددوا ما أمله عليهم رجال السلطة من اتهامات تمس عقيدة وشخصية”الحلاج” رغم علمهم التام ببراءته:
المجموعة: صفونا.. صفا..صفا
الأجهر صوتا والأطول
وضعوه في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
وضعوه في الصف الثاني
أعطوا كل منا دينارا من ذهب قاني
براقا لم تلمسه كف من قبل
قالوا: صيحوا.. زنديق كافر
صحنا... زنديق .. كافر
قالوا: صيحوا فليقتل إنا نحمل دمه في رقبتنا
فليقتل إنا نحمل دمه في رقبتنا
قالوا: امضوا فمضينا
الأجهر صوتا والأطول
يمضي في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
يمضي في الصف الثاني(7)
ونلاحظ أن التكرار هنا يؤكد على بنية الاستبداد، الذي يطغي على كل الأفكار المنادية بالحرية، سواء بالترغيب أو الترهيب، فقائمة الاتهامات مجهزة سلفا لكل من يجرؤ عليها أو يحاول التمرد على قوانينها البطريركية.

هوامش:
1- دانيال تشاندلر: معجم المصطلحات الأساسية في علم العلامات، ترجمة د.شاكر عبد الحميد- أكاديمية الفنون – القاهرة 2002
2- صلاح عبد الصبور: مأساة الحلاج – الهيئة المصرية العامة للكتاب _القاهرة 2012 – ص129
3- د.إبراهيم حمادة: مقالات في النقد الأدبي – دار المعارف – القاهرة 1982 ص61
4- هشام شرابي: مقدمة لدراسة المجتمع العربي – بيروت 1980 ص45
5- صلاح عبد الصبور: مأساة الحلاج ص43
6- د.سامح مهران: الحداثة والتراث في المسرح العربي – المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية –القاهرة 2005 – ص
115
7 – مأساة الحلاج  ص11


عيد عبد الحليم