العدد 569 صدر بتاريخ 23يوليو2018
سامحني يا صاحبي البريء الجميل
سامحني مهما قلت قولي قليل
لا هو أحبي ليك ولا قدك
يلي ضمير مصر النبيل ودك
جزء صغير من قصيدة لسيد حجاب كان قد كتبه في رثائه لصلاح جاهين يعبر بصدق عما يجيش في صدري تجاه الصديق العزيز «حازم عزمي» الذي افتقده صناع المسرح في مصر والعالم، بداية أقول لكم وبصدق إنني مهما قلت من مواقف ومهما ذكرت من أحداث فلن أوفي ذلك العالم النبيل والباحث النابه حقه فمن اقترب منه وتابع قدرته على التحليل في ما يتعلق بالمسرح الغربي والنظريات الحديثة في الدراما وكيفيات تطبيقها على المشهد المسرحي عندنا يعرف تماما أننا قامة كبيرة لها قيمتها ووعيها ومنجزها العلمي.
عرفت «حازم عزمي» منذ سنوات طويلة فمع بداية مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي كنت كمن وجد ضالته حيث بدت الدورات الأولى للمهرجان عفية لا يمكن نسيان عروضها الشيقة ذات الأفكار اللامعة والوعي المغاير هناك قابلت حازم للمرة الأولى كان يدرس المسرح بالجامعة الأمريكية، على ما أذكر، وكان مسئولا عن النشرة الإنجليزية للمهرجان بينما أنا وبعض الأصدقاء نكتب للنشرة العربية، في تلك الأيام كنت أشاهده يخرج معي من مسرح لمسرح نتبادل بعض الكلمات البسيطة عن الجدول أو عن العروض المهمة ومواعيدها، وكان سؤاله الدائم عن رد الفعل العفوي تجاه ما قدم، ونظرا لعلاقتي المرتبكة باللغة الإنجليزية لم أتابع بشكل جيد ما يقوم به من إنجاز، ولكن وللحق كنت ألاحظ انتظام ومنهجية ما كان يقوم به حيث يكتب في العادة جدول يومي للعروض وأماكنها وكيفيات الوصول إليها مع ملخص بسيط عن كل عرض، هذا من ناحية، كما كانت هناك في تلك النشرة إما ترجمة أو مقال تحليلي مكتوب خصيصا بالإنجليزية لنشرة المهرجان، وهو الأمر الذي كان يجد صدقا ومصداقية بين ضيوف المهرجان من الوفود الأجنبية.
بعد سنوات توطدت علاقتي به أكثر عبر لقاء مهم جمعني وإياه وحازم شحاتة رحمة الله عليه، وكانت المناسبة الاستعداد لتقديم عرض (ناس النهر) للمخرج ناصر عبد المنعم، وقد عرض علي يومها حازم شحاتة موضوع المسرحية وكيفيات الاستعداد لها من خلال مفهوم (الدراماتورج) الذي يروج لأهميته (حازم عزمي) ودوره في تنشيط الوعي الجديد، حيث كانت البداية كيف تخرج من التكوين المتوارث عن الإعداد الدرامي للمفهوم الشامل للدراماتورج الذي يحرر المتعامل مع النص الأصلي، ويجعل له دورا محوريا في طبيعة العرض، الوسط المسرحي المصري وقتها لم يكن يعرف الأدوار المتعددة للدراماتورج، ولكن ما قام به الثلاثي كان رائعا في حقيقة الأمر، فالنص الجديد لم يعتمد على التعامل مع نص الكاتب الكبير حجاج أدول فقط، وإنما ضمن أيضا روايته شديدة الجمال (الكشر) ومجموعته القصصية (خالي جاءه المخاض) وأذكر حينها أنني كتبت لمجلة المسرح واحدة من أفضل مقالاتي التي أعتز بها حيث شرحت للقارئ الدور المهم الذي قام به (حازم عزمي) في ذلك العرض. وحقيقة، كان العرض رائعا وكان الإقبال الجماهيري عليه كبيرا حتى إن حازم شحاتة في إحدى ليالي العرض، ونظرا للتدافع الشديد عند الباب، حصل على لكمة قوية من أحد الأصدقاء النوبيين الذي ظن خطأ أن شحاتة يمنعه عن الدخول.
ومنذ مدة ليست بالكبيرة عرفت من الدكتور سامح مهران أنه تم اختيار حازم عزمي ليكون المنسق العام لمؤتمر أكاديمية الفنون الذي جاء تحت عنوان “المسرح الذي لا نعرفه” وكنت متعجبا من عنوان المؤتمر، ولكن حازم شرح لي الفارق الذي أحدث البلبة الشديدة من اسم المؤتمر، والذي قصد منه حينها ذلك الجانب الذي يجهله عنا الغرب، وذلك الجانب الذي نجهله عنهم حيث يمكن من خلال المؤتمر جمع أكثر من باحث من جنسيات مختلفة لتبادل وجهات النظر حول الدراما في أدوارها المتعددة. والحقيقة، إن المؤتمر عبر ندواته المنظمة بوعي شديد قلل كثيرا من التوتر الذي أحدثه العنوان، وكانت مداخلات حازم عزمي جد شيقة.
وحين عاد حازم عزمي من أوروبا بعد أن أنهى دراسة الدكتوراه وتم تعيينه في جامعة عين شمس، التقينا أكثر من مرة في العروض المختلفة، وكنا نتناقش باستمرار عن مستقبل النقد المسرحي في مصر، كنت أعرض عليه باستمرار بعض مقالاتي ودراساتي وأذكر تماما أنه عادة ما كان يدفعني نحو الأفضل بعد مناقشة حقيقية مطولة حتى إن دراستي الشهيرة عن سيدة المسرح العربي (سميحة أيوب) لم تخرج للنور إلا بعد أن رضي عنها.
بعد سنوات من اللقاءات والتشاور الدائم صادف أن التقينا كأعضاء في لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة حيث خضنا معا الكثير من المعارك الشرسة أهمها على الإطلاق معركة عودة المهرجان التجريبي للحياة المسرحية مرة أخرى؛ إذ كانت عودة التجريبي مطلبا شعبيا بين كثير من المهتمين بالمسرح المصري والعربي، وكانت المعركة تدار بمنطق أي الآليات التي يمكن من خلالها عودة المهرجان، وأذكر أن النقاشات احتدت داخل لجنة المسرح حيث تكونت في النهاية جبهتان إحداهما تود عودة المهرجان في صيغته القديمة المعروفة والأخرى تريد تحرير المهرجان من الاسم القديم بحيث تعطيه قبلة الحياة فيستقبل العروض الجديدة في الغروب دون التزام حرفي بكونها تجريبية من عدمه، وقد حضر يومها وزير الثقافة «جابر عصفور» الاجتماع الذي طال لمدة تزيد على 4 ساعات كي يقف بنفسه على حلول عملية لعودة المهرجان، وجاء الدور على حازم عزمي بعد نقاش طويل من الزملاء فبيّن بوعيه الفارق كيف أن المسمى الجديد للمهرجان لا ينفي المسمى القديم، وأنه لا تعارض بين دمج التجريبي والمعاصر، موضحا أن كثيرا من مهرجانات أوروبا قد غيرت اسمها بعد استهلاك مضامينه أو تكلسها، وكما تعلمون كانت السنوات الأخيرة من عمر التجريبي قد شهدت الكثير من العروض الميتة وغير المهمة، الأمر الذي أصابنا جميعا بالإحباط الشديد، وكنت وقتها متحمسا للاسم الجديد كونه سوف يضعنا مباشرة أمام المشهد المسرحي الغربي الجديد بكل أطروحاته وفنون أدائه، الأمر الذي جعلني أنا وحازم عزمي ندافع بقوة عن تغيير الاسم، وهكذا أعطى حازم عزمي للتجريبي قبلة الحياة كي يحيا من جديد ويعطي للمسرحيين في مصر والوطن العربي فرصة مهمة لمتابعة الجديد في المشهد المسرحي العربي.