العدد 683 صدر بتاريخ 28سبتمبر2020
علاقتنا بالضوء والظلام علاقة نظام وجودي يتيح للعقل ترتيب الكون الزمني والمكاني، كما تتعلق الحركة الذهنية بالمعرفة والتقاط المفاهيم، كذلك المسرح استخدم هذا النظام لخلق التمثيل بالظلال ليقارب التّلقي ويُكسبه الفُرجة من خلال الحكايات الشعبية والحِكم والذكر تلك الطقوس الّتي تمثلتها الشعوب عبر الخيال وتحريك الظل لمسرحة الوجود بحس ترفيهي لحاجة الإنسان فنياً وإبداع الفكر التقليدي وسرعان ما تضمحل هذه الأساليب حين بدأت السينما السوداء والبيضاء وتتطور بالألوان والتطبيقات الحديثة، لكن الإنسان عاود إحياء الظل عبر تحريك جسده خلف عازل وتقنية الجرافيك والضوء والظلام تحدد ماهية الخطاب ولعل السؤال الأهم ما فائدة مسرح الظل حتى يحركه الممثل بجسده بديلا عن الدمى و الكرتون في الوقت المعاصر؟ من وجهة نظري تعلق الإنسان بالمغيَّب والمفقود والمتخفي أكبر بكثير رغبة وشغفاً من الحاضر تلك النزعة الشعورية المنعزلة والمتطرفة والملحة في فهم الفكرة تثير استعادة المسرح لهذا الظل الذي حقق شعبية عظيمة تصل للعادات والطقوس الفنية تعاود المثول في زمننا الحاضر تحركها الأجسام البشرية الحية حتى يصل صوت استثنائي يحمل خطاب الشعور بالعزلة والتباعد والانفصام بين العلاقات أصبح الظل قناة تلقي خطابه الصامت ويرسم صوت الحقيقة المضمرة ويحاكي فراسة الكائن في محاكاة كينونته فنياً.
لخيال أكثر أهمية من المعرفة مقولة للعالم الفيزياء( ألبرت أينشتاين)، ولعل عالمنا لا ينفصل عن الظواهر الفيزيائية، لهذا يندرج مسرح الظل في منحنى التأثير الجمالي للضوء وهو انعكاس للأشياء من خلال تواجدها الذهني في المخيلة الّتي لا تنفصل عن الدماغ واكتمال صفاتها عبر البيانات التي تحملها الذاكرة، واستخدام الظلال خلال الفن لتكوين الخطاب وفق مسارات الفعل الدلالي للدال الذي تمثله الصورة المرئية من أجل تقييم الواقع البديل للضوء في انعكاسه خلف المجسمات واقتران العالم التأويلي بالمعارف المكتسبة للجمهور أو تعزيز العلاقة الاستدلالية بالمعرفة والاستنتاج الجمالي والمفاهيمي.
مسرحة الإيماءات جدلية مناسبة لتخفيف وطأة الواقع على الإنسان وأنسنة الضوء ليشكل عالم خطابياً متخفياً وظاهرا في نفس الوقت.
تشير الدراسات إلى حدود الشرق الأقصى متمثلة في لعبة هندية وإلى بلاد المغول حيث عرفت ظاهرة (خيــــــــال الظل) وانتقاله إلى اليابان وانتشاره عبر الرحلات نحو البلاد العربية في القرن العاشر أو الحادي عشر ميلادي أما من جهة أخرى ترصد الكتب التراثية وجوده في الأعياد الدينية والطقوس الشعبية» يُذكر أن الإشارات الأولى لهذا الفن كانت في كتابات «(ألطاف الحكمة للمسبحي) في القرن الخامس الهجري حيث قال: أن الناس بمصر كانوا يخرجون في بعض الأعياد ويطوفون الشوارع بالخيال و التماثيل»1 ولعل الأرجح في انتقال (ابن دنيال) من العراق إلى مصر بسبب « اجتياح المغول للعراق سنة 656هـ دفعه إلى الهجرة، فارتحل إلى مصر، وهو في التاسعة عشر من عمره فتابع دراسته فيها»2 وقد عرض خيال الظل في عديد النصوص اتسمت بالسخرية مستعملا زخارف اللفظ ولباقة الأسلوب حسب حالة السماع ومواقعها بازدواجية اللغة العامية والفصيحة «ترك ابن دنيال ثلاث نصوص (بابات) وهي طيف الخيال وعجيب وغريب والمتّيم»3 وعرضت باباته عن طريق الخيالات الورقية والدمى التي منحت قياساً عقليا بين تفكير العقل وسلطة التخيل التي قربت بين مفهوم الأساطير وصراع الآلهة الّتي سيطرت فيها قوة الوهم على العقل، أصبح المسرح في خيال الظل منطقا لحصول تعالي فني يتخذ فيه التفكير العقلاني سلطته في تحريك المخيال الثقافي بمهارة الخطاب الذي يمارسُ الوجود المتخيل إلى فهم الواقع وتجريده.
كما يمكن تحديد تركيب العرض في خيال الظل عند العرب»وتسمى الواحدة من تمثيليات خيال الظل (بابة) وتجمع لغتها عادة بين الفصحى والعامية، وبين الشعر والسجع كما دخلها بعد ذلك الغناء والتلحين، ويسمى الرجل الذي يحرك هذه الشخوص بـ( المخايل) أما منشد أزجال البابة ، فيطلق عليه (الحازق)»4 وهي تحمل دلالتها الشعبية وانتشرت بابات (حسن خنوفة) في تقديم عروض»الصياد» و»العساكر» و»علم وتعادير» ثم اكتسى وجودها مرحلة لاحتواء التجربة عبر تجارب أخرى.
كما نجد في كتاب( خيال الظل واللعب والتماثيل المصورة) لـ (أحمد تيمور باشا) يصور أهميته «كان للناس شغف بالخيال-خيال الظل- في مصر حتى أوائل القرن الرابع عشر الهجري له سوق نافقة في الأعراس، قل أن يقام عرس لا يلعب الخيال في إحدى لياليه وكانت له مقاهي يلعب فيها، إلى إن اخترع الافرنج (الصور المتحركة)»5 حيث تطور العمل السينمائي وانتقلت الصورة إلى السينما.
كانت للطبيعة منزلة في تحريك العرض ويحدد (أحمد تيمور باشا) صفة اللعب بالخيال في كتابه: أنهم « يتخذون له بيتاً مربعاً يقام بروافد من الخشب، ويكسى بالخيش أو نحوه من الجهات الثلاث، على الوجه الرابع ستر أبيض يُشدُ من جهاته الأربع شدّاً محكماً على الأخشاب وفيه يكون ظهور الشخوص ، فإذا أظلم الليل دخل اللاعبون هذا البيت ويكونون خمسة في العادة، منهم غلام يقل النساء وآخر حسن الصوت للغناء فإذا أرادوا اللعب أشعلوا النار قوامها القطن والزيت تكون بين أيدي اللاعبين ، أي بينهم وبين الشخوص ويحرك الشخص بعودين دقيقين من خشب الزان يمسك اللاعب كل واحد بيد، فيحرك بهما الشخص على ما يريد»6 هي تقنيات دقيقة وتقليدية في تحريك العرض وتقديم التشكيل الجمالي لمسرح الظل.
تندرج المواد التي يصنع منها شخصيات خيال الظل من مصادر متنوعة تتخذ من عناصر المادة الخام صفاتها اللونية وأنسجتها الجلدية أو النباتية أو الخشبية»وتتخذ الشخوص من جلود البقر وهي في الغالب جلود تعمل منها أعكام للعشبة التي تأتي من السودان ليتداوى بها، فيشتري بعضها لاعبوا الخيال من التجار ويصورون منها ما يشاءون من الشخوص، ثم يصبغونها بالأصباغ على ما تقتضيه ألوان الوجوه و الثياب وأجسام الحيوان وجذوع الأشجار وأحجار المباني وغير ذلك بحيث إذا عُرضت الصور أمام ضوء النار المشتعلة ظهرت زاهية بهية لشفوف تلك الجلد»7 تعلق القناديل والثريات للزينة فوق عقد على أعمدة تسمى (القوصَرة) ويستفتح اللعب الشخص المسمى ( المقدِّم) بإنشاد مديح نبوي وتحية للجمهور الحاضر.
المسرح المعاصر لا يكبح جموحه الفني استعمال الظل في استنطاق الخطاب الحركي، ومؤثرات اللغة البصرية، في مسرحيات مثلها الإنسان والأشياء تماثلات تصنع العرض بالظلال التي يعكسه الضوء من خلال حائل مثل مسرحية ( الحقائب السود) من مجموعة (براد الموتى)، وعرض(انتروبيا) من مجموعة (تفو) للكاتب العراقي(علي العبادي) من خلال الايماءات الصامتة التي تنقل معاناة الإنسان في فضاء تتناثر فيه الأشياء، تنظم معاني قريبة للوضوح المرئي في الظل وهنا انعكاس لمقاربة الفهم أو توجيه الخيالات نحو أنظمة تقترن بدلالتها المعرفية وتتعدد بتأويل الواقع وأنسنة الصورة في محاكاة المتلقي.
أضحى استخدام المادة الفيلمية (الجرافيك) Graphic عند الفنانين و المنتجين أمرا في غاية الأهمية، وهو مجموعة من التقنيات تستخدم للإبداع البصري في رسم الصور واستحداث أشكال من خلال تصاميم مبتكره وتبلغ أهميته في توجيه المستخدم والتأثير في الرؤية وتبديل القناعات أو ترسيخا في الشيء وهي تعتمد على رسومات أو منافذ ترويجية إلكترونية كما تستعمل في الأفلام والمسرح وهو ما ساهم في تطوير المشاهدة وتقريب الصورة في مسرح الظل عند(علي العبادي).
مسرح الظل عالم من الأشكال والحركة بين الضوء والعتمة يصنع أشكال للخطابات البصرية في منأى التّخيل المباشر حيث ينتج عن استجابة الدماغ للحس الحركي والبناء الدرامي المستثمر مساحة المسرح عرض نصوص تتحكم في معارف مكتسبة للأشياء وصفاتها كعلاقة الحقيبة بالسفر واللجوء وعلاقة تناثر قصاصات الأشياء بالدمار و الخراب ويبقى العنصر الصوتي والموسيقي من المؤثرات التصويرية في مسرح الظل المعاصر.
المراجع:
1 - نبيل بهجت، مجلة إلكترونية شهرية (الكلمة) ، العدد:95 السنة 2015 Alkalimah.net.article /read/ 7174
2 - أحمد قتيبة يونس، البناء الدرامي في مسرح خيال الظل (ابن دنيال أنموذجا) مجلة دراسات موصلية ، العدد الحادي عشر ، كانون الثاني، 2006، ص.67
3 - أحمد قتيبة يونس، البناء الدرامي في مسرح خيال الظل (ابن دنيال أنموذجا)، ص67
4 - أحمد قتيبة يونس، البناء الدرامي في مسرح خيال الظل (ابن دنيال أنموذجا)،ص.66
5 - أحمد تيمور باشا، خيال الظل و اللعب والتماثيل المصورة عند العرب، دار هنداوي سي أي سي ، مصر، 2017، ص. 19
6 - أحمد تيمور باشا، خيال الظل و اللعب والتماثيل المصورة عند العرب، ص. 19
7 - أحمد تيمور باشا، خيال الظل و اللعب والتماثيل المصورة عند العرب، ص.19-20