«الباب» المقاومة والوهم بحرية الإرادة

«الباب»  المقاومة والوهم بحرية الإرادة

العدد 804 صدر بتاريخ 23يناير2023

 مسرحية الباب، للروائي الفلسطينى «غسان كنفانى» هى أولى أعماله المسرحية، وهى أيضا الجزء الأول من الثلاثية التى تتكون من مسرحية(الباب، وجسر إلى الأبد، والقبعة والنبي). 
وبما أن المسرحية من إبداع”غسان كنفانى” من أقوى المناضلين فى القضية الفلسطينية، إذا، عندما يكتب مسرحية لن تكون إلا عن مشروع عُمره، الذى عاش وأستشهد من أجله، المقاومة. حتى لو استخدم الاسطورة للتعبير عن نضاله. 
أما الاسطورة التى استخدمها كنفانى للتعبير عن المقاومة هى، أسطورة آرم، مدينة آرم ذات العماد. جاء غسان كنفانى بشخوص الاسطورة الحقيقيين فى مسرحيته لكنه غيّر وظائفهم تماما. 
المسرحية بالأساس وُضعت للتعبير عن المقاومة حتى يبلغوا الحرية أو إلى الأبد، أيهما أقرب، وكانت الرمزية هى البطل المُطلق فى هذه المسرحية. الإله ”هبا” رمز الاستعمار والاحتلال الذى يأسر الشعب الفلسطينى، الاحتلال الذى حاول إيهام الشعب بأنه الخلاص، وهو السبيل المتاح لحياتهم، لو انضموا لصفوف الخانعين سيهبهم عطاياه، الطعام والماء، سيبقى على حياتهم فى سبيل تقديم فروض الطاعة فى كل لحظة. 
لكن فى أى مكان يتسلط فيه”هبا” على البشر، لابد وأن يخرج له”شداد” ليقاوم الاستعباد والمذلة، وربما هو قانون أذلى منذ خلق البشر، طالما هناك ظلم فلابد له من مُقاوم. 

الرمزية فى «الباب»
كل ما جاء بالمسرحية هو تعبيرا رمزيا، بدأ من العنوان، عنوان المسرحية الباب، وحتى النهاية. 
نبدأ بالحديث عن العنوان. رغم أن المحور الأساسي للرواية هو أسطورة مدينة آرم جنة عاد المطموسة دون أن يُستدل عليها، إلا أن العنوان»الباب» جاء مغايرا لما قد يظنه القارئ، فبدلا من أن يسمى الكاتب مسرحيته باسم مباشر، أتخذ الرمزية  طريقا لما سيغوص فيه القارئ عندما يتوغل فى النص. فكان الباب رمز الحرية، والذى تجسّد فى نهاية المسرحية، هو السبيل للخروج إلى لبراح، إلى الحياة الآدمية، الباب الذى يعيشون وراءه فى قهر وعبودية، يبنون الاصنام التى لا تعقل ويسجنون أنفسهم فى الخضوع تحت استبدادها.

«هبا، وشداد» الاستبداد والمقاومة.
بالتأكيد ذكر، كنفانى، أن شداد، بنى المدينة نكاية فى الإله”هبا”لتكون جنة خاصة يُستغنى بها عن جنة الإله الذى لا يسمع ولا يرى. بدأت سيرة الاستبداد والمقاومة من زمن الاجداد، عاد ولقمان وقيل، وهم من بدأ المقاومة ضد استبداد الآلهة صدا وهبا وصمود. وكما مصير هذا الآلهة من ولادة مقاومين لها فى السابق، فمصيرهم أيضا توارث هذه المقاومة جيلا بعد جيل، حتى وصل لجيل شداد وابنه مرثد.
 فكما رفض عاد قديما استسقاء هبا وصمود وصدا، قاوم شداد فى البداية ببناء المدينة «مدينة آرم» التى تناطح الجنة التى وعد بها هبا واستعبد الناس،  بوعد أن يدخلهم إياها لو ظلوا على استسلامهم وطاعتهم، وبعدها خرج شداد يقاتله بسيفه، يجابهه وحيدا. ورغم قوة سلاح عدوه المحتل الغادر، إلا أنه رفض الاستسلام ولا يزال يقاوم. 

الاستسلام والمقاومة.
رسم لنا كنفانى صورة الإيهام الذى يَعد به المستبد ضحاياه. فلنتحدث فى البداية عن المستسلمين، وهم فى المسرحية، الأم، أم شداد، والأشخاص الذين يقدمون القرابين للإله وينتصب تمثاله فى بيوتهم وأمامها، ويرزخون تحت وطأة الخوف والرعب من عواقب غضبه عليهم. ثم جاء الشخصان اللذان قابلهما شداد فى النهاية، بعد الموت. اللذين رغم اكتشافهما الحقيقة وزيف فكرة الإله، إلا أنهما استسلاما لمصيرهما حتى أقنعا أنفسهم بأنه قدرهم المحتوم دون مفر. 
أما مظاهر الاستسلام هذه، من الأم، والتى كانت تعرف الحقيقة ولا تتحدث خوفا هى أيضا، خاصة عندما قالت أن جميع المقاومين يبدأون المقاومة بطريقة خاطئة عندما يتم تنصيبهم فى معبد الإله، إلا أنها طوال المسرحية تثنى أبنها شداد عن المضي فى المقاومة، تحاول منعه بكل ما أوتيت من قوة، خوفا عليه من الموت كما مات أخيه وأبيه وجده. 
أما الشخصين فى النهاية، هما أيضا عرفا الحقيقة، وعرفا أن الباب هو الطريق لتحررهما من ملل وسأم العبودية. لكنهما تقاعسا عن محاولات إضافية لفتح الباب. 

الوهم بحرية الإرادة
إيهام المستبد بحرية إرادة الآخرين هى الكذبة الأكثر خبثا، فى الحقيقة والمسرحية. فالكذبة بالحرية عندما خيّرهم بين الاستسلام له أو يحرمهم من عطاياه، ماء وطعام وأمن. أوهم شداد أيضا بأنه حر فى محاربته لكنه توارى خلف الحُجب وأرسل العاصفة العاتية لتعصف بشخص واحد لا يمتلك إلا نفسه وسيفه. وفى النهاية قال له أنت اخترت الحرب. 
أيضا الإيهام بحرية الاختيار جاء فى رمزية العمل الذى وّكل به”هبا” الشخصين بعد الموت. والذى خيّرهما بأن يخيط أحدهما ثوبا للمحبوبة لا بد وأن يكون مناسبا لها تماما، ولو حدث فهى له، وأوهم الاخر بحرية أن يختار المحبوبة لو نجح فى عد غرز خياطة صاحبه. أحدهم يخيط ثوبا ليلا ويحل خيوطه بالنهار، قمة الاستسلام لما هم عليه، والآخر يعد غرز الخياطة. كلاهما لا يحبان الفتاة، كلاهما يعرفان أن الفوز بأى شيء من هذا الطاغية هو محض أكذوبة، وكلاهما سئما من المقاومة، ومحاولة فتح الباب، واستسلاما. وكلاهما عرفا انهما هما مَن صنعا صنمهما وعبدوه. 
 على عكس شداد المقاوم، محور الحكاية، ظل يقاوم دون نهاية، أو حتى بعد نهاية المسرحية. رفض أن يظل يرمى كرة مطاطية على الحائط لتُرد إليه مرة أخرى.  
رغم أن”هبا” قابله وحاول إقناعه بأنه حر لكن عقيلة الحر حقا أبت أن تستسلم لهذا الخداع، ليتبن أن السجن ما هو إلا مملكة المستبد التى تصنعها العقول الخاضعة، وأيضا دلل كنفانى على هذا عندما أكتشف شداد، أن هبا، شابا صغير عكس ما صوّره الناس فى تماثيله، شيخ بلحية بيضاء، كذبوا كذبة على أنفسهم وصدّقوها.


سماح ممدوح حسن