فوزي فهمي.. ووردة البدايات

فوزي فهمي.. ووردة البدايات

العدد 677 صدر بتاريخ 17أغسطس2020

حدثنا شاعرنا الراحل صلاح عبد الصبور، في أحد البرامج الإذاعية، كيف ضاق ذرعاً في بداية حياته المهنية - بعمله الذي فشل فيه كمعلم في المدارس، واصفاً التدريس بأنه عمل شاق ومرهق. وكان صلاح في ذلك الوقت من منتصف الخمسينيات قد ولمع نجمه وتخرج في كلية الآداب، وواصل نشر أشعاره ومقالاته الصحفية في مجلتي الآداب البيروتية و روز اليوسف، فطلب الى احسان عبد القدوس رئيس تحرير مجلة روز اليوسف أن يرشحه لدى يوسف السباعي، الذي كان بصدد انشاء المجلس الأعلى لرعاية للفنون والآداب، لكي يعينه بوظيفة في ذلك المجلس الذي كان عبد الناصر قد أصدر قرار انشائه، فما كان من عبد القدوس الذي آمن بعبد الصبور وموهبته الواضحة، إلا أن اقترح عليه تعيينه بمؤسسة روز اليوسف بمرتب يوازي ما يحصل عليه من وزارة المعارف وروزا معا. فكانت هذه الجلسة نقطة تحول في مسار عبد الصبور المهني والابداعي.
هل لك أن تتخيل ماذا كان بوسع عبد الصبور أن يفعل، أو ينجز، لو انه استمر في عمله الذي اعترف بفشله فيه كمعلم، ولولا إيمان احسان عبد القدوس بموهبته كشاعر وكاتب صحفي؟!
هذه القصة ذكرتني بحكاية أخرى ليست بأهمية الحكاية الأولى قطعاً، جرت لي شخصياً بعد ذلك بعشرات السنين وتحديداً في صيف 1992، كنت لاأزال أتلمس طريقي بين استكمال دراستي العليا، والعمل برقابة قطاع الإنتاج بالتليفزيون، والصحافة الثقافية، والترجمة. وفي ذات يوم أهداني صديقي الدكتور عماد الدين عبد الرازق، الذي كان مبتعثاً إلى بريطانيا لدراسة المسرح، كتاباً صغيراً للمخرج والمنظر البريطاني مارتن إسلن يحمل عنواناً مثيراً وجديداً هو مجال الدراما: كيف تصنع العلامات المعنى في المسرح والسينما. واقترح علي عبد الرازق ترجمته، وبالفعل ترجمت فصلاً منه، ونشرته بمجلة المسرح على ما أذكر. ثم اقترحت ترجمته بعد ذلك على أستاذي الدكتور فوزي فهمي رئيس مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في ذلك الوقت، وعلى الفور طلب مني ترجمة الكتاب تمهيداً لنشره ضمن إصدارات المهرجان نظراً لجدة موضوعه وأهمية الكتاب ومؤلفه. ثم كان أن تحمس الراحل الدكتور أحمد سخسوخ للحصول على حق ترجمة ونشر الكتاب من صديقه مارتن إسلن، وبالفعل راسله وتمت الموافقة.
وهكذا بدأ المترجم الشاب (في ذلك الوقت) رحلة الترجمة والبحث أسفرت عن ثلاثة كتب في موضوعات جديدة تتناول سيميوطيقا المسرح ونظرية التداخل الثقافي، أعتز بها، وأعجب أحيانا من أين أوتيت هذا الدأب والصبر على إتمامها.
هذ الرحلة لم أكسب خلالها مالاً يذكر، لكني كسبت من ورائها الكثير من العلم والخبرة، وكانت ترجمتها مزيجاً من البحث العلمي والترجمة في فلسفة هذه العلوم ونظرياتها ومصطلحاتها، ودخلت في تكويني العلمي والثقافي، ويسعدني كثيراً أنها أفادت الكثير من الباحثين في أطروحاتهم للماجستير والدكتوراه، ويسرني أن يتذكرها بالخير، بعد مضي كل تلك السنين، بعض الزملاء ممن أقدرهم وأحترمهم.
غادرت مصر وتركت حياتها الثقافية والصحفية بعد ذلك بسنوات، وأخذتني الحياة في مسارات أخرى . لكن هذه الوقائع لم تسقط من ذاكرتي أبداً.
ولكن ما المناسبة لكي تحدثنا عن نفسك وعن كتبك؟! قد يتساءل سائل!!
وأقول: إنه كما ينثر بعض الناس الأشواك في طريقنا في هذي الحياة، ويضعون العوائق والعقبات، هناك أيضاً على الضفة الأخرى من يهدينا وروداً ويساندنا ويدعمنا حتى عندما نفقد نحن- وسط مكابدات ومكايدات الحياة ومعاناتها، - ثقتنا بأنفسنا. فكل الشكر لمن علمنا حرفاً، وآمن بنا، وأهدانا وردة في بداية مسار حياتنا الصعب.
وأقول: إن فوزي فهمي وهو أكبر من أي ألقاب، ليس كاتباً مسرحياً ولا باحثاً و أستاذاً جامعياً مرموقاً فحسب بل هو من القيادات الثقافية النادرة، وانجازاته في إعادة صياغة وتطوير أكاديمية الفنون، و انشاءه لمركز فريد من نوعه في العالم العربي وهو مركز اللغات والترجمة التابع للأكاديمية، وانجازاته الهائلة في تسيير وإدارة مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي على مدى سنوات طوال لا ينكرها إلا جاحد أو جاهل. وهو مثال رائع على المسؤول الثقافي، وهو ينتمي الى جيل تتلمذ على أيدي الرعيل الأول من النقاد الأكاديميين في مصر وأهمهم محمد مندور.
هذي باقة ورد لأستاذي الدكتور فوزي فهمي أحمد، الذي أعطاني الفرصة ومنحني الثقة وأنا أخطو خطواتي الأولى كمترجم وباحث، وفي يوم ميلاده أقول له شكراً لك على كل شيء.


سباعي السيد