الحضور أمام المتفرجين مقاربة فينومينولوجية للأداء المسرحي(1)

الحضور أمام المتفرجين  مقاربة فينومينولوجية للأداء المسرحي(1)

العدد 888 صدر بتاريخ 2سبتمبر2024

 « الممارسة تسبق النظرية .. في كل مكان وفي كل زمان «
 ( ايدموند هوسرل  XVI :61 )
 
حضور الممثلين الحي يمنح خشبة المسرح اتساقا ظاهراتيا هائلا. وتشير سيولة الحياة ومصداقية الفعل إلى أن عالم الخيال المسرحي المصطنع لا يزال حيا. وبمجرد الاتصال بالمتفرجين، فان هذا الإحساس بالحيوية هو الذي يمكن أن يوقظهم ويفتح عيونهم على ما قد يحدث على خشبة المسرح. وبالتالي، من المهم للممثل أن يعرف كيف يكون حيا بشكل مشهدي، وكيف يصبح منخرطا في المواقف غير الحقيقية. والتحدي الرئيس لصناع المسرح هو إحياء حقيقة المسرحية, أن يضعوا أنفسهم والمشاهدين أيضا في حالة حلم، ويقدم تشريحا للحلم : الأربطة والمفاصل والتوتر العصبي والدورة الدموية وضغط الدم. الحضور أمام المتفرجين هو نقل التأثير المسرحي للحياة إليهم. وربما تبدو المشاركة متناقضة : يتفاعل المتفرجون مع المواقف الخيالية بطريقة موثوق فيها، ولكن في بيئة اصطناعية. وقدرة الممثلين هي تكرار الأفعال الدقيقة وجعلها حية، ويمنحونها الدقة والاتساق. ويتساءل جاك كوبوه  أين سر التخيل الذي يجعل الممثل يعيش معاناة هاملت أو محنة أوديب وزنا المحارم ؟ الممثل لا يحس بالمشاعر الخيالية، بل انه يتخيلها بكل كيانه. فكيف يمكن للعفوية والانضباط الفني الشكلي أن يتعايشا في مقاربة تعبيرية واحدة ؟ وما نوع التجربة التي تسمح للمؤدين أن يكتشفوا ويكرروا ليلة تلو الأخرى أفعالا حقيقية وموثوقة بالرغم من اصطناعية التمثيل المتعارف عليها ؟. للإجابة على هذه الأسئلة نركز أولا على تعلم التقنيات في فن المؤدي بتقديم عدة أمثلة للتمرينات التي يستخدمها الممارسون والممثلون ومعلمو المسرح. وعندئذ سوف نبحث بضعة مبادئ عملية لاكتساب الحضور على خشبة المسرح. فعلى المستوى الفينومينولوجي للوصف، نركز بوجه خاص على البنيات المشتركة للجسم الحي leib الذي يفهم باعتباره ركيزة العادات ومركز الإرادة الفعلية. ومن خلال وضع تحليلنا في سياق منظور هوسرل حول الوعي الحركي kinesthetic awareness، سوف نفهم ما هو المحدد في خيال المؤدي والتجسيد. 
أولا – تطوير الإبداع الفني من خلال الإدراك التقني 
     الممثل حرفي Craftsman، يجسد العمل الفني ومادته في نفس الوقت. فهو مثل السائق الذي يأخذ الجمهور إلى مكان غير عادي، ويجب أن يكون قادرا على فقدان جسمه الشخصي ؛ لكي يكتشف كيانات أخرى غير ذاته ويجسدها للجمهور. ومنذ تدريبه الأول، يشكل الممثل المستقبلي مجموعة من الاستراتيجيات التي تم التحقق منها، ومنطقة راحة شخصية a personal comfort zone. والهدف الأساسي لمدربي التمثيل والمخرجين هو مساعدة المؤدين لتوسيع مجالهم التعبيري. وقبل اكتشاف أشكال تعبير جديدة، يجب أن يتوفر وعي بالعادات،  يتبعه جهدا قصديا لعدم إعادة تقديمها بشكل اتفاقي. وتوازن ثابت لوضع الجسم،  تعيق الأفعال المتماثلة، وتكرار نفس الإيماءة تطور الإبداع الفني. ولتجاوز هذه الصعوبات العملية، يقترح المدربون عدة تقنيات للتعليم. وبالتالي فان القواعد بالنسبة للممثل تهدف إلى تطوير قواعد ذات ناقلات مضادة، وتغيرات في الإيماءات والحركات في مختلف الاتجاهات، وتبديل والوتيرة والزمن والإيقاع والسعة أو التعبير عن مختلف درجات الشدة في الأفعال البدنية والصوتية.  
     أول جيل من المجددين في مسرح القرن العشرين هم ستانسلافسكي ومييرهولد وتشيكوف وفيختانجوف وكوبوه، وآخرين، طورا تمارين تهدف إلى تسهيل التلقائية الفنية. وقد أدى الممثلون هذه التمرين مرارا وتكرارا لكي يحولوا الحركات الخاملة إلى أفعال فعالة، بهدف أسر حواس المتفرجين وإقناعهم. وهدف الممثلين هو أن يعيشوا وفقا لشكل مرسوم بدقة، وأن يتأملوا الفعل، ودو الحاجة إلى توجيه إيماءاتهم بشكل واع.  وتتطلب التلقائية الفنية، كطبيعة ثانية، تدريب عملي طويل المدى، يصبح من بعده الفعل والقصد آنيين. فمن خلال الإعداد الحيوي الآلي (بايوميكانيك) الذي ابتكره مييرهولد، اكتسب الممثلون المدربون دقة شديدة في التفاصيل وتصميم الحركة. 
     ودعونا نتأمل بعض الأمثلة للتمارين المعدة لتجاوز الأفكار النمطية. فمن ناحية, من الممكن أن نطور أفعالا في المكان بإتباع خيوط القوة غير المألوفة في الحياة اليومية العادية. والمثال للتمرين الذي ابتكره مايكل تشيكوف، وهو ممثل، ومدرب ممثلين، وتلميذ لكل من ستانسلافسكي ومييرهولد. 
التمرين الأول: نفذ سلسلة واسعة من الحركات، باستخدام أقصى فراغ حولك. أشرك جسمك كله واستخدمه. افتح نفسك تماما مع مد ذراعيك ويديك، وساقيك متباعدين. ابق في هذا الوضع المتمدد لبضع ثوان. تخيل أنك أصبحت أكبر وأكبر. عد إلى الوضع الأصلي. كرر نفس الحركة عدة مرات. ضع في ذهنك هدف التمرين بأن تقول لنفسك: سوف أوقظ العضلات النائمة في جسمي. وسوف أعيد إحياءها واستخدامها. 
     من الناحية الأخرى، يستطيع الممثلون أن يهربوا من تلقائية الحياة اليومية بابتكار معادلات وبنيات دينامية موازية للفعل البدني الأول، ولكن لا تتطابق معه. وربما يطور الممثلون المقاومة من خلال ابتكار التعارضات. فالمقاومة تضخم كل حركة مما يمنحها المزيد من القوة والكثافة. فتصبح حركات الممثلين دقيقة ومشوقة وقابلة للفهم من جانب المتفرجين. 
      لا يحدد الشكل طبيعة أفعالي والتغير المقابل للتوترات في العمود الفقري، بل إن ما يحددها هو الإحساس والإيقاع والقصد. فمثلا إذا دفعت يدي نحو السماء، فليس من المهم أن تمتد ذراعاي فوق رأسي، ولكنهما يجب أن يتضمنا الضغط اللازم. 
     يفكر الممثلون من خلال توتر طاقتهم. يعد تدريب الممثلين جزءا من مجموعة واسعة من الأنشطة غير اليومية التي تعتمد على اكتساب أنماط حركية محددة مثل الرقص والجمباز وفنون القتال والرياضة عموما. ومع ذلك يختلف التعليم المسرحي عن الممارسات الأخرى نتيجة لدور الخيال في بناء الأهداف والعقبات والمواقف غير الحقيقية. والخيال هو الذي يسمح للمؤدين أن يتفاعلوا بشكل قابل للتصديق على خشبة المسرح : “ الفن نتاج الخيال ... ويجب أن يكون هدف الممثل استخدام تقنياته في تحويل الأداء إلى حقيقة مسرحية. وفي هذه العملية، يلعب الخيال الدور الأكبر إلى حد بعيد. فكيف يعمل خيال المؤدي المتجسد أثناء الدور ؟ 
ثانيا – الخيال الحركي والحضور : تخيل المقاومة والمواقف غير الحقيقية 
      يمكن أن يضع الممثلون عقبات داخلية أو خارجية مما يؤدي الى وقف الفعل بدلا من تطويره في الفراغ. وتخيل المقاومة  يجبر الممارسين أن يبتكروا بناءا ديناميا للتوترات التي إلى تنتمي مجال المسرح. 
     وسوف تشبه جهودك عمل المصمم الذي يرسم نفس الخط مرارا وتكرارا، سعيا الى شكل أوضح وأكثر وتعبيرية. ولكن لكي لا تفقد جودة الحركة تخيل أن الهواء من حولك هو الوسيط الذي يقاومك. 
     وبهدف تطوير تناغم حي بين القصد والفعل، يتضمن تدريب الممثل في مسرح أودين مختلف أنواع التمارين. فأثناء عرض “ آثار على الجليد “ تجسد روبرتا كاريري تمارين مبتكرة لهدم تلقائية الحياة اليومية لكي تكتسب حضورا مشهديا : “الحركة البطيئة هي مبدأ في العمل الذي يجبرني أن أتحرك ببطء. فأنا أنقل وزني بوصة تلو الأخرى. ويجب أن أفكر بجسمي كله حتى لا أسقط، ولكي أقدم حركة سريعة. ولكي أتحرك بثبات، يجب أن أتخيل أن الهواء يقاومني. وكأنني أتحرك في بحر من من الحجارة “. 
     بزيادة الجهد المطلوب للمحافظة على الحركة، يضخم الممثلون توتر العضلات، ويبتكرون خاصية الحضور الملحوظ حتى في مواقف السكون. ينتقل هذا التوتر إلى المتفرجين من خلال صور حركة المؤدي. وتقدم جوليا فارلي، وهي ممثلة في مسرح أودين وصفا لعدة صيغ لبناء المقاومة ودورها : “ لكي أبتكر مقاومة، فإنني أتحرك وكأني أمر في وحل، أو حائط من قوالب الطوب، أو مياه، أو حقل قمح، أو امتداد من الجليد الناعم، أو هواء صلبا، أو خلال بحر متلاطم الأمواج، أو هبوب ريح، أو مضرب تنس، أو انهيار أرضي. ويمكن أيضا أن يحيط بي عنصر المقاومة تماما ويجبرني أن أشارك بجسمي كله “. 
     يمتص المؤدون الفعل ويعيقون تحققه في الفراغ بابتكار عقبة. “ أحقق التعارض عندما أبني المقاومة. وتقول فيرلي “عندما أمشي يمكنني أضع مقاومة لخطواتي المتقدمة، وكأن شيئا يعيقني ويدفع قدمي إلى الخلف. فالقصد المزدوج – التقدم إلى الأمام والاحتجاز في الخلف – والتباين الناتج في التوتر يوضح نمط الحركة“ .
     وتسمح لنا الأمثلة من تدريب الممثلين أن نلاحظ بعض التقنيات النفسية خارج اليومية : تخيل العقبات الداخلية والخارجية، وتبديل التوازن وقانون التعارض، والحركة المستمرة. ونتيجة لهذه التقنيات المختلفة، يمكن إدراك زيادة الجهد العضلي بالنسبة للمتفرجين. ويوقظ تضخيم المؤدين للتوتر البدني انتباه المتفرجين وربما يشركهم في العالم الخيالي للأداء. وطبقا لافتراضات أنثروبولوجيا المسرح، فان بناء الحضور النابض لخشبة المسرح هو أحد المبادئ الأساسية في فن الأداء. 
.............................................
نشرت هذه المقالة في مجلة Society for Phenomenology and Media ( الصفحات 62- 69 ) 
رالوكا ومكان يعمل أستاذا جامعة Universite Paris-Est Creteil,  بفرنسا. 
 


ترجمة أحمد عبد الفتاح