الطاحونة الحمراء .. مولان روج

الطاحونة الحمراء ..  مولان روج

العدد 868 صدر بتاريخ 15أبريل2024

إنه لَتَحَدٍ كبير أن يُقدم مخرج مسرحي على مسرحة عمل سينمائي بالغ النجاح والشهرة والجودة الفنية بحجم فيلم مولان روج ـMoulin Rougeـ وخصوصا أنه فيلم موسيقي استعراضي ضخم شديد الإبهار وشديد الخصوصية بأجواء الكباريهات الباريسية الشهيرة ومن أشهرها على الإطلاق “كباريه الطاحونة الحمراء”، وفي فترة زمنية شديدة الخصوصية أيضا في مواكبة أحداثه للثورة البوهيمية الفرنسية في أواخر القرن التاسع عشر، ومما يزيد من صعوبة التحدي أن يتم إنتاج عمل كهذا بكل ما يتطلبه من إبهار في ظروف إنتاجية شبه محدودة للهيئة العامة لقصور الثقافة، فمبدئيا مجرد خوض هذه المجازفة وسط هذه التحديات هو أمر يُحسَب فنياً للمخرج (حسام التوني).
عالم العرض المسرحي هو الصخب وحياة الليل واللذة والشهوة والسلطة والثروة في مواجهة الحب والفن والحرية والثورة. حيث ينتقل كريستيان الشاعر الإنجليزي إلى باريس لمواكبة الثورة الفنية البوهيمية باحثًا عن مكان لأشعاره في سياقها، فيقابل مجموعة من الفنانين المغمورين البوهيميين بحكم ظروف حياتهم حيث يبحثون عن موضع قدم فنية في كباريه الطاحونة الحمراء الذي يرتاده علية القوم الأثريات،ويساعدونه في توصيل أحد مؤلفاته إلى “ساتين” نجمة الاستعراض في الكباريه، يقع كريستيان في حب الراقصة ساتين ويحاول تغيير نظرتها عن الحب، مما يثير غيرة الدوق الذي يسيطر على المكان وعلى مديره ويعتبر ساتين إحدى ممتلكاته فيبدأ في استخدام كل الأساليب للتفريق بينهما ، لكن الجميع يكتشفون مرض ساتين وأن حياتها أوشكت على الانتهاء خلال أيام او ساعات، وهي قصة تتماس بشكل ما مع قصة غادة الكاميليا.
يواجه العرض المسرحي مأزقاً كبيرا بالمقارنة مع امكانيات الإبهار الضخمة للفيلم في كل عناصره البصرية والذي ترشح لثمانِ جوائز أوسكار فاز باثنتين منها ونال جائزة جولدن جلوب وجوائز أخرى عديدة، وبالتالي اتجهت الرؤية الإخراجة للعرض المسرحي إلى خلق نقاط ارتكاز فنية أخرى موازية للإبهار البصري، فارتكز العرض المسرحي “الطاحونة الحمراء” والذي قُدِّم على مسرح قصر ثقافة روض الفرج على تقدم الدراما في مسارين متوازين مندمجين في تداخل فني بديع وممتع مابين النص المكتوب (الدراماتورج) وبين الأداء الغنائي للممثلين في عرض يغلب عليه طابع الميوزيكال.
فجاء البناء الدرامي قويا متماسكا في بناء الشخصيات وتصاعد الصراع بحبكة درامية قوية ومحكمة وحوار باللهجة العامية المبسطة في رشاقة وعمق فني خالٍ من الفزلكة وخالٍ من الخطابية والوعظية وخالٍ من الحكي ولايخلو من لمسات كوميدية راقية، حوار شاعري يليق بدراماتورج شاعر/ أحمد زيدان قادر على الدمج بين الحوار الدرامي والأغاني وتحديد مواضعها الدرامية بحساسية فنية مرهفة فتصبح الأغاني دافعة للدراما وليست مجرد حليات جمالية او تفسيرية إنما جاءت الأغاني من صلب البناء الدرامي فهي أغاني حوارية (تميل إلى أسلوب الريستاتيف في كثير من المواضع) . 
وحين تنصهر تلك الملامح الدرامية في القالب الغنائي والموسيقي من خلال الموسيقى الحية حيث الوجود المنطقي دراميا للفرقة الموسيقية ضمن أجواء الكباريه، فتدخل الألحان (لزياد هجرس) في تجانس هارموني مع ذلك النسيج الدرامي فتبحث عن دوافع الشخصيات وتغوص في أبعادها الدرامية وبحالتها الإنفعالية وتتلون بطبيعة المشهد المسرحي وضبط إيقاعه مع ماقبله ومابعده في طابع يتسم بالتعبيرية التي تفتح آفاقا ومستويات فنية أرحب فتصبح إضافة وطاقة دفع أصيلة لعملية التلقي المسرحي، وبذلك تدور عجلة الدراما بدفع طاقتي الحوار والموسيقى في تصاعد مستمر جذاب فلايشعر المتلقي بزمن العرض الذي يقارب الساعتين. 
فنجح العرض المسرحي في خلق بدائل درامية قوية فنياً بجانب عنصر الإبهار البصري الذي تصدرته الإضاءة المسرحية (أحمد أمين) برهافة ووعي فني فأخذت الطابع السينمائي في تحديد كادرات قريبة (بؤر ضيقة) مركزة تقتطع من الفراغ المسرحي مايناسب الحالات الخاصة للشخصيات لتكثيفها ولتكشف لنا عن صراعاتها الداخلية متوازية بذلك مع الحالة التعبيرية للموسيقى والأشعار، بالإضافة لنشر حالات الإبهار الضوئي الإستعراضي تماشيا مع أجواء صخب الكباريهات وبهرجتها، فساعدت على إبراز مواطن قوة الديكور(نهاد السيد) الذي ترك مساحة واسعة في الفراغ المسرحي ملتزما بوظيفة ترسيم المكان (صالة الكباريه) ورمزية بوابة الكباريه على شكل طاحونة ضخمة تتصدر المشهد الديكوري فتطحن من يدخلها ،وفي ملمح ديكوري آخر تم رفع مكان جلوس الدوق في مستوى أعلى من مستوى صالة الزبائن في طابع من الواقعية الرمزية الإجتماعية المتوازية مع مضمون الدراما التي تضعه في مكانة إجتماعية وسلطوية أعلى خصوصا مع تأكيد قربه المكاني من الكواليس الخلفية بما يتناسب مع طبيعته المتآمرة من خلف كواليس الأحداث، لكن الديكور تجاهل أحد أهم عناصر ترسيم المكان وهو خشبة المسرح التي تتم عليها إستعراضات الكباريه رغم أن الرواية التي ألفها كريست وتقوم بدور البطولة فيها ساتين ويمولها الدوق كانت هي رمزية الصراع وخلقت صراعا موازيا للصراع الحقيقي بين الشخصيات لذا كان من الأفضل إبراز مستوى مسرح الكباريه لخلق مسرح داخل المسرح وخلق مساحات درامية وبصرية أوسع للإستعراضات، وعدم وجوده أفقد العرض مسارت وإمتدادات ومستويات فنية أعلى دراميا بالتقطيع بين الحدثين، وجاءت الحركة المسرحية كعنصر بصري متأرجحة مابين التعبيرية الدرامية نابعة من وعاكسة للشخصيات والموقف الدرامي وبين الإستعراضية التعبيرية (محمد بحيري) متوازية مع الأغاني والموسيقى فدخلت ضمن النسيج المتآلف للرؤية الإخراجية للعرض، وبذلك إرتكزت الرؤية الإخراجية بصريا على الإضاءة والملابس والإستعراضات أكثر من عنصر الديكور الذي تأثر تأثرا واضحا بمحدودية الإنتاج، فنجحت العناصر البصرية (ديكور وإضاءة وملابس وإستعراضات) مجتمعة وبشكل مبهر وناعم في التداخل مع الحدث الدرامي فأصبحت جزءً لايتجزأ من النسيج الدرامي للعرض.
وجاء أداء الممثلين كأحد أهم مرتكزات العرض المسرحي وخلق تحدياً جديدا للمخرج والممثلين في القدرة على الدمج الناعم والسلس والموضوعي بين الاداء التمثيلي والغنائي والحركي بنفس الإجادة وتنوعت المناهج الأدائية للممثلين تنطلق من الواقعية لتحلق في فضاءات التعبيرية بكل ألوانها تعبيرية تمثيلية وغنائية وحركية وظهرت الأداءات التراجيدية والميلودرامية والكوميدية مما أطلق طاقة وحيوية في إيقاع العرض فنقلت عملية التلقي إلى مستويات وجدانية أعمق وأثرى وضاعفت من متعة التلقي ، فنجح العرض المسرحي في طرح مضامينه ورؤاه الموضوعية فنقلنا إلى عالم مليء بالصخب والبهرجة والبهجة الظاهرية ثم غاص في عمق هذا العالم لنكتشف أنه قابع على بركان صراعات إجتماعية وتناقضات فلسفية عميقة بين المثالية الطوباوية وصدامها مع المادية النفعية، الحب المثالي المتسامي وصدامه مع الحب الشهواني الغرائزي الإمتلاكي، بين الفن بروحانيته اللامحدودة والواقع بماديته الراكدة العَطِنة، بين الثورة بسعيها نحو الحرية والثروة بنفوذها السلطوي المستغل، صراعات تحمل في طياتها أبعاد طبقىة، فتلونت طرق الأداء التمثيلي بتنوع الشخصيات الدرامية وتصادم خطوطها الدرامية في ظل سخونة هذه الصراعات، وبوعي فني اختار المخرج منهج أداء كل شخصية بما يتوافق مع تركيبتها وأبعادها وقد أجاد كل الممثلين أداء أدوارهم تمثيلا وغناءً وحركة بدرجات متقاربة وهو ما ينم عن نقاشات طويلة بينهم وبين المخرج والدراماتورج أتت بثمارها الفنية في عرض مسرحي نجح في توصيل مضامينه بسهولة ومتعة درامية بصرية ونجح في جذب المتلقي دون الشعور بلحظة ملل، عرض ينم عن مخرج واعٍ فنيا نجح في تقديم خلطة فنية شديدة الحساسية في تتداخل عناصرها الفنية بقدر محسوب بدقة، مخرج قادر على المزج بين مفرداته وأدواته الفنية بحيث تتبادل هذه العناصر تصدر الحالة الدرامية للعرض في تنوع وتداخل ناعم وموضوعي وهارموني فني بديع نجح في خلق مسار فني مغاير عن الفيلم وخلق مساحات درامية جديدة وعميقة إستطاعت شحذ إيقاع العرض وإبعاده عن الرتابة ونجحت في إمتاع جمهوره دراميا وبصريا بشكل فني موضوعي .


أيمن غالى