اضحك لما تموت عرض ملغز ليس للفرجة والتسلية فحسب

اضحك لما تموت عرض ملغز ليس للفرجة والتسلية فحسب

العدد 551 صدر بتاريخ 19مارس2018

السهل الممتنع هو ما يجعلك تجلس في مقعد المشاهد مستمتعا لمجرد أنك تجلس في أهم وأعرق مسرح هو القومي، وأمامك نجوم كبار وتحبهم مثل نبيل الحلفاوي ومحمود الجندي، تتفاعل مع المباراة الفنية لهؤلاء النجوم وخفة ظل إيمان إمام، وتضحكك على إفيهاتهم، لكن بعد انتهاء العرض تجد نفسك تتساءل (هو إيه اللي حصل امبارح؟) وهي العبارة التي تكررت كثيرا على ألسنة أسرة الدكتور يحيى الذين رحلوا جميعا، وكيف تكون مذكرات الأب هي التي جعلت الابن يعتزل الحياة ويتحول إلى شخص عدمي، هي نفسها التي جعلت ابنه أي الحفيد يعارض أبيه وينزل إلى الثورة، إلى جانب الكثير والكثير من التساؤلات التي تجعلك تقرر أن تشاهد العرض مرة ثانية لتجد إجابات عن هذه الأسئلة الحائرة، وهو ما حدث معي تمامًا وبالفعل شاهدت العرض مرة ثانية، واستطعت فك هذه الطلاسم، فمبدئيا العرض تكمن جماهيريته في وجود نجوم محبوبة لدى الناس التي تذهب لمشاهدته، لكنه يحمل أفكارا لا تتسم بها العروض الجماهيرية، ففيه عمق فلسفي وتاريخ ومنطق ولا منطق وخيال ومعانٍ كثيرة، إن أردنا التعبير عنها في كلمة واحدة فتكون «لينين الرملي»، نعم هو كاتب له خصوصية، وهذا النص قد لا يكون أفضل نصوصه، لكنه عبر من خلاله عن مرحلة بها كل التناقضات والتضاربات والأفكار الثورية والعدمية، منها: مبارك لا بد أن يرحل، ومن غيره يصلح لإدارة البلاد، الثوار لهم مطالب لا بد وأن تتحقق، هؤلاء أولاد تافهون لا عمل لهم وسوف يتم القبض عليهم جميعا.. وهكذا إلى آخر الأفكار والآراء وتناقضاتها.
فهو عبارة عن مجموعة أفكار متوازية صاغها المؤلف بحرفية عالية، تحققت على أرض الواقع مع المخرج عصام السيد الذي تجمعه كيمياء خاصة بالمؤلف ويعي جيدا رؤاه ونجحا معا في ثمانية عروض مسرحية سابقة، وهذا العرض هو التعاون التاسع لهما معا.
أحداث العرض تسير في ثلاثة خطوط متوازية من العجز والفشل والانهيار يقطعها مكان وزمان واحد، المكان هو شقة تطل على ميدان التحرير والزمان يناير وفبراير 2011، والحدث ثورة 25 يناير.
الخط الأول يمثله الدكتور يحيى صاحب الشقة - ويجسد شخصيته نبيل الحلفاوي - الذي تدهورت أحواله المالية بعد وفاة زوجته، فاضطر لترك شقة الزوجية والعيش في شقة والده المغلقة منذ سنوات طويلة بعد رحيل الأبوين، يحيى الحامولي أستاذ التاريخ ويستنكر ذلك ويدعي أنه أستاذ فلسفة، حتى الساعة يرفض تشغيلها هربا من الشعور بالزمن ويعاني ألزهايمر أو النسيان المتعمد، مديون ويتهرب من الدائنين، ومصاب بجلطة وكانسر ويرفض العلاج لأنه رافض الحياة وبذلك يذهب للموت ولا ينتظره، يسخر من نفسه ومن كل شيء حوله، معتزل الحياة تماما ورافض بشكل قاطع فتح النوافذ، يرفض تذكر ماضيه وأمجاده ومقالاته ولقاءاته التلفزيونية، كان مع ثورة يوليو لكنه لم يتفاعل مع ثورة يناير.
الخط الثاني يمثله الفنان طاهر شريف الشهير بطاهر النص نص - ويجسد شخصيته محمود الجندي - الذي طلقته زوجته بعد أن استولت على كل أمواله وسافرت ابنته الوحيدة للخارج، وتسيطر عليه فكرة الانتحار ولم يجد مكانا ينتحر فيه فيفكر في صديقه القديم الدكتور يحيى فيذهب إليه، عاش في ماضيه قصص حب كثيرة: سنية ودولت وسوسن، لكنه لم يحب في حياته سوى حرية ابنة الجيران. الرسام الذي لم ينجح في فرض موهبته وعمل مصورا فوتوغرافيا وقد حقق منها مكاسب مالية، فكان المصور الخاص لكل من حكموا مصر، لكن اليوم أصبح يصور الجثث، يكره السياسة يرفض النقاش فيها، طاهر هاجر بعد معاهدة السلام وجمع الثروة التي استولت عليها زوجته، شارك في الثورة فقط بتصوير أحداثها ونشرها عالنت.
الخط الثالث تمثله شربات التي تعاني من مشكلة في النطق والخائفة دائما، مريضة بالتبول اللاإرادي الذي تسبب فيه الاعتداءات والتحرش الذي تعرضت له وتجسده الفنانة إيمان إمام - واضطرت لاحتراف البغاء حتى تستطيع العيش، يعطف عليها الدكتور يحيى ويستضيفها في شقته ويعتبرها ابنته.
اجتماع هذا الثلاثي في شقة واحدة وفي الظروف نفسها يغير مجرى الأحداث، فالصديق الذي هبط على صديقه فجأة بعد سنوات طويلة لينتحر في منزله يتراجع عن فكرة الانتحار حين يعلم بحالة صديقه المرضية ويقرر أن يظل معه ويرعاه، والدكتور يحيى حين يعلم برغبة صديقه في الانتحار يبحث عن حبيبته القديمة ويرسل إليها لتحضر لزيارتهما حتى يبعده عن فكرة الانتحار. وحين تأتي الحبيبة التي اعتقد كل منهما أنها تحبه وأسماها الدكتور يحيى حورية بينما طاهر كان يعتقد أن اسمها حرية، لتبلغهم أن اسمها الحقيقي حربية، وأنها لم تكن تحب أحدا منهما لكنها كانت تشاغلهما لتخفي حقيقة علاقتها بمسعود عضو الحزب الوطني الذي عُرف بسوء سلوكه، الذي تزوجته لكنه طلقها بعد أن هرَب كل أمواله المنهوبة للخارج وسافر، وهي الآن تستعد للزواج من شاب يصغرها عضو بجماعة الإخوان.
الصديقان اللذان استعدا لهذا اللقاء صُدما في شخصية المحبوبة الوصولية التي غير الزمن ملامحها فلم تعد الفتاة الجميلة التي أحباها فقاما بطردها. ثم قام طاهر بطرد شربات لخوفه على صديقه منها لاعتقاده أن بينهما علاقة خاصة، فيضطر يحيى للخروج من منزله والنزول إلى ميدان التحرير بعد العزلة الطويلة التي فرضها على نفسه للبحث عنها بعد أن يكشف حقيقة علاقته بها وأنه يعتبرها ابنته كما أنه يخاف من الوحدة.
تعود شربات من ميدان التحرير شخصية أخرى، متأثرة بما سمعته وشاهدته وبصحبة شاب مصاب لتداويه وتخفيه عمن يتتبعوه من أعداء الثورة ويريدون قتله، وبلقاء دكتور يحيى بهذا الشاب وبالتحول الذي طرأ على شخصية شربات، نجده يستعيد نفسه الضائعة رغم علمه بقرب الموت منه، فنجده يقول: «الدول اللي ملهاش تاريخ بتخترع تاريخ، المشكلة الرئيسية في التاريخ في إننا لازم نفهمه عشان نعمل بكره».
ويشجع الشاب الثوري على الزواج من شربات مدافعا عنها بأن فقد الشرف أعمق وأكبر من كونها ليست عذراء، ويعبر عن الأمل بعبارة: «شربات جايز تجيب عيال نوَره».
خطوط أخرى متوازية من العلاقات يتناولها العرض، منها: شخصية دكتور يحيى الذي كشفت له مذكرات والده أن التاريخ الذي قضى عمره في دراسته وتدريسه مزيف، فاختار الانسحاب من الحياة وفرض على نفسه العزلة، وشخصية ابنه الذي اختار أن يغير هذا التاريخ بنفسه بالنزول للثورة ويختفي بعد ذلك ولا يُعرف إذا كان على قيد الحياة أم رحل مع الكثير من شهداء الثورة ليكون المستقبل المجهول.
شربات التي مارست الرذيلة مرغمة عليها وأمل ابنة طاهر التي هاجرت واختارت بمحض إرادتها حياة العربدة.
هذه القراءة للعرض لم تجب على الأسئلة التي راودتني من قبل فحسب، بل طرحت أسئلة أخرى: ألم تكن مصر هي من تزوجت من الحزب الوطني ومن الإخوان وهي أيضا من يُطلق عليها حورية وحرية وحربية، وهل يُعقل أن تكون مصر فتاة لعوب تشاغل اثنين وتتزوج الثالث، وانتهازية فتتزوج من رجل المرحلة؟
وهل تصلح شربات الفتاة المغتصبة والمنتهكة رغما عنها التي تحولت إلى ثورية فجأة أن تكون مصر؟
وهل تعبر الجثة التي تسكن الثلاجة وتتجول أحيانا في الشقة عن الرئيس المخلوع أم تعبر عن المواطن المقتول منذ سنوات طويلة بالاستبداد والقهر والفقر والمرض...؟
في النهاية نحن أمام عرض ملغز ليس للفرجة والتسلية فحسب بل للتفكير وإعمال العقل.


نور الهدى عبد المنعم