حيث لا يرانى ..أحد

حيث لا يرانى  ..أحد

العدد 820 صدر بتاريخ 15مايو2023

 لا شك أن مسرح “نهاد صليحة” يعد نافذة هامة للعروض المسرحية، بموقعه الفريد فى مكان يجمع بين فئات إجتماعية ـ ومن ثم ثقافية ـ متباينة، كما تتجلى أهمية موقعه فى وجوده بمنطقة تقتظ بالسكان وسط دائرة يمتد محيطها من الجيزة حتى الهرم بعرض أحياء فيصل والهرم والعمرنية، وحتى المنيب، هذا إلى جانب تفرده بالنوعية المسرحية التى يقدمها، فمنذ إفتتاحه حرص مديره النشط المخرج ومصمم الديكور “محمود فؤاد صدقى» على أن يفتح أبوابه لكل التيارات المسرحية المختلفة، وحرص مديره كذلك على أن يكون المسرح نافذة متاحة للجميع، وفى مقدمتهم شباب المسرحيين الذين نراهم مرة من نوادى المسرح، ومرة من شباب المسرح المستقل، وثالثة من طلاب المعاهد الفنية بأكاديمية الفنون، وغير ذلك.... ومؤخرا عرض على خشبة مسرح “نهاد صليحة” العرض المسرحى المتميز “حيث لا يرانى أحد” وهو العرض الحاىز على عدة جوائز من مهرجان “القاعة» الذى أقامه المعهد العالى للفنون المسرحية، والعرض من تأليف وإخراج “محمود صلاح عطية” الطالب بمعهد فنون مسرحية الذى كتب النص وبناه على مجاز إستعارى ليصبح عقرب الثوانى بالساعة مقابلا لشاب يبدأ حياته، ويؤكد على منطقية ذلك المجاز الإستعارى فى ذلك التشبيه الذى يقدمه عقرب الثوانى وهو يتحدث عن نفسه وأشباهه متحسرا على عدم إنتباه أحد إليه فالناس فقط تتعلق عيونهم بعقربى الدقاىق والساعات فى حين أن عقرب الدقائق لا يتحرك قبل أن يلف عقرب الثوانى ستون لفة، وهكذا ومع ذلك لا يلتفت أحد إليه، ثم يقيم المؤلف / المخرج أحداثه الدرامية عبر عقرب للثوانى ظل عشرون عاما كاملة بين اللف بإنتظام كى يظل عائشا فهو يلف اليوم لكى يعش غدا... فمن هو عقرب الثوانى؟
هو ـ كما جاء فى نص العرض ـ عقرب “مصنوع فى أحد شوارع العاصمة الفقيرة” ظل يلف عشرون عاما كاملة دون توقف.. وعلى هذا الوصف إذ ما أعدنا المجاز الإستعارى ـ الذى استخدمه المؤلف ـ إلى أصله، ومددناه على إستقامته لوجدنا أننا أمام شاب فى العشرين من عمره تقدم لوظيفة القيام باللف طوال الوقت “دون توقف لمجرد أن يستطيع التقدم لخطبة محبوبته التى تلاحقه بضرورة الإلتحاق بوظيفة تجلب لهما دخلا ثابتا، وهو يفعل ذلك ـ مثله مثل كل نظراىه من ملح الأرض من أبناء الشوارع الفقيرة فى العاصمة ـ يرتضى هذا الشقاء اليومى الدائم، ويرتضى ألا يعيره أحد اهتماما أو يلتفت إليه ـ كعقرب للثونى ـ فالنالس لا تلتفت إلا لعقرب الساعات وعقرب الدقائق (كناية عن كريمة المجتمع والطبقة التى تليها من المتنفذين وأصحاب الياقات البيضاء) ورغم هذا الشقاء والمجهود المبذول طوال الوقت يظل ذهنه مشغولا بكفاية ما يتقاضاه من مرتب لمتطلبات حياته وزوجه، مما يعنى قلة ما يتقاضاه لقاء هذا الشقاء اليومى المستمر، وقد غامر من أجل الحصول على تلك الوظيفة بترك حبيبته دون وداع، إذن فنحن أمام أزمة شاب (يمثل جيلا بأكمله وفئة بأكملها) من الطبقة الفقيرة يقبل بأقل الأشياء كى يعيش غده، ويسلم نفسه لهذه الطاحونة اليومية من اللف، دون أن ينتبه إليه أحد، ويقوم المؤلف / المخرج بتعميق تلك المأساة التى يعيشها الشاب حين يربط بين العقرب القديم الذى توقف عن العمل المنتظم الدؤوب طوال عشرين عاما دون أن يحقق شيئ أو يستمتع بشيئ وأحاط نفسه بسياج الإستغناء، فلم يعد يذكر إذا كان أحب فتاة فى حياته أم لا، وليس له أصدقاء ويعيش منعزلا طوال حياته حتى عمل فى طاحونة اللف اليومية ليضمن فقط عيش غده الذى يفقده لو توقف اليوم عن اللف، يؤكد العرض بذلك التقابل بين جيلين على عمق مأساة الطبقة التى ينتمى إليها عقربى الثوانى (القديم والجديد) فنحن لسنا أمام مأساة طبقة فى ظرفية تاريخية معينة بل نحن أمام مأساة الطبقة ممتدة فى التاريخ، والمقدر لها بألا يلتفت إليها أحد رغم أهميتها فى العجلة المجتمعية ، إذ أن عقرب الدقائق لن يتحرك قبل أن يلف عقرب الثوانى ستون لفة، وعقرب الساعات لن يتحرك بالتالى قبل أن يتحرك عقرب الدقائق ستون لفة، وهكذا دواليك. والعرض فى إجماله صرخة غضب يتوجه بها ملح الأرض من المهمشين إلى المجتمع ولفت إنتباهه لضرورة الإلتفات إليهم وإلى أوضاعهم فهم الذين يقودون عجلة الدوران فى الساعة/ المجتمع حتى لا يصيبهم العطب والتوقف قبل الأوان فتتوقف معهم الساعة المجتمعية عن الحراك.
وعلى الرغم من أهمية الرسالة التى يتبناها العرض فقد طرحها دون صخب ، ودون مباشرة، وقد أحسن المؤلف/ المخرج فى إستعارته المجازية التى جعل عبرها عقرب الثوانى بديلا للشاب رافعا من خلاله قضيته، وقضية فئته كما نجح فى مجاز الساعة كرمز إنضباط المجتمع والذى يتوقف عن عمله لو توقف جزء صغير منه، وليؤكد المخرج على ذلك المجاز الإستعارى جعل من أرضية فضاء العرض ساعة كبيرة ومعظم الأحداث تدور داخل إطارها، كما عمد إلى أن يتحلق جمهور العرض حول تلك الساعة التى شكلت معظم الفضاء المسرحى، وكذلك رسم لساعة كبيرة على كلا الحائطين المتقابلين، ومن خارج الكواليس يأتى صوت صاحب ساعة جاء لإصلاح عطل بها، ويتجادل مع صاحب المحل حول سبب العطل، ويستطيع صاحب المحل أن يجد عقرب ثوانى جديد ليستبدله بالقديم الذى توقف عن الدوران، وهنا تبدأ أحداث العرض إذ نجدنا أمام عقرب ثوانى قديم يتحرك بصعوبة ويخبرنا أنه هكذا منذ عشرين عاما ، ويدخل عليه طالب وظيفة عقرب الثوانى الجديد، ويقبل لتلك الوظيفة إذ لم يتقدم إليها غيره، ويتمسك بها رغم كل تحذيرات العقرب القديم له بأنه لن يحقق منها شيئ، وستؤدى به إلى فراغ ووحدة موحشة.
ورغم أن هذه هى التجربة الأولى لـ “محمود صلاح عطية” سواء فى التأليف أو الإخراج إلا أنها تجربة تفصح عن مولد كاتب ومخرج موهوب وجاد يهتم بقضايا وطنه العامة وتؤسس واحدا من همومه، وعرف أن يبلور رؤيته الإخراجية فى هذا الشكل الجمالى الذى قدم به العرض، وعرف كيف يوظف عناصره المسرحية بشكل يخدم رؤيته بمعاونة “منى سامى” برؤيتها البصرية لديكور بسيط، ولكن تضعنا مفرداته فى إطار العرض بطبيعته الخاصة، وكذلك إضاءة “أحمد بيرسى» الذى أفاض فى استخدام اللون الأصفر الباهت مع كل مشاهد عقربى الثوانى (القديم والجديد) ليؤكد على ضياعهما وعدم تحققهما أو حتى الشعور بهما، والأداء العميق”بولا ماهر” كعقرب قديم للثوانى يكتفه فى الآداء قدمه وتعبه من اللف وإحباطه لعدم تحقيق شيئ ولعدم الإحساس به وبدوره الهام، وقد جسد “محمود بكر” دور العقرب الجديد فجاء ألأداء مليئا بالحيوية والنشاط المكتسبين من حداثة العقرب وغمره بالأمل، أما “ساندرا ملقى” التى قامت بدور الفتاةفقد عكست حيادية آدائها طبيعة دورها بين العقربين الجديد والقديم، والعرض إجمالا يستحق التحية لكل العاملين به وعلى رأسهم “محمود صلاح عطية”. 


أحمد هاشم