يوتيرن.. تكريس الأسطورة وتنميط صورة المرأة

يوتيرن..  تكريس الأسطورة وتنميط صورة المرأة

العدد 572 صدر بتاريخ 13أغسطس2018

يبدو من عنوان العرض أنه ثائر على المألوف؛ إذ إنه اختار أن يكون باللغة الإنجليزية، الأمر الذي لا يخلو من قصدية بكل تأكيد، ويأتي في إطار سياقات نصية تكشف عن طبيعة التعالق التي تتم بين العنوان ونصه، كما يشير الباحث المغربي محمد رشد في مدخله النظري لدراسة العنوان.
تدور أحداث العرض عبر ثلاثة عصور زمنية تلخص تاريخ الجنس البشري منذ بداية الخليقة حتى الآن، فالمشهد الأول يجسد بشكل حركي صراع قابيل وهابيل على المرأة وينتهى بمقتل الثاني ولنصبح نحن أبناء القاتل، وبعد ذلك ننتقل إلى عصر آخر لنتعرف على أسرة مكونة من أب وأم وابن وابنة وخادمة، الأب منشغل باختراع العجلة الذي يرى أنها ستنقذ البشرية, والأم بتربية الديناصورات والماموث، والخادمة بإغواء الزوج، والبنت بتلبية رغباتها الجسدية، والابن منشعل بالقتل ضد رغبة والده، ثم الأسرة نفسها في عصر آخر تشارك في مؤتمر للحيوانات الثديية، وقد أصبح الأب رئيسا لجماعة الثدييات التي تتحكم في بقية المخلوقات، وتظهر العرافة لتتنبأ بمستقبل الجميع، والابن ما زال يطارد أحد الزنوج لكي يستولى على كرسيه المتحرك، وينغمس الأب في ملذاته متناسيا أسرته بينما ما زالت الأم تحاول أن تحافظ على أسرتها وزوجها حتى وإن علمت بأنه على علاقة بامرأة أخرى، والابنة تحمل بشكل غير شرعي وتحاول إخفاء جريمتها، وتهطل الأمطار ثم تصبح سيولا وعندما يقتل الابن الزنجي تصبح طوفانا، ويتقاطع في كل مرة مع هذه الأحداث ثلاثة من المشخصاتية يلعبون أدوارا عدة، فمرة رواة الحدث ومرة يشاركون فيه كتصنيع مكشوف للعب المسرحي «المسرح داخل مسرح» Meta - Teatro، الذي أسسه بيراندلو وتأثر به كاتب النص ثورنتون وايلدر. وفي النهاية، نكتشف أن ما رأينا لم يكن إلا لعبة درامية أراد بها العرض أن يظهر لنا كيف عاش الإنسان رغم كل الصعاب والمصائب، وكيف قدر له أن يحيا دائما في صراع مع الموت والخطر، لذلك يجب أن يقاتل من أجل الحياة ليخلق عالما جديدا، بعد أن «نجونا بأعجوبة» وليس بفعل قصدي منا.
في مشهد الطوفان يستدعي الدراماتورج سامح عثمان مقاطع من قصيدة أمل دنقل (مقابلة خاصة مع ابن نوح) وهي: (جاء طوفانُ نوحْ!/ المدينةُ تغْرقُ شيئًا.. فشيئًا/ تفرُّ العصافيرُ، والماءُ يعلو/ على دَرَجاتِ البيوتِ/ الحوانيتِ/ مَبْنى البريدِ/ البنوكِ...) دون أن يتطرق إلى الجزء الأخير من القصيدة الذي يدهشنا فيه أمل دنقل بأن سبب رفض ابن نوح ركوب السفينة هو أنه يحب الوطن “قال لا للسفينة وأحب الوطن” وهذا هو دور المبدع حين يتناول الأسطورة أو التراث بشكل عام، فنحن لا نعيد إنتاج تراثنا كما هو، إنما الجدل مع التراث وإعادة قراءته وتأويله يعد بمثابة الروح التي تعيد له الحياة بنبض الوضع الراهن، حيث تغير في بنية التفكير، هذا إن كان هدفنا التغيير وبناء عالم جديد - كما يقول الرجل في النهاية - لكن ما قدمه العرض لم يكن إلا تكرارا ودورانا إلى الخلف، فحين يظل قابيل قابيلا وابن نوح هو ابن نوح كما نعرفهما، وحين يصبح الإنسان هو المسئول عن الكوارث، والمنقذ غائب، فلن نتغير وإنما سنظل ندور إلى الخلف.
لم يقدم المخرج سعيد منسي حتى نهاية العرض أي مبرر درامي لتسمية عرضه باللغة الإنجليزية، بل ولا لاستخدامه أكثر من مستوى لغوي داخل العرض – العامية المصرية وأغنية مايكل جاكسون.
يستحضر لدينا العرض مفهوم النص الغائب لدى جوليا كريستيفا حين يستدعي عددا من النصوص منها الأسطورة ونص أمل دنقل ومايكل جاكسون لتتفاعل مع النص الماثل (يوتيرن) وإن ظلت الغلبة والتجلي الأكبر والهيمنة لصالح الأسطورة وتكريسها.
العرض على المستوى الظاهري تجريبي، لا يحتكم إلى المنطق التقليدي في البناء، فالأحداث تسير بشكل غير منطقي، في تداخل زمني بين الماضي والحاضر، في المشهد نفسه الذي نشاهد فيه الإنسان البدائي نشاهد شاشة السينما والعجلة والملابس التي تجمع بين العالمين، الإضاءة والألوان البيضاء الباهتة للسحب المعلقة أعلى المسرح التي تعبر عن برودة العلاقات، ثم تعددها وتباينها في حالات الطوفان والحرب، وكذلك البيت الذي لا تستطيع أن تحدد كونه بيتا أم سفينة؟ كل هذه العلامات الدالة صاغت رؤية تشكيلية غرائبية، لكن البنية العميقة ظلت تحت أسر الماضي، فلم تنتج أي مستوى من الاكتشاف المنتظر من مثل هذه النوعية من العروض. يرى بارت أن على المخرج استغلال اعتباطية العلامة، وأن يلفت الانتباه لصنعته وهو ما وصفه “بناءو براج” بالقدرة التوليدية للعلامة المسرحية، التي لا يمكن أن تأتي إذا كنا نحيل الشيء إلى الصورة الفوتوغرافية المتعارف عليها، فقابيل هو القاتل ونحن أبناء القاتل، لا يتقبل كل منا الآخر ونخون ونقتل، ولعنة الدم تطاردنا ولن نتوقف عن إراقة الدماء، وسنظل دائما ندور إلى الخلف.. لهذا تبدو قراءة العرض للتراث قراءة أحادية تقلل من قيمته، بينما القراءة الجديدة - كما يقول عابد الجابري - تتحقق بتجليته وتحيينه Actualiser عبر ممارسة القراءة والفهم اللذين يجعلان النص حاضرا، وليس جعل الحاضر حاضرا في الماضي.
إن ما قدمه سامح عثمان الدراماتورج والمخرج السعيد المنسي هو رؤية مشوشة، تنادي بالتغيير والتجديد – وهو ما يطالب به الأب في ختام المسرحية - لكن العالم الجديد لا يبنى على الأسطورة ولا على تكريس صورة نمطية للمرأة، لأننا بهذه الطريقة نعيد بناء العالم القديم مرة أخرى. فالعالم الجديد لن يصنع إلا بخلخة هذا المخزون الثابت للأسطورة وللصور النمطية.
الممثلون حاولوا أن يسرعوا بإيقاع العرض وطبيعته التي يسيطر عليها الجمود، فمن خلال منطر مسرحي واحد كان مطلوب منهم أن يمروا بثلاثة عصور مختلفة، فكان أداء الرواة الثلاثة «ميشيل ميلاد، وريتا هاني، وإسلام علِي» أداء ديناميا قادرا على تحطيم حالة الجمود ببراعة، واستطاع شريف خير الله، في دور الزوج، الانتقال بين الشخصيات عبر العصور الثلاثة، وإن غلب عليه في بعض الأحيان الأداء «المونوتون» monotone فلم نرَ اختلافا كبيرا في أدائه للإنسان البدائي والإنسان في الوقت الحاضر، وكان أداء هايدي عبد الخالق «الزوجة/ حواء»، ربة المنزل القانعة، ممزوجا بحس كوميدي لطيف، كما أدت سوزان مدحت دور العرّافة بشكل نمطي معتاد، أما ريهام أبو بكر (الخادمة) فقد أدت دور الغواية/ الوجه الثاني للمرأة/ حواء بشكل مناسب جدا، واستطاعت أن تعبر عن الغاوية إيمائيا وحركيا بشكل جيد، خاصة في مشهد الأداء الحركي الذي صممه عمرو باتريك، وفي دور الخادمة كانت خفيفة الظل. وأيضا نرمين نبيل (الابنة/ الجيل الجديد من حواء) وهشام فهمي (الابن) جاء أداؤهما بعيدا عن طبيعة الدور، وكل منهما يحتاج دراسة أكثر للشخصية وخصوصا الثاني، فلو أن قابيل صاحب الجريمة الأولى كان هكذا لما حدثت الجريمة برمتها! فالتعبير عن الشر لا يعني أبدا الانفعال الخارجي والوجه العابث.
لعبت سينوغرافيا العرض من الديكور والملابس تصميم محمود غريب، وكذلك الإضاءة مع وموسيقى صادق ربيع، دورا بارزا في تفسير رؤية المخرج، حيث كان لكل منها دلالته التي تحول ذهن المتلقي إلى فاعل ومشارك حقيقي في فك شفرات الرسائل التي طرحها المخرج في العرض.


محمد زناتي