أزمة الدراما في المسرح بعد الدرامي (1)

أزمة الدراما في المسرح بعد الدرامي (1)

العدد 680 صدر بتاريخ 7سبتمبر2020

الدراما والمسرح: الملحمية – بيتر سوندي ورولان بارث:
لقد ألغى المسرح الحديث، كما لاحظ (بيتر سوندي) النموذج القديم في الدراما من وجوه مهمة. وهذا إذن يطرح سؤال: وما الذي يأخذ مكانه؟. وكان رد (سوندي) الكلاسيكي هو التنظير لأشكال النصوص الجديدة التي انبثقت مما وصفه «أزمة الدراما« باعتبارها متغير لنزعة ملحمية، وبالتالي تحويل المسرح الملحمي إلى نوع من المفتاح للعالم لفهم التطورات الحديثة. وهذه الإجابة لم تعد كافية. وفي مواجهة الميول الجديدة في الكتابة الدرامية منذ عام 1880، والتي تأملها (سوندي) في إطار جدلية الشكل والمضمون، فقد تعارض كتابه الشامل “نظرية الدراما الحديثة Theory of the Modern Drama“ مع نموذج الدراما النقية المثالية بميل مضاد بعينه . وبدون تفسير تقريبا، واستنادا إلى لجوئه إلى التعارض الكلاسيكي بين الملحمي والدرامي عند (جوته) و(شيللر) يقول (سوندي) في البداية :
 لأن الأعمال المسرحية الحديثة تتطور من الدراما نفسها وبعيدا عنهـا، فلا بـد من تأمـل هذا التطـور بمساعــدة مفهوم متباين :
 وسوف يخدمنا هنا المفهوم الملحمي. انه يميز خاصية بنيويــة مشتركة للملاحم والقصص والروايات والأنــواع الأخــرى – وتحديدا، حضور ما يشار إليه كموضـوع للشكـل الملحمي أو الأنا الملحمية .
وقد أدى هذا التباين إلى تضييق العديد من أبعاد التطورات المسرحية منذ الستينيات في القرن الماضي. وأحد العوامل المتفاقمة للقبول الذي لا جدال فيه تقريبا لهذا المفهوم للملحمي كخليفة للدرامي هو سلطة (بريخت) المهيمنة. ولفترة طويلة، كان هذا يعني أن عمله هو النقطة المرجعية الأساسية في النظر إلى جماليات أحدث في المسرح، وهو الظرف الذي أدى، رغم كل نتائجه المثمرة، إلى عقبات صريحة في الإدراك، وأدى أيضا إلى اتفاق متسرع للغاية حول المسائل المهمة في المسرح الحديث.
وحالة (رولان بارث Roland Barth) هي حالة كاشفة . أهتم بنفسه بالمسرح بين عامي 1953 - 1960، وعمل في فرقة مسرحية طلابية (هي فرقة داريوس وشارك في عرض «العواطف»). واستنارت كتاباته النظرية بالمسرح بعمق بصيغ تقليدية مثل «المشهد« و«العرض علي خشبة المسرح« والتمثيل، الخ . ولا تزال مقالاته عن بريخت – التي كتبها بعد جولة فرقة «برلينر انسامبل” في باريس عام 1954 – لا تزال تستحق القراءة اليوم. وقد تأثر (بارث) بهذه التجربة لدرجة أنه أعلن عن تردده في الكتابة عن أي نوع آخر من المسرح منذ ذلك الحين . وبعد هذا التوضيح الضافي لمسرح بريخت، لم تعد لدية رغبة في الكتابة عن مسرح أقل انجازا. لقد نشأ (بارث) في عشرينيات القرن الماضي مع ما يسمى مسرح الكارتل ( الذي أسسه جوفيه بتويف و باتي دولين ) الذي رأى فيه، بأثر رجعي، الوضوح العاطفي . وحتى في ذلك الحين، بدا هذا أهم بالنسبة له من عاطفية المسرح. مثل هذا التركيز علي العقلانية، وعلي المسافة البريختية بين العرض والمعروض، وما يتم تمثيله وطريقة التمثيل، وبين الدال والمدلول، والتي أظهرت إنتاجية دلالية ولكن عمى غريب أيضا . فلم يستطع (بارث) أن يرى كل تطور المسرح الجديد الذي أدى من آرتو وجروتوفسكي إلى المسرح الحي وروبرت ويلسون، برغم حقيقة أن تأملاته السيميوطيقية، علي سبيل المثال فيما يتعلق بالصورة، والحس المنفعل، والصوت .. الخ، وهي ذات قيمة كبيرة لوصف هذا المسرح الجديد تحديدا . وأصبح بريخت عائقا إدراكيا لـ(بارث). ويمكننا أن نقول إن الجماليات البريختية مثلت له – بشكل شامل ومطلق للغاية – النموذج الوحيد لمسرح المسافة الداخلية . إذ طغى هذا الضوء شديد السطوع علي احتمال وجود استراتيجيات أخرى مختلفة تماما للتغلب علي سذاجة الواقع الإيهامي والتعاطف النفسي (أو التقمص) والتفكير غير السياسي. وبعد بريخت، رأينا المسرح العبثي، ومسرح السينوغرافيا، ومكبرات الصوت، والدراماتورجيا البصرية، ومسرح الموقف، والمسرح المادي وأشكال أخرى. لم يعد تحليلها ينسجم مع كلمة « ملحمي«.
اغتراب المسرح والدراما:
بداية من كتابه «نظرية الدراما الحديثة« نفسه، وأكثر من ذلك في دراساته اللاحقة عن الدراما الغنائية، وسّع (سوندي) تشخيصه وعدل تفسيره الأحادي لتحول الدراما إلى الملحمية . ومع ذلك لا تزال مجموعة من التحيزات تعوق عملية الفهم التي تكون فيها ظواهر مثل الاتجاه الملحمي والغنائي هي مجرد لحظات : أعني تحديدا الذي أدى إلى الاغتراب المتبادل بين المسرح والدراما وفصلهما عن بعضهما البعض . وتتوافق عمليات انفكاك الدراما علي المستوى النصي الذي وصفه (سوندي) مع التطور باتجاه المسرح الذي لم يعد يقوم علي الدراما – سواء كانت (باستخدام تصنيف النظرية الدرامية) مفتوحة أو مغلقة، تسلسلية أو دائرية، ملحمية أو غنائية، وركزت علي الشخصية أو علي الحبكة. فالمسرح يوجد بدون الدراما . وما يوجد علي المحك في تطوير المسرح الجديد هي أسئلة مثل بأي طريقة وبأي عواقب تمزقت فكرة المسرح كتمثيل للعالم الخيالي عموما وحتى تم التخلي عنها تماما ؛ العالم الذي كان انغلاقه مضمونا من خلال جماليات مسرحه المتطابقة. بالتأكيد، حتى خلال العصر الحديث، كان المسرح الحديث بالنسبة لمحبيه الحدث الذي يلعب فيه النص الدرامي دورا واحدا – وليس الدور الأكثر أهمية غالبا – في التجارب المطلوبة . ومع ذلك، وعلي الرغم من كل التأثيرات الفردية المسلية للعرض علي خشبة المسرح، فقد ظلت العناصر النصية مثل الحبكة والشخصية (أو علي الأقل الشخصيات الدرامية) والقصة المؤثرة التي يتم سردها بالحوار في الغالب، هي المكونات البنيوية . وقد ارتبطوا بالكلمة الرئيسية « دراما» ولم يفصحوا فقط عن نظريتها بل أيضا أفصحوا عن توقعات المسرح . وهذا يفسر لماذا يواجه كثير من المتفرجين من بين جمهور المسرح التقليدي صعوبات مع المسرح بعد الدرامي، الذي يقدم نفسه كنقطة التقاء للفنون وبالتالي يطور – ويطالب – القدرة علي الفهم التي تنفصل عن النموذج الدرامي (والأدب بما هو كذلك). وليس من المستغرب أن يتآلف محبي الفنون الأخرى (الفنون البصرية والرقص والموسيقى) مع هذا النوع من المسرح أكثر من المتفرجين الذين يشاركون في السرد الأدبي.
الخطاب الدرامي
 لأسباب اصطلاحية أساسا، لن أتحدث عن الخطاب الدرامي كما يستخدمه (أندريه ويرث Andrzej Wirth)، علي الرغم من أنني أتفق كثيرا مع ملاحظاته الواضحة. إذ أكد علي مسرح يتحول إلى وسيلة، إن جاز التعبير، يوجه من خلاله «المؤلف» (المخرج) خطابه إلى الجمهور مباشرة. والنقطة البارزة في وصف (ويرث) هي أن هذا النموذج من الخطاب يصبح البنية الأساسية في الدراما ويحل محل المحادثة الحوارية. فلم تعد خشبة المسرح هي التي توظف باعتبارها «فضاء ناطق» (خطاب) بل إن المسرح ككل يوظف باعتباره كذلك أيضا. وهذا في الواقع يمثل تغييرا حاسما وبنية تتعلق، علي سبيل المثال، بمسرح روبرت ويلسون، وريتشارد فورمان و الداعين الآخرين إلى مسرح الطليعة الأمريكي. والتأثيرات الرئيسية لهذا التطور وفقا لـ(ويرث) هي ملحمية بريخت (نموذجه في «مشهد من الشارع» لا يحتوي علي حوار، وعدم اتساق الحوار في مسرح العبث، والأبعاد الأسطورية والطقسية في رؤية المسرح عند أرتو. وبالنسبة لـ(ويرث)، يشكل تفكك الحوار في نصوص (هاينر موللر) والحوار متعدد الأصوات في مسرحية (بيتر هاندكه) «كاسبار«، والتوجه إلى الجمهور مباشرة في مسرحيته «اهانة المشاهدين»، نموذجا جديدا في المسرح الملحمي. فهو يفهم مسار بريخت – أرتو- مسرح العبث – فورمان – ويلسون باعتبار أنه لغة شبة عابرة للدراما المعاصرة كخطاب درامي يؤدي إلى إعادة تعريف الممثل الذي يستخدمه المخرج باعتباره زرا في آلة اتصال المسرح:
 سمة نموذج المسرح الناشئ هي ملحمية جذريا. وفي هذا المســرح يبدو أن النموذج الدرامي يتحدث بدون حوار. والأدق أن نقول إنهم يتحدثون من خلال مؤلف النص، أو أن يمنحهـم الجمهــور صوتــه الداخلي .
كانت هذه الأطروحات من الدوافع المهمة في فهم مسرح الثمانينيات والتسعينيات، وحافظت علي الكثير من أهميتها. وفي نفس الوقت، لا يمكننا أن نتوقف هنا، ولاسيما منذ أن حدد (ويرث) أفكاره باختصار وفي شكل أطروحات . في البداية، يحتفظ نموذج الخطاب، وازدواجية وجهة نظره، ونقطة التلاشي، والمخرج كلي القدرة هنا والمشاهد الأناني هناك، بنموذج الترتيب الكلاسيكي للمنظور الذي كان سمة للدراما. ومع ذلك، غالبا ما ينفصل كلام الشخصيات المتعددة polylogue في المسرح الجديد عن ذلك النظام الذي يتمركز حول عقل واحد. فلم يعد من الممكن أن ننسب ببساطة ميل التطورات في مساحات المعنى ومساحات الصوت المفتوحة علي الاستخدامات المتعددة، إلى منظم واحد أو عقل واحد – سواء كان فرديا أو جماعيا. إنها، بدلا من ذلك، غالبا ما تكون مسألة حضور حقيقي للمؤدين الذين لا يظهرون علي أنهم مجرد حاملين لقصد خارجي – سواء كان ذلك ناتجا عن النص أو عن المخرج. فهم يتصرفون وفق منطقهم الجسدي في إطار معين: الدوافع الخفية وديناميات الطاقة وميكانيكا الجسم والحركة . ولذلك، من الصعب رؤيتهم كوسطاء لخطاب المخرج الذي يبقى بعيدا عنهم . (والحالة الخاصة هي المتكلمين في نصوص “هاينر موللر«، التي في غياب إعداد الشخصيات المستقل يجب أن تكون مفهومة كوسيلة نقل للخطاب). ويصدق هذا بشكل أكبر علي المخرج الكلاسيكي الذي يجعل المؤدين ينطقون خطابه، أو بالأحرى خطاب المؤلف، الذي يتعهد برعايته، وبالتالي يتواصل مع الجمهور . وقد ركز نقد أرتو للمسرح البرجوازي التقليدي علي هذا : أن الممثل هو فقط وسيط المخرج الذي يكرر فقط في المقابل الكلمة التي يحددها له المؤلف (المؤلف نفسه ملزم بالتمثيل وبالتالي تكرار العالم). هذا المسرح ذو المنطق المزدوج هو الذي أراد أرتو استبعاده . ولهذا علي أية حال، يتبعه المسرح بعد الدرامي: مسرح يريد أن تكون خشبته هي البداية ونقطة الانطلاق، وليس مكانا للنسخ transcription. وإذا فهمنا فقط أن «الخطاب dis-currere« يعني حرفيا «الانفصال running apart”، فهل يمكننا أن نتحدث عن خطاب المبدع فيما يتعلق بالمسرح الجديد . وبدلا من ذلك، يبدو أن حذف المصدر/الوساطة الأصيلة للخطاب الممزوج بتعدد إرسال الوساطات/المصادر علي خشبة المسرح هو الذي يؤدي إلى نماذج الإدراك الجديدة. وبالتالي، يتطلب نموذج الخطاب مزيدا من المواصفات لتطبيقه علي أشكال المسرح الجديدة . ومن المضلل، اصطلاحيا، أن نلتزم بمفهوم الدراما من خلال التحدث عن ‘الخطاب الدرامي’ بالتعارض مع الحوار. وبدلا من ذلك، يجب أن نفهم انفصال المسرح الأكثر تطرفا عن المفهوم الدرامي – الحواري بما هو كذلك. وبمعنى محدود للغاية يمكن وصف المسرح بعد الدرامي بأنه ملحمي بشكل جذري.
المسرح بعد بريخت:
يقول (أندريه ويرث):
لقد سمى بريخت نفسه اينشتاين الشكل الدرامي الجديد . وهذا التقييم الذاتي ليس من قبيل المبالغة إذا فهمنا الحقبــة التي صنعت نظريــة المسرح الملحمي علي أنها اختراع فعال ومؤثر للغاية. وقد أعطت هذه النظرية دفعة لذوبان حوار خشبة المسرح التقليدي لكي يتحـول الى خطاب أو حوار فردي solilogue. فنـظرية بريخــت تشــير ضمنا إلى أن المسرح كمقولة يتم التعبير عنه بمشاركــة متساويــة لعناصر لفظية وحركية (Gestus) وليس عناصر ذات طبيعة أدبية .
ومع ذلك، هل تأتي الدوافع المذكورة هنا من مسرح بريخت بالفعل أم لا بنفس القدر من الطعن؟ وهل يمكننا بدون إعادة قراءة نصوصه بدقة أن نفصل الابتكارات المؤثرة التي كتبها بريخت عن تقاليد مسرح القصص (مسرح الخرافة) التي لا يزال يبحث عنها كمسلمة والتي تنفصل عن المسرح الجديد؟. بهذه الأسئلة، تستطيع نظرية المسرح بعد الدرامي أن ترتبط بتأملات (ويرث) الواضحة للتراث البريختي داخل المسرح الجديد.
 لم يعد من الممكن فهم ما حققه بريخت من جانب واحد علي أنه إعداد ثوري مضاد للتقاليد . ففي ضوء التطورات الحديثة، يصبح من الواضح بشكل متزايد أن نظرية المسرح الملحمي، بمعنى ما، أنشئت تجديدا وتكملة للفن الدرامي الكلاسيكي. فقد تضمنت نظرية بريخت مقولة تقليدية للغاية: ظلت القصة عنده شرطا لا غنى عنه. ومع ذلك، لا يمكن فهم العناصر الحاسمة في المسرح الجديد من الستينيات إلى التسعينيات من وجهة نظر القصة – وليس من وجهة نظر الأشكال النصية لأدب ذلك المسرح ( بريخت وهاندكه وشتراوس و موللر وكين وغيرهم) . فالمسرح بعد الدرامي هو مسرح بعد بريختي Post-Brechtian Theater. مسرح يضع نفسه في مساحة مفتوحة بواسطة استفسارات بريخت في الحضور والوعي بعملية التمثيل داخل ما يُمثل، والاستفسار عن فن الفرجة الجديد (مشاهدين بريخت). وفي نفس الوقت يترك وراءه الأسلوب السياسي، والميل باتجاه العقائدية، والتأكيد علي العقلاني الذي نجده في المسرح البريختي؛ ويوجد في وقت ما بعد الصدق التأليفي في مفهوم بريخت للمسرح. ويتميز تعقيد هذه العلاقات بحقيقة أن هاينر موللر اعتبر روبرت ويلسون الوريث الشرعي لبريخت حين قال : « علي خشبة هذا المسرح، أصبح لدمية كلايست مكانا تلعب فيه، ولفن بريخت الدرامي مكانا يرقص فيه« .
التشويق المعلق:
يبدو أن المسرح والدراما وثيقا الصلة وشبه متطابقين في نظر الكثيرين (حتى بالنسبة للعديد من علماء الدراسات المسرحية)، فهما ثنائي متضام بشدة، إن جاز التعبير، لدرجة أنه برغم كل التغيرات الجذرية في المسرح ظل مفهوم الدراما فكرة معيارية كاملة في المسرح. عندما يميز الكلام اليومي الدراما والمسرح (سيقول المتفرجون بعد زيارة المسرح أنهم أعجبوا بالمسرحية وهم يقصدون الأداء، وهم علي أية حال لا يميزون بين الاثنين) فلن يكون ذلك بعيدا أساسا عن جانب كبير من النقد المسرحي. وهنا أيضا يديم اختيار الكلمات والمعادلة الضمنية أو الصريحة للمسرح مع الدراما المسرحية الافتراض الذي لم يعد دقيقا لهوية افتراضية لكليهما وبالتالي يحولها بشكل غير محسوس إلى معيار. ومع ذلك، فان اتخاذ هذا الموقف يهمش حقائق المسرح الحاسمة – وليس فقط حقائق المسرح المعاصر. فالتراجيديا القديمة ومسرحيات راسين والدراماتورجيا البصرية عند روبرت ويلسون هي كلها أشكال للمسرح. ومع ذلك، بافتراض الفهم الحديث للدراما، يمكننا أن نقول إن الشكل القديم هو «قبل درامي Predramatic”، وأن مسرحيات راسين بلا شك هي المسرح الدرامي، وأن مسرحيات روبرات ويلسون لابد أن تسمي «ما بعد الدراما« . وعندما يتضح أن المسألة ليست مجرد الإيهام المكسور أو المسافة الملحمية، وعندما لا تكون الحبكة ولا الشخصيات الدرامية المرنة مطلوبة ؛ عندما لا يكون الصدام الدرامي الجدلي للقيم ضروريا، ولا تكون الأشكال الدرامية ضرورية أيضا لتقديم المسرح ( وكل هذا يثبته المسرح الجديد بكفاءة )، فان مفهوم الدراما - مهما اختلف مفهوم محتواها – تحتفظ بهذا القليل من المادة التي تفقد قيمتها الإدراكية . فهي لم تعد تخدم هدف المفاهيم النظرية لشحذ الإدراك بل تعوق إدراك المسرح، ونص المسرح أيضا .
 من بين الأسباب التي تجعلنا مع ذلك نستمر في قراءة المسرح الجديد بالإشارة إلى تصنيف الدراما والتمايز عنها هو ميل الكتابات الصحفية النقدية اليومية للعمل وفقا لأحكام القيمة التي تحددها قطبية «هذه مسرحية درامية أو مسرحية مملة» . فالحاجة إلى الحدث الدرامي والتسلية والتحول والتشويق تستخدم القواعد الجمالية للمفهوم التقليدي للدراما، مع أن ذلك يتم دون وعي في الغالب، من أجل قياس المسرح الذي من الواضح أنه يرفض مثل هذه المطالب وفقا لهذه المعايير . فبينما افتتح عرض «عبر القرية : قصيدة درامية Across the Village: A Dramatic Poem” تأليف بيتر هاندكه في قاعة مسرح (سالزبرجر فيلزينرتشول) عام 1982، تضرر النقاد من عدم وجود صراع تراجيدي ديونيسي واضح فيها (فالمسرحية مكتوبة للقراءة الهادئة)، وقد امتدح ( أورس جيني ) عرض مسرح هامبورج التالي الذي قدمه (نيلز بيتر رودولف) لأنه كشف عن دراما مشوقة في القصيدة . وقد صُممت خاصية عرض هامبورج – وهو الوحيد الذي أعرفه – بإيقاعه المتميز لكي يحمل الشكل الكبير الذي صممه هاندكه . وعلي أي حال، لم يكن المؤلف بالتأكيد معنيا بكتابة دراما مشوقة . إذ يقال انه حتى في التحليل الأكاديمي لهذه الحالة، ان المعيار نفسه يظل صحيحا ودون اعتراض كمسألة واقعية . و بمعيار التشويق، يستمر الفهم الكلاسيكي للدراما، أو بمعنى أدق يستمر مكون معين فيها . فالتوضيح وتصاعد الحدث والمغامرة والذروة، هي علي ما يبدو طراز قديم، وهذا ما يتوقعه الناس من القصة المسلية في السينما والمسرح .
 لا يجب الخلط بين حقيقة أن الجماليات الكلاسيكية – وليس فقط المسرح – تملك مفهوم التوتر الدرامي، مع التشويق المثالي في عصر وسائل الإعلام الذي يبدو أمرا طبيعيا، علي الرغم من جميع تقنيات المحاكاة، . وهنا لا يتعلق الأمر بأي شيء غير “المحتوى“، فهناك منطق للتوتر والتحرر منه، والتشويق بمعنى التوتر الموسيقي والمعماري والتركيبي عموما . وفيما يتعلق بالمسرح الجديد، تؤدي الدراما / التشويق المركب إلى أحكام هي عبارة عن تحيزات. وإذا فهمنا النصوص والمعالجات المعروضة علي خشبة المسرح وفقا لنموذج الفعل الدرامي المشوق والحالة المسرحية للإدراك، وتحديدا الخاصيات الجمالية للمسرح كمسرح، فإنها تتلاشى في الخلفية: الحاضر الحافل بالأحداث، الدلالات المحددة للأجسام، الايماءات وحركة المؤدين، البنية التركيبية والشكلية للغة، وخصائص البصري فيما وراء التمثيل، والمعالجة الموسيقية والإيقاعية المتزامنة، الخ. هذه العناصر (الشكل)، رغم ذلك هي الموضوع في كثير من أعمال المسرح المعاصر – العناصر المتطرفة في كل الأحوال – لا تستخدم كوسيلة خاضعة فقط لتوضيح حدث درامي محمل بالتشويق .
أي نوع من الدراما!!
تخلق اللغة العامية أيضا توقعات تميل إلى التحكم في التلقي . فحين يقول الناس «تلك كانت دراما «، وهم يشيرون إلى موقف أو حدث كان غريبا أو مثيرا في الحياة اليومية . الإثارة والحدث هما دلالتان في هذا العالم. وحين يقول قارئ الأخبار أن النزاع الدرامي انتهى بدون إراقة دماء. فانه يقصد أن يقول أن نتائج الأحداث لفترة طويلة كانت غير مؤكدة، وخلقت تشويقا دراميا فيما يتعلق بالمزيد من التطورات والنهاية . وهذا ما تعنيه كلمة درامي عندما تضاف إلى حدث أو فعل أو طريقة تمثيل. وعندما تعلق أم علي معاناة طفلها الذي لم تسمح له بالذهاب إلى السينما بقولها «يا لها من دراما!« فان الكلمة تفصل الحدث وتردده بسخرية لتفاهة السبب. ومع ذلك، لا نزال نجد تشابها فعليا مع الدراما هنا: وهو المعاناة، وعلي الأقل الإحباط، بقدر ما هو – معبر تماما – عن إظهار المشاعر كرد فعل للرفض. هناك نقطتان مهمتان في الاستخدام اليومي . فهي تركز، من ناحية، علي الجانب الجدي للمسرحية الدرامية التي يشكل نموذجها الخلفية . فالناس تقول أن هناك شيئا دراميا وهم يقصدون أن الموقف جدي . ولا نتحدث هنا عن التشابكات الكوميدية في الحياة باعتبارها دراما (ربما يرجع ذلك إلى حقيقة أنه منذ القرن الثامن عشر كانت كلمة «Drame وDrama” شائعة في الاستخدام في الترجيديا البرجوازية الجادة) . ومن الناحية الأخرى، من المثير أن نلاحظ أن الاستخدام اليومي العادي للكلمة ينقصه تقريبا كل الإشارة إلى النموذج الأساسي للدراما، التي دلل عليها هيجل بمصطلح «التصادم الدرامي Dramatic Collision”، والذي بشكل أو بآخر في صميم كل نظرية للدراما . وطبقا لهذا المفهوم المنسوب إلى هيجل، فان الدراما هي صراع المواقف الأخلاقية، والتي يتميز فيها الشخص الدرامي بعاطفة موضوعية، بمعنى أنه يسعي لتأكيد صحة موقفه وقبله بشغف علي حساب الذات في مجملها . هذا النوع من العداء الدرامي قد جعل نفسه محسوسا بالكاد في استخدام اللغة اليومية . ويسمي الناس أيضا البحث الطويل عن حيوان أليف مفقود «دراما«، رغم عدم حدوث أي تناقضات أو مواقف عدائية . يبدو أن كلمتى «دراما« و«درامي» في لغة الحياة اليومية مرتبطة بالجو العام بشكل أكبر، وشعور بقلق الإثارة الشديدة وعدم اليقين أكثر مع بنية الأحداث .
المسرح الشكلي والمحاكاة:
أمام لوحات جاكسون بولوك أو بارنيت نيومان أو ساي تومبلاي يفهم كل مشاهد علي الفور أننا نستطيع بالكاد أن نتحدث عن محاكاة واقع مسبق الوجود هنا . وهناك بالتأكيد محاولات نظرية مغامرة – علي سبيل المثال في القرن الثامن عشر – لإنقاذ مبدأ المحاكاة حتى في الموسيقى، علي سبيل المثال، من خلال فهمه علي أنها محاكاة للتأثيرات . وسعى المنظرون الماركسيون إلى إنقاذ مبدأ الفن كانعكاس أو مرآة للواقع بالنسبة لفن الرسم غير التمثيلي . وعلي الرغم من أن التأثيرات والحالات الذهنية ليست سمعية أو بصرية، وبالتالي فان إشارة الإبداع الجمالي إليهما هي أمر شديد التعقيد – مجرد نوع من الإشارة. فمنذ بداية الحداثة، رفض العمل الفني المرسوم التمثيل وبات واضحا أنه يجب أن يُفهم باعتبار أنه يفرض واقعا جديدا بذاته؛ كإيماءة وعصب؛ وبيان يؤكد وقعه الخاص؛ وكأثر أقل واقعية وحقيقة من بقعة الدم؛ أو جدار مطلي حديثا. وفي هذه الحالات تحتاج التجربة الجمالية أن تعكس المتعة البصرية، والمعايشة الواعية للإدراك البصري بشكل بحت (أو بشكل مهيمن) وتجعلها ممكنة بما هي كذلك، مستقلة عن أي إدراك للحقائق الممثلة. وقد اعتبرت هذه النقلة في مجال الفنون البصرية نتيجة ضائعة. ورغم ذلك، في مواجهة الفعل علي خشبة المسرح، وحضور المؤدين من البشر، يتضح لنا أن النظرة الثاقبة في حقيقة وشرعية المجرد عي الأصعب. إذ يبدو أن الإشارة إلى السلوك البشري الواقعي في المسرح هي إشارة مباشرة . ولهذا السبب يعد «الفعل التجريدي« هنا تطرفا فقط – وبالتالي لا يكاد يذكر في تعريف المسرح. ومع ذلك، أجبرنا مسرح الثمانينيات، علي أقصى تقدير، أن نقول، وفقا لمصطلحات مايكل كيربي، إن الفعل المجرد، والمسرح الشكلي، حيث تحل عملية الأداء محل التمثيل المحاكي – وذلك المسرح بنصوص غنائية، حيث لا يتم تقديم حبكة فعليا فيها – لا يمكن أن يوصف بأنه متطرف ولكنه بعد أساسي في واقع المسرح الجديد. فقد ولد من قصد مختلف عن الرغبة في التكرار والمزاوجة – رغم تباينه وتكاثفه وتكوينه فنيا – من واقع آخر . وهذا التحول في حدود الوسائط يزيح الدراما ذات الحبكة من التمركز الجمالي للمسرح – علي الرغم بالطبع من تمركزها المؤسسي حيث ما تزال الدراما التقليدية متجذرة بقوة .
محاكاة الفعل:
يزاوج أرسطو في كتابه فن الشعر بين الفعل والمحاكاة في الصياغة الشهيرة التي تقول إن التراجيديا هي محاكاة الفعل البشري، وهو ما يقيس الممارسة . وكلمة دراما مشتقة من الكلمة اليونانية «dran” بمعنى يفعل. وإذا فكرنا في المسرح باعتباره دراما ومحاكاة، عندئذ يقدم الفعل نفسه تلقائيا باعتباره الموضوع الفعلي ونواة المحاكاة . وقبل ظهور السينما، بالطبع، لم تكن هناك أي ممارسة فنية تحتكر هذا البعد بشكل معقول : وهي المحاكاة التمثيلية للفعل الإنساني. ومع ضرورة معينة، يبدو أن التأكيد علي الفعل يستلزم التفكير في الشكل الجمالي للمسرح كمتغير يعتمد علي واقع آخر – السلوك البشري والواقع الخ. وهذا الواقع يسبق دائما المسرح المزدوج باعتبار أنه أصلي . وبتثبيتها في البرنامج المعرفي « الفعل/المحاكاة « فان هذه النظرة تفتقد نسيج الدراما المكتوبة بقدر ما تقدم نفسها للحواس كفعل تقديمي، لكي تؤمن نفسها فقط من المحتوى الممثل (المفترض) والدلالة وأخيرا المعنى والإحساس .
 وبينما لم تتخل جماليات الدراما، لسبب وجيه، عن مفهوم الفعل كموضوع للمحاكاة، فان حقيقة المسرح الجديد تبدأ بالتحديد بتلاشي وحدة الدراما، والمحاكاة والفعل. وهي الوحدة التي يتم فيها التضحية بالمسرح من أجل الدراما، والدراما من أجل الدرامي، وأخيرا الدرامي – الحقيقي في انسحابه المستمر – من أجل مفهومه . وبدون أن نحرر أنفسنا من هذا النموذج، فلن نستطيع أن نفهم الى أي مدى يتشكل ذلك الذي نفهمه ونشعر به في الحياة ويتم بناءه بواسطة الفن: يتشكل ويتم بناؤه عن طريق الرؤية والشعور والتفكير، فوسائل المعنى (نوع من الرأي عند بنيامين) تصاغ بواسطة الفن وفي الفن – لدرجة أننا يجب أن نعترف بأن واقع عالمنا التجريبي قد نشأ الي حد كبير باعتبار أنه في المقام الأول . اذ يجب أن نتذكر فقط أن الصياغات الجمالية عموما (باستعراض الشبكات المفاهيمية) تبتكر صورا وعوالم متباينة من التأثيرات أو المشاعر التي لم تكن موجودة بهذه الطريقة قبل تمثيلها الفني في النص أو خارجه أو في الصوت أو في الصورة أو المشهد . وبغض النظر عن الإيماءات المتحدية والمتمردة والمبتذلة والعاطفية الأخرى التي يجدها المستمع مشكلة وموحدة في سيمفونية بيتهوفن، ولم تكن موجودة حتى في هذا الابتكار الفريد لتنظيم الصوت . فالعواطف الإنسانية تحاكي الفن والفن بدوره يحاكي الحياة . وقدم فيكتور تيرنر التمييز المهم بين الدراما الاجتماعية التي تحدث في الواقع الاجتماعي، وما سماه الدراما الجمالية، من أجل إظهار كيف تعكس الأخيرة البنية الخفية للأولى . وأكد، رغم ذلك، أنه علي العكس، تقدم المفاهيم الجمالية للصراعات الاجتماعية بدورها نماذج لتصورها وهي مسئولة جزئيا نماذج الطقوس في الحياة الاجتماعية الحقيقية . وجادل بأن الدراما المكونة جماليا تنتج صورا، وأشكالا مبنية للتطور ونماذج ايديولوجية تمنح النظام للاجتماعي، وتنظيمه ومفهومه .
.................................................................................
هذه المقالة تمثل الفصل الثاني من كتاب «هانز ثيز –ليمان» (المسرح بعد الدرامي Postdramatic theater) الصادر عن روتليدج عام 2006 . 


ترجمة أحمد عبد الفتاح