من تاريخ المسرح العالمي الطبيعية: إميل زولا وأندريه أنطوان

من تاريخ المسرح العالمي  الطبيعية: إميل زولا وأندريه أنطوان

العدد 782 صدر بتاريخ 22أغسطس2022

إميل زولا ودعاة الطبيعية في فرنسا 
عندما كان إبسن يكتب مسرحياته النثرية في النرويج، كان دعاة الطبيعية الفرنسيون الذين عملوا بشكل مستقل تماماً يتطلعون من جانبهم إلى دراما جديدة أيضاً. فقد اعتبروا أن الوراثة والبيئة عاملين حاسمين في قدر الإنسان ومصيره. واستند هذا الفهم، جزئياً على الأقل، على كتاب تشارلز داروين أصل الأنواع (1859). 
حيث طرح داروين في هذا الكتاب فرضيتين رئيسيتين هما: (1)  أن كافة أشكال الحياة تطورت تدريجيا عن أصل مشترك و(2) أن تطور الأنواع يفسره «البقاء للأصلح». هذه الفرضيات كان لها العديد من الآثار الهامة، فهي تعني ضمناً أن الوراثة والبيئة هما أهم العوامل الأولية العارضة. ثانياً، أن السلوك البشري عندما ينظر إليه كنتاج للقوى الوراثية والبيئية، أصبح يبدو نتيجة لعوامل خارجة إلى حد بعيد عن سيطرة أي فرد؛ وهذه المسؤولية الجزئية على الأقل عن السلوك غير المرغوب فيه يجب أن تكون مقبولة من قبل المجتمع الذي سمح بوجود العوامل الوراثية والبيئية السلبية. وثالثا، عززت نظريات داروين فكرة التقدم، فإذا كان البشر قد تطوروا من ذرة الوجود إلى المخلوقات المعقدة التي هم عليها الآن، تبدو زيادة التعقيد والتحسن حتمية. ومع ذلك، قيل إنه يمكن التعجيل بالتقدم المحرز من خلال التطبيق المتساوق للمنهج العلمي والتكنولوجيا الجديدة. رابعا، تم استيعاب البشر ضمن الطبيعة. فقبل القرن التاسع عشر كان البشر قد تم تعيينهم بعيداً عن بقية الطبيعة باعتبارهم متفوقين عليها. أما الآن فقد تنازلوا عن وضعهم المتميز.
وبسبب الظروف الاقتصادية والسياسية المعاصرة اجتذبت الطبيعية أيضا عدداً من الأنصار. فقد كانت الحرب الفرنسية البروسية 1870-1871 ضربة قوية لكبرياء فرنسا، ليس فقط بسبب هزيمة فرنسا في تلك الحرب، وإنما لأنها فقدت الألزاس ولورين لصالح ألمانيا وكانت الحرب نهاية لإمبراطورية نابليون الثالث. في باريس تأسست كوميونة باريس أو ما يعرف بالثورة الفرنسية الرابعة لكنها سرعان ما سقطت وعادت فرنسا جمهورية مرة أخرى. أكدت الحرب وتبعاتها أن المزايا التي تمتع بها العمال قليلة جداً، وخلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بدأت الاشتراكية تتلقى التأييد في أنحاء أوروبا بعد إيمان الكثيرين بأن هذا الشكل من التنظيم الاجتماعي بإمكانه وحده أن يكفل المساواة للجميع. دفعت هذه الضغوط حكومات أوروبية عديدة إلى تبني دساتير.  وبحلول عام 1900 كانت دول أوربا الكبرى عدا روسيا لديها حكومات دستورية بدرجة ما.  وهذا الاهتمام بالطبقات العاملة وحقوق الناس العاديين ساعد في تسليط الضوء على الطبيعية. كوسيلة للتعامل مع المشكلات المعاصرة، اعتبر العلم والتكنولوجيا الأدوات الرئيسية، وجادل دعاة الطبيعية بأن كافة المشكلات الاجتماعية يمكن حلها فقط بتطبيق الأسلوب العلمي بشكل منهجي.    
ظهرت الطبيعة كحركة واعية لأول مرة في فرنسا في سبعينيات القرن التاسع عشر. وكان اميل زولا (1840-1902)، المتحدث الرئيسي لها، من المعجبين بأوجست كونت وداعية للمنهج العلمي كمفتاح لكل الحقيقة والتقدم. مؤمناً بأن الأدب يجب إما أن يكون علميًا أو يموت، قال زولا بأنه يجب أن تصور الدراما مثل «قوانين الوراثة والبيئة الحتمية» أو سجل «دراسات الحالة». لقد تمنى أن يلاحظ الكاتب المسرحي في بحثه عن الحقيقة، وأن يسجل و«يجرب» بنفس التجرد الذي يبديه العالم. وقارن زولا بين الكاتب وبين الطبيب الذي يبحث عن أسباب مرض ما حتى يمكن علاجه، وليس للتستر على العدوى ولكن القاء الضوء عليه بحيث يمكن فحصه. وبالمثل، يجب أن يصور الكاتب المسرحي العلل الاجتماعية حتى يمكن تصحيحها. وبالإضافة إلى ذلك، جادل زولا بأنه يجب إعادة إنتاج الأحداث على خشبة المسرح بالدقة الكافية لإثبات العلاقة بين السبب والنتيجة.
وجاء أول بيان رئيسي لزولا عن المذهب الطبيعي عام 1873 في مقدمة إعداده الدرامي لروايته تيريز راكان؛ ثم قام بتطوير آراء في كتب الطبيعية في المسرح Naturalism in the Theatre (1881) والرواية التجريبية The Experimental Novel (1881).
 كان بعض أتباع زولا كذلك أكثر راديكالية مما كان عليه في مطالبهم بالإصلاح المسرحي، بحجة أن المسرحية يجب أن تكون فقط «شريحة من الحياة» تنتقل إلى المسرح. ولذلك، في خضم الحماسة لتقريب الحقيقة العلمية، غالبًا ما تم طمس كل الفروق بين الفن والحياة عملياً.
وكان المذهب الطبيعي، مثل العديد من الحركات السابقة يعوقه نقص المسرحيات الجيدة التي تجسد مبادئه. على الرغم من أن بعض المسرحيات مثل هنرييت مارشال (1863) التي كتبها إدموند وجول جونكور Goncourt. ثم عرضت L’Arlesienne (1872) التي كتبها الفونس دودية Daudet، لكن بلا أثر يذكر. حتى رواية زولا تيريز راكان نفسها فشلت في الالتزام بمبادئ زولا الحاسمة إلا من حيث المنظر المسرحي، لأنها بدلاً من أن تكون شريحة من الحياة كانت أقرب إلى ميلودراما عن الجريمة والعقاب.
ومن المفارقات أن هنري بيك Becque (1837-1899) هو من استحوذ تقريبًا على المذهب الطبيعي في فرنسا، على الرغم من أنه وزولا كانا يكنان نفس القدر من الازدراء لبعضها البعض. تصور النسور The Vultures (1882) فرار أفراد عائلة على يد أصدقائهم المفترضين بعد وفاة الأب؛ لا يوجد شخصيات متعاطفة. والخاتمة متشائمة وساخرة، وليس هناك ذروة واضحة، إنما هنالك فقط التقدم ببطء نحو النتيجة الساخرة أما الباريسية (1885) فتصور زوجة تعتبر خيانتها الزوجية رشوة تقدمها من أجل دفع زوجها قدماً في عمله. في هذه المسرحيات، ارتقى بيك بالنزعة الطبيعية الفرنسية إلى أعلى نقطة.
لقد قدمت النسور The Vultures فرقة الكوميدي فرانسيز، معقل المحافظين، مما يوحي ظاهرياً إلى أنه بحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر كان المذهب الطبيعي مقبولاً بالكامل في باريس. لكن مسرحية بيك تم إخراجها بشكل غير مؤثر، لأنه رفض الامتثال لطلب الفرقة للمراجعات التي كان من شأنها أن تجعل العمل أقرب إلى التوافق مع الذوق المعاصر. لأن كل الدراما الطبيعية تقريبًا التي تلقت جلسة قراءة لم تخرج على خشبة المسرح بصورة مرضية، لم تتغير المواقف السائدة لكل من الجمهور والمسرحيين. كانت هناك حاجة إلى خطوة أخرى من أجل إحداث تغيير كبير في المستقبل.
وكان أندريه أنطوان هو من أضاف هذا العنصر الجديد في المسرح الحر فيما بعد 1887، حيث توحدت الكتابة والإخراج في المذهب الطبيعي لأول مرة.

أندريه أنطوان والمسرح الحر
بدا أندريه أنطوان (1858-1943) في عام 1887مصدر غير واعد أبدا للثورة، اذ كان مجرد كاتب في شركة غاز، وكانت خبرته المسرحية تقتصر على نشاطه التمثيلي مع الفرق الاحترافية الباريسية والظهور من حين لآخر مع فرقة من فرق الهواة (التي كانت باريس تزدحم بها). وعندما سعى أنطوان لإنتاج برنامج مسرحيات جديدة تشمل مسرحة لرواية جاك دامور من تأليف زولا، رفضت فرقته من الهواة، فانطلق أنطوان للعمل خارج نطاق الفرقة.
بحثا عن اسم لفرقته، تبنى أنطوان اسم المسرح الحر Théâtre Libre. وكان نجاح البرنامج الأول سبباً في حصوله على تأييد زولا وغيره من الشخصيات المؤثرة الأخرى. وحضر برنامجه الثاني كبار النقاد المسرحيين الذين كتبوا مراجعات مطولة لعروضه. وقبل نهاية عام 1887، كان أنطوان قد ترك وظيفته ككاتب، حيث كرس حياته للإنتاج المسرحي بعد ذلك حتى عام 1914.
كانت الفرقة تعمل بنظام الاشتراكات، أي أنها كانت للأعضاء فقط وبالتالي كانت معفاة من الرقابة. نتيجة لذلك، كانت العديد من المسرحيات المتاحة لأنطوان هي تلك التي رُفض الترخيص بعرضها، وكانت في معظمها طبيعية. واستمد المسرح الحر الكثير من سمعته من المسرحيات التي كانت فيها المبادئ الأخلاقية المعتادة معكوسة ومقلوبة، وكثير منها كان شديد التطرف بحيث صدم حتى جمهور أنطوان المتسامح. لقد اكتسب المذهب الطبيعي سمعة بالفساد بسبب تلك الأعمال، لكن الشعبية التي حققتها تلك الأعمال مهدت الطريق تدريجيًا لمزيد من الحرية في المسارح القائمة والمحافظة.
وفي عام 1888 بدأ أنطوان أيضًا في إنتاج عمل أجنبي واحد كل عام. بعد قوى الظلام لتولستوي، أخرج أشباح إبسن والبطة البرية. بهذه الطريقة قُدمت المسرحيات الأجنبية وكذلك المحلية المثيرة للجدل وعُرضت لأول مرة في باريس.
وبالإضافة إلى تحوله إلى منصة لعرض الأعمال الدرامية الجديدة، أصبح المسرح الحر مختبراً لتقنيات الإخراج. وعلى الرغم من أن أنطوان قد استخدم أسلوباً واقعياً منذ البداية، بدايات الواقعية الحديثة فقد بدأ يبحث عن المصداقية بعد مشاهدته لفرقة لاعبي ميننجن Meiningen وفرقة ايرفينج Irving’s في عام 1888. ومن ثم سعى إلى إعادة انتاج البيئة بكل تفاصيلها. ففي الجزارون (1888) على سبيل المثال قام بتعليق شرائح حقيقية من لحم البقر على المسرح. وكان الوعي «بالجدار الرابع» قائماً باستمرار؛ فعند تصميمه للمناظر، قام أنطوان بترتيب الغرف كما هو الحال في الحياة الواقعية. وفي وقت لاحق يقرر أي جدار ينبغي ازالته. في كثير من الأحيان تم وضع الأثاث على طول خط الستارة، وقام بتوجيه الممثلين للأداء كما لو لم يكن هناك جمهور. من خلال إيمانه بأهمية البيئة، ساعد أنطوان في ترسيخ مبدأ أن كل مسرحية تتطلب مناظر شديدة التميز عن أي عمل آخر.
 بعد ما شاهد فرقة ساكس ميننجن، أبدى أنطوان أيضًا اهتماما خاصا بالتمثيل الجماعي. وعلى الرغم من أن معظم فنانيه كانوا من الهواة، فقد قام بتدريبهم بعناية وبشكل استبدادي. كان ضد الحركة التقليدية والأداء الخطابي، وحث ممثليه على السلوك الطبيعي.
ومع ذلك، سرعان ما انقلب نجاح أنطوان ضده، فحالما أثبت الكتاب المسرحيون أو الممثلون في فرقته جدارتهم وقيمتهم، تم توظيفهم من قبل فرق كبرى. بالإضافة إلى أن معايير الإنتاج العالية لدى أنطوان أبقته غارقاً في الديون على الدوام. فحتى في ذروة شعبيته، لم ينتج المسرح الحر أي إنتاج لأكثر من ثلاثة عروض. بحلول عام 1893، بدأت الفرقة يأفل نجمها. وتركها أنطوان عام 1894. بحلول ذلك الوقت كان قد قدمت اثنين وستين برنامجا تتألف من 184 مسرحية. وبالإضافة إلى عروض باريس، قام بجولات في بلجيكا وهولندا وألمانيا وإيطاليا وإنجلترا. كان النموذج الذي وضعه جديراً أن يتبع في عدة بلدان أخرى.
ولم يبتعد أنطوان عن المسرح الباريسي طويلاً. ففي عام 1897 افتتح مسرح أنطوان، الذي كان يعمل كمسرح احترافي بالكامل، وفي عام 1906 كان قد عين مديرًا لـمسرح أوديون Odéon المدعوم من الدولة، والذي قام بتحديثه بالكامل. وعلى الرغم من أنه مارس الواقعية بجدية أقل، فقد ظلت الواقعية تهيمن على عمله. ربما أشهر أعماله في هذه الحقبة من الدراما الكلاسيكية الفرنسية، والتي حاول من أجلها إعادة خلق التقاليد المسرحية للقرن السابع عشر، من ممثلين يؤدون دور متفرجين على خشبة المسرح، والثريا المعلقة فوق المسرح واستخدام الشموع بوضوح في إضاءة المسرح. كل ذلك ساعد في خلق واقعية قائمة على تقاليد المسرح القديمة بدلاً من العمارة والأزياء كما كان جرت العادة في عروض أخرى مشابهة. أيضاً قام أنطوان بإخراج العديد من العروض المتميزة لمسرحيات شكسبير. قبل انتهاء فترة إدارته لمسرح أوديون قدم عدداً من العروض ذات أسلوب مميز من خلال عناصر بصرية. لكنه استقال من منصبه قبل أن يتكشف أسلوبه الجديد تماماً. وبحلول عام 1914 كان أنطوان قد قدم 364 عملاً. ويمكن القول بأن أنطوان كان له أثره الفريد والعميق على المسرح الفرنسي في هذه الفترة، ذلك الأثر الذي  لا يدانيه فيه أحد.


ترجمة: سباعي السيد