تصور الذات المجسدة في المسرح(1)

تصور الذات المجسدة  في المسرح(1)

العدد 638 صدر بتاريخ 18نوفمبر2019

     • الدنيا كلها مسرح :
 فما هو موقف الممثل في هذا العالم، كممثل وكشخصية ؟ . يتبني الممثل الجسم الظاهري للشخصية ويضعها في عالم المسرحية مثلما يضطلع الشخص في الحياة الفعلية بمهمة أو بيئة معنى معين باعتباره جسم – ذات . تماما مثلما يستوعب الموسيقي آلته الموسيقية داخل جسمه، ويدمجها من أجل مهمة التعبير عن قصده الموسيقي، وكذلك الحال مع الممثل، في تغيير المستويات، ينزلق من جسمه الحقيقي الي جسم الشخصية الظاهري الجديد ويتحرك وكأنه آلة موسيقية قد تم استيعابها لنفسها . وهذا هو لب الاهتمام الكبير من جانب الممثلين من أجل مرونة آلاتهم الموسيقية، لأنه إذا امتلك الممثل طريقة ثابتة معتادة في الحركة فلن يكون قادرا علي تصوير أي شخصية لا تتوافق عاداتها مع ذلك النمط الثابت . والحالة الكلاسيكية هي حالة نجم السينما الذي يؤدي ذاته بشكل أساسي مع توالي الأدوار . فإذا أعجب جمهور كبير بما يكفي بشخصيته المعتادة فربما يحقق مكاسب مالية كبيرة، ولكنه يبقي في معنى محدود من التمثيل . والأمر الذي يتم التغاضي عنه في كثير من الأحيان، والذي يمثل، بالمناسبة، الاهتمام المستمر بعمل مثل (الكسندر) بين الممثلين، هو أنه يكفي زراعة المزيد من فرص الوصول الي ذخيرة الفرد المعتادة . فلا بد لنا أن نكون قادرين أن نطرح جانبا صور ذواتنا المعتادة . فلا يكفي أن أكون قادرا علي أداء الشخصية التي لها عادات غير عاداتي؛ وأريد أيضا أن أؤدي أدوار الذين لهم عادة غير عاداتي . ولكن هذه المهمة الأخيرة أكثر صعوبة، وهذه الصعوبة هي نموذج لما نواجهه جميعا عندما نجد أنفسنا غير قادرين علي الاستجابة للموقف كما نحب . إذ نجد أنفسنا صراحة عاجزين عن تجسيد المعنى الذي نود أن ننقله عندما لا يتوافق هذا النمط من الاستجابة مع نماذج أفعالنا المعتادة . إذ يبدو الأمر وكأننا نجد أنفسنا أحرار، في الشكل الجسمي، في أن نتحرك في اتجاه بين عدة مستويات من البنية، وليس اتجاه آخر .
 وعلي خشبة المسرح، هذا هو جوهر المشاكل الفنية المتمثلة في التحفيز والمظهر . فعندما يتحدث الممثلون عن دوافع شخصياتهم أو أفعالهم باعتبارها محفزة، فإنهم يشيرون إلي الطرق التي يرتبط بها تنفيذ أفعالهم – أو  بالأحرى  كيفية تنفيذ تلك الأفعال – بأهداف الشخصيات . بمعنى، كيف يؤدون نوايا الشخصيات، والأفعال التي تعبر عنها والمواقف التي تجد الشخصيات أنها مناسبة لها . فمن وجهة نظر (كيلي)، إذا كانت الشخصيات تعيش في حالة توقع، عندئذ سيكون المشاهدون كذلك . فعالم خشبة المسرح هو التكرار، وليس النظير لعالم الحياة اليومية . ومهمة المسرح ليس أن يكون واقعيا، بل يكون مقنعا، ولا يكون كاملا، بل يكون شاملا . وبالتالي مثلا، ما يمكن أن يكون عادة سلما ربما يكون شجرة – ليس تمثيلا للشجرة بل هو شجرة في عالم المسرحية . فهي كذلك، مثل الشيء بالنسبة للشخصيات، فهي شجرة، وسوف يتفاعلون معها وفقا لذلك . والمشاهدين يجب أن يكونوا قادرين أن يفهموا علي الفور السلم بشكل موضوعي باعتباره كذلك ويرونه من خلال عيون الشخصية باعتباره شجرة .
 في الحياة نواجه نفس الحاجة لإدراك أن الشيء يمكن أن تكون له معاني مختلفة في مختلف السياقات في نفس الوقت . ومثلما يجب أن يمتلك الممثل المرونة لكي يعيش في أكثر من حقيقة واحد، فان جميعنا نحتاج المرونة لكي نعيش مع انفتاح التفسيرات المتعددة للحقيقة . وقد أوضح ( ديوي) مرارا أننا كلما تعلمنا كانت حاجتنا أكبر للمرونة، ولكن ذلك لسوء الحظ هذا هو الحال في الممارسة الاعتيادية بأننا كلما عرفنا أكثر زاد ميلنا إلي النظام والجمود .
 فكل نموذج يقدم علي خشبة المسرح بما في ذلك أفعال الشخصيات يجب أن يكون له خلفية كافية وملائمة . والممثل كشخصية يتصرف داخل موقف عالمه وفي نفس الوقت فان الممثل كممثل واع بنفسه كموضوع للمشاهدين وللممثلين الآخرين . والمحافظة علي التوازن بين صدق دوافع الشخصية والتحرك لكي يكون مرئيا كشخصية هي مهارة الممثل الكبير . وهذا يتم انجازه بوضع الشخصية بأقصى حزم ممكن في بيئتها . وأحد الأساليب النموذجية هي ابتكار سيرة ذاتية للشخصية التي يكون بها عدة تفاصيل لحياتها الماضية وفقا لما هو مطلوب لتحفيز أفعالها كما هي مقدمة في النص . وكلما كان هذا العمل مفصلا، يكون تاريخ الشخصية كاملا، وكانت أبعاد المعنى واضحة في العالم الذي توجد فيه الشخصية، وبالتالي كان موقفها حقيقيا . وكل كلمة تقولها الشخصية، وكل إيماءة، تجسد معاني من عالم الشخصية . لأن ذلك بمعنى ما هو معنى التاريخ – تدفق موقع الذات . وبمجرد أن تحمل الشخصيات ماضيها، يمكن للممثلين أن يحددوا مواقع أنفسهم داخل موقف شخصياتهم الحالية، وعندئذ يعد الخيال مثل الحقيقة .
    • انسان واحد يلعب عدة أدوار :
 لكل منا في الحياة الفعلية تاريخ فعلي، وبالتالي كل كلمة وإيماءة هي فعلا تجسيد لمعنى شخصي . والفكرة من هذه المناقشة هي أننا جميعا ممثلين في عالم تجاربنا، ونسكن هذا العالم الذي نعتقد أنه حقيقتنا بهذه الطريقة . فالعيش هو مسألة   تبني العوالم الافتراضية  التي نعيش فيها ( بمعنى أننا نرتبط بجسمنا المعتاد ) . وقد أصبحت عبارة “ العالم خشبة مسرح” أكلاشيه بسبب أننا أصبحنا ندرك، كما هو الحال في العلم،  تحسين الخاصية الاستباقية للتجربة في مسعى رسمي، وبالتالي فان عالم خشبة المسرح هو تنقية الخاصية الدرامية للحياة العادية . ففعل البناء، وفعل اختيار أبعاد أخرى من خلالها يكون للأشياء معنى هو أيضا فعل يؤديه الشخص إجمالا . وهو أيضا تبني عالم جديد والبقاء فيه بهذه الخصائص الدرامية . تحت الميول باتجاه أنماط معينة من الفعل التي نسميها العادات تكمن بعدية فراغ المعنى المعتاد الذي نبني به العالم الذي نؤدي فيه دورنا . فالنسبة لنا وبالنسبة الشخصية المصورة جيدا، هناك استمرارية بين أبعاد المعنى المسكوت عنها التي نفشل أن نراها كإطار لتفسيرنا للأحداث وأبعاد الفعل تلك التي هي بنية ردود أفعالنا النمطية . وكما أن الممثل الجيد حرا في أن يعيش في مجموعة واسعة من الأدوار الممكنة، كذلك يملك كل إنسان القدرة علي تجاوز عالم بناءه المعتاد، ليس فقط لعرضه، بل أيضا لكي يعيش في بنيات جديدة . ففي الحياة، كل حدث يمكن تسميته حافز مؤثر هو اضطراب في توازن تنظيم شبكة المعاني المتجسدة للشخص. انها تنتج لحظة الدراما التي يجب أن تعيد ترتيب نظام عادات الشخص بالكامل لإنتاج استجابته، بمعنى إجابته . فإذا كان الشخص مريضا جدا، أو متعبا، أو متعجلا، أو مرتبطا بنظام، عندئذ ربما تسيطر عاداته، كما لو كان في محاولة للاحتفاظ بالتوازن، وتنهار اللحظة أمام أي إعادة ترتيب جوهرية يمكن أن تحدث . وما يلي هو نتاج تتابعي من التحفيز والعادة المسيطرة، ورد فعل آلي فضلا عن الاستجابة . وهذا مثل الممثل المبتدئ الذي يحاول أن يمثل دور عجوز عن طريق الانحناء والتثاقل . ما يراه المشاهدون هو هذه الاختيارات المحددة المنقحة من خلال جهود الممثل المعتادة . ورغم ذلك، إذا كانت شبكة العادة والمعنى مركبة ومرنة بالقدر الكافي حتى تسمح للدراما أن تستمر لفترة، فان ما يلي عندئذ استجابة درامية من الشخص . وهذا أشبه بالممثل الذي يوجه انتباهه تجاه مهمة عدم التدخل مع تناغمه الطبيعي، ويمنح نفسه المرونة للخروج من أنماطه الاعتيادية بطريقة تجعل ما يراه المشاهد هو الشخص ككل . وعندئذ تجعله فكرة التقدم في السن يبدو أكبر بالنسبة للمشاهدين دون الحاجة لأن يفعل أي شيء بعينه. وقد جادل ( ديوي) بأن مغزى التجربة، وقيمتها الجمالية، لا يكمن في المحافظة علي التوازن كما في الخصائص المتجسدة في كيف يتم المحافظة علي التوازن وفقدانه . ولذلك فان دعمه لعمل “ السكندر” الذي شاهده كوسيلة للتأكيد علي ذلك الفراغ الدرامي الذي يمكن من خلاله انجاز استعادة أكبر واستجابة أشمل .
 وهناك علي ما يبدو فكرة فنية أخرى توضح أن لها مغزى عملي كبير . فربما نفكر في الفراغ كنوع في الفضاء الموجود مسبقا الذي توضع فيه الأشياء، تماما كما نتأمل خشبة المسرح باعتبارها مساحة خالية مستقلة وسابقة علي مختلف المسرحيات التي سوف تٌقدم عليها . ولكن خشبة المسرح هي خشبة مسرح في علاقة مع تلك المسرحيات الموجودة عليها . فهي سابقة عليهم في الاستعادة – فهي فارغة من التنبؤ بهم . ربما يبدو فراغ المعنى، وأبعاد التجربة، مساحة خالية تنتظر أن تمتلئ بأحداث حياتي . وبالطبع، تبني الأبعاد التي جعلتها واضحة، أو تلك التي استخدمها بشكل اعتيادي، بشكل مسبق المفاهيم والأفعال التالية . وتصبح أنساق الفراغ الذي أسكنه، والذي يهيئني لرؤية وفعل الأشياء بطريقة مألوفة . وهذا الفراغ ليس سابقا علي تجربتي، فأبعاده مستمدة منها . أنه فراغ في توقع أحداث المستقبل، رغم أن أحداث المستقبل سوف تظل مفتوحة علي تفسير جديد . وفي حالة الهندسة العادية، تتحقق علاقات معينة داخل مجموعة من الأنساق المتعامدة . ومع ذلك لن تكون هذه الأبعاد سابقة علي الفراغ الذي استنتج منه تشبيهاتي . فأنا حر في أن أضع أصلي حيث أريد، وأختار الطريق الذي يسير فيه المحور، أو بالطبع أستخدم أنساق اسطوانية بدلا من ذلك . المسألة هي أنني إذا وصلت بشكل روتيني إلي اختيار، فانه يبدو لي أولوية . وكذلك الحال مع المعنى عموما، ولاسيما المعاني المحسوسة لبنيتي الحركية . فالتجربة لا تتميز بأبعادها، بل توافرها حتى تكون مفهومة علي أساس الأبعاد . تماما مثل حضور الممثلين – حركتهم علي خشبة المسرح – الذي يخلق الذي تدور فيه أحداث المسرحية، وبالمثل، يمكن القول بأن الأفعال الطبيعية تخلق الفراغ الذي تحدث فيه . ولكن مثل الممثل الذي يكرر، في عرض المسرحية التي استمرت طويلا، نفس الحركات بشكل روتيني، كذلك الحال مع الشخص الذي تصبح حركاته اعتيادية، فانه يؤديها بشكل اعتيادي .
    • الحركة باعتبارها مسرحا للمعاني المتجسدة :
 في آخر أعماله “ المرئي واللا مرئي The Visible and The Invisible “ يعود ( ميرلوبونتي) إلي هذه المسائل مرة أخرى، لكي يستنتج علاقة بين المعرفة وما يسميه “ المقدرة “ . وفي هذه العملية يدرس سياقا حركيا منفصلا . فما يصدق بالنسبة للعلاقة بين إحساسي بالرؤية و المرئي يصدق أيضا بالنسبة لإحساسي باللمس، ربما بطريقة أعمق . إذ يمكنني عند أحد المستويات أشعر بالملمس والخشونة والنعومة .. الخ . وفي مستوى آخر لا يكون ما أتطرق إليه ملمسا بل أشياء . ولكني لا ألمسها في المجرد، ولا ألقي عليها نظرة عن طريق اللمس . ولكي ألمس شيء يجب أن أصل إليه . ولكي أشعر بشكله وملمسه يجب أن أحرك يدي عبر سطحه . وهذه ليست حركة محتملة، والفعل المتوقع الذي قد أقوم به . فلمس شيء يعني المشاركة في حركة فعلية بالنسبة له . ما يمكن أن يكون الأساس الضمني لمكان التصور المرئي أو السمعي يتضح دائما في اللمس ويجب أن أتحرك بنفسي للمس الشيء . وسواء دورت رأسي لكي أنظر أو أقرب يدي لكي تلمس، أثناء حركتي لإدراك الشيء، فإنني أجد معلوماتي فعلا في سياق الفعل . ولكن هناك المزيد، هناك شيء غريب، أو تناقضي، فيما يتعلق بالوصول الي لمس شيء . بيمنا أصل بيدي اليمنى الي لمس شيء، أشعر بلمسة يدي، ان جاز التعبير، من الداخل، إذ استطيع أن أرى يدي تتحرك تجاه الشيء الملموس وفوقه . ويمكنني أيضا أن ألمس يدي اليمنى باليد اليسرى . فأنا جزء من المرئي كما أني الشخص الذي يرى .  
 ما أناقشه هنا هو ببساطة أنه بينما من المهم أن نلاحظ العمليات النفسية مجسدة، ربما نذهب بشكل مثمر إلى ما وراء ذلك لتأمل الوضع والحركة .. الخ، في ذاتهما لأن جسم كل منا في الحياة العادية، وكذلك جسم الممثل علي خشبة المسرح، هو وسيلة حركتنا وكل ما يعبر به كل منا بهذه الوسيلة يعتمد علي كيفية استخدامنا لها .
....................................................................................
 • ديفيد ميلز وهو حاصل علي دكتوراة في فلسفة الأداء .. عضو مؤسس في مدرسة الأداء في سياتل بولاية واشنطون .
 • وقد نشرت هذه الدراسة في مجلة Personal construct theory and practice  العدد 2  2015.  

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح