جماليات المسرح ..المقاوم

جماليات المسرح ..المقاوم

العدد 862 صدر بتاريخ 4مارس2024

المسرح – في حد ذاته - فعل مقاومة من خلال رؤيته الجمالية التي يقدمها، من أجل وعي أكثر تقدما وفهما للعلاقات الإنسانية القائمة على احترام الآخر والتواصل معه.
والمسرح العربي بشكل عام هو مسرح مقاوم كاشف للمتناقضات، ويقدم  -عبر أشكاله المختلفة خطابا يهدف إلى الحرية الإنسانية بتعدد مسمياتها.
وقد ارتبط التجريب في المسرح العربي، بالحالة الثورية، فوجدنا تزايد الفعل التجريبي المسرحي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فظل التجريب مرتبطا بالفعل السياسي، مناصرا له وليس في خدمته، ففي الحالة الثورية يتعاظم إحساس الإنسان بذاته خاصة إذا اندرجت في فعل جماعي هدفه التغيير والإصلاح، وهنا لا يخرج الفن عن رسالته الجمالية، بل تضاف إليه رسالة اجتماعية مهمة.
و يعد «مسرح المضطهدين «أحد التجليات المهمة لما يمكن أن نسميه «دراما المواجهة»، وقد تطور هذا الشكل المسرحي على يد «أجستو بوال» الذي أراد أن يستخدم هذا النوع الفني في التنمية المجتمعية، ورصد حالات القهر الإنساني السياسي والاجتماعي في أطر فنية، في مختلف دول العالم.
كل الأشكال المسرحية جاءت كرد فعل إبداعي ضد الجمود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بعد تحول المجتمع العربي في السنوات الأربعين الأخيرة إلى مجتمع رأسمالي استهلاكي.
لذا كان من الضروري البحث عن أطر فنية يكون من مهامها إيجاد نوع من التوازن في الوعي  –الذي للأسف – تتعدد المحاولات لتغييبه، لذا تكون مهمة الفعل الثقافي صعبة، لكنها بكل تأكيد ضرورية.
وقد يكون لجوء صناع المسرح العربي الحديث إلى غربلة الموروث الشعبي بحثا عن هوية مسرحية، أحد تداعيات هزيمة يونيو 1967 والتي أحدثت شرخا عميقا في الوعي الشعبي، وكان هذا الشرخ أعمق عند النخبة المثقفة وهذا ما لمسه المخرج عبد الرحمن الشافعي في شهادة له حول تجربته المسرحية حيث يقول» :لقد تراكمت لدي مفردات وأساليب وأماكن وأحاسيس وأفكار وخبرات في الممارسة المسرحية، تناسلت وتوالدت عبر كل مسرحية وأخرى، لا تتكرر ولا تتشابه، وكل مسرحية تشكل بالنسبة إليّ خبرة خاصة في طريق طويل لم أنجزه بعد، إنني أصبو إلى البحث في شخصيات السير الشعبية عن موضوع أتخذه عن قصد ركيزة لبنية جديدة في المسرح المصري».
وفي محاولاته الدءوبة لتفتيت العلاقة بين الجمهور وآليات العرض أطلق المخرج المغربي «الطيب الصديقي «على فرقته اسم «مسرح الناس»، وأراد من البداية أن تكون لها استقلاليتها عن المؤسسة الرسمية، يقول عنها: «مسرح الناس فرقة خاصة لا تنتمي لأي قطاع عام أو بلدية أو حكومة .. فئة قليلة من الناس(13 تقريبا) حاولت أن تمارس مسرحا آخر بعدما مرت بمرحلة الاقتباس وأحيانا الاختلاس ومرحلة الإعداد والترجمة فاتضح لنا بعد بضع سنوات أن هذا المسرح المنقول والمنسوخ لا يمكن أن يؤدي بنا إلا إلى الفشل فليس باستطاعتنا أن نمثل موليير أحسن من الفرنسيين ولا شكسبير أحسن من الإنجليز ولا كالديرون أحسن من الأسبان.. فكان من واجبنا أن نحاول أن نجد نوعا جديدا من المخاطبة مع الجمهور المغربي والعربي.. هناك في الساحات وفي البطحاء منذ ما يقرب من 9 أو 10 قرون ما يسمى بالحلقات كل حلقة ينشطها مثلا مغنون أو راقصون أو مداحون ومروضو حيوانات.
ومن التجارب التي شارك في عروضها « مسرح عشتار « بالأراضي الفلسطينية المحتلة. ففي مدينة  «رام الله « قدم أول عرض مسرحي ينتمي إلى « مسرح الشارع»، تحت عنوان  «كلنا في الهوا سوا « وحقق نجاحا ملحوظا، حيث قدمته فرقة عشتار بالتعاون مع  «مسرح بريد أندبابيت» الأمريكي وشارك في العرض ما يقرب من 30 ممثلا ومتدربا.
وقد تناول العرض موضوعات ذات طابع سياسي واجتماعي منها « قضية الجدار العازل» و «عملية السلام» و»التناحر الداخلي بين الفصائل السياسية الفلسطينية».
وقد قدمت المسرحية وصفا لحياة الفلسطينيين كأنها جسد تم تقطيعه من خلال دمية كبيرة لإنسان فصلت رأسه عن جسده وقطعت يداه وساقاه .ولا يخلو العرض من بارقة أمل تلوح في الأفق، فبينما يتحرك الجدار الفاصل في معظم المشاهد إلا أنه في نهاية العرض يظهر عصفور أبيض كبير الحجم يحمله شخص تسير بجانبه فتاة تغني بصوت شجي :وسلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة/ يا منزرعين بمنازلكم/ قلبي معكم/ وسلامي لكم»، بينما تشكل جوقة من الممثلين يرددون وراءها ما تقوله.
وهذه التجربة ليست الأولى في المسرح الفلسطيني من هذا النوع المسرحي فيورد « نصر الجوزي « في حديثه عن المسرح في الفترة من 1918 وحتى عام 1948 «أنه كان هناك نشاط مسرحي من أبناء فلسطين في المدارس الوطنية والأديرة ثم كان تأثير الفرق المصرية على الساحة الفلسطينية مثل فرقة جورج أبيض وفرقة رمسيس وفرقة الريحاني، وأن الحركة المسرحية في القدس في العشرينيات اعتمدت على المثقفين فقدم بعض أساتذة وخريجي مدرسة المطران بالقدس بعد إعلان الدستور العثماني مسرحية «صلاح الدين الأيوبي» على «مسرح قهوة المعارف في «باب الخليل» أحد شوارع القدس الرئيسية.»
أما الناقد خليل السواحري فيذهب إلى أن  «فرانسو أبو سالم قد أنشأ فرقة تحت اسم « بلالين»  مع مجموعة من زملائه في الأرض المحتلة، وقد جاء في بيان الفرقة « :أنها تعمل على مخاطبة الناس باللهجة العامية للبسطاء وخلق لون مميز للمسرح الفلسطيني لخلق انطباع جديد لدى الناس، وإيجاد نواة لمسرح متنقل، وإيجاد مسرح القهوة الذي يعمل داخل المقاهي».
وتذكر بعض المصادر أن  «جمعية الشبان المسلمين « عرضت مسرحية في «يافا»  على مسرح قهوة أبو شاكوش في أربعينيات القرن الماضي.
ويبدو أن التوجه إلى هذا النوع من المسرح جاء – في الأساس-  ليكون أداة لتحفيز الجماهير الثائرة يظهر ذلك جليا في المسرحيات التي عرضت في تلك الفترة مثل  «الوطن المحبوب»  تأليف جميل حبيب بحري، والتي نشرت بالقاهرة عام 1923 ، ومسرحية  «العدل أساس الملك»  لنصر الجوزي  1956، ومسرحية « وطن الشهيد « لبرهان الدين العيوشي، والتي يدعو فيها إلى العمل في جبهة عربية واحدة ضد التوسع الاستيطاني اليهودي في فلسطين.
ويؤكد د. علي الراعي أن  «جمعية المسرح العربي الفلسطيني أسهمت في تكوين نواة لفرقة فنون شعبية من أجل إحياء التراث الشعبي وحمايته من الضياع، وقد تبنت حركة فتح هذه الفرقة ودفعت تكاليف إدارتها وزودتها بما يلزم من مدربين».
ويأتي هذ الاهتمام من جانب القيادة السياسية الفلسطينية ليؤطد على قيمة الفن في الحياة الفلسطينية التي أنتجت إبداعا مغايرا ينتمي إلى فضاءاته الواقعية قدر انتمائه إلى جماليات الكتابة والأداء الفني.
والإبداع حينئذ لا يكون وليد الصدفة أو الخيال فقط، بل هو ابن شرعي للواقع، يؤرخ بجمالياته الفنية لمعاناة الأطفال والنساء والشيوخ الذين تسيل دماؤهم ليلا ونهارا كاتبين بأرواحهم مفتتحا للنشيد.


عيد عبد الحليم