المسرح والأنثروبولوجيا

المسرح والأنثروبولوجيا

العدد 666 صدر بتاريخ 1يونيو2020

لقد جذب الفهم الثقافي للأشكال المسرحية واستخداماتها في مختلف المجتمعات اهتمام العلماء من مختلف المجالات في العلوم الإنسانية . ومنذ عام 1970، أدى التقدم المفاجئ في فنون الأداء الي تنشيط التفكير النظري والبحث الذي بدأ يدرك أن الأداء الفعال يلعب دورا اجتماعيا أساسيا في منح المادة الثقافية معنى . وقد درس علماء الأنثروبولوجيا وعلماء اللغة وعلماء الفولكلور الأداء من أجل اكتساب المزيد من الفهم للمواد التقليدية والتقاليد الاجتماعية الأخرى، مثل الدين والحياة السياسية وعلاقات نوع الجنس والهوية العرقية . وقد طُبق علماء الأنثروبولوجيا النظريات المرتبطة بالأداء علي الطقس، وطبقها علماء الاجتماع علي تفاعل البنيات في اللغة، وطبقها علماء الفولكلور علي الفن الشفهي في أنواع السرد الفولكلوري. وقد كان ( جريجوري باتيسون Gregory Bateson) و(مارجريت ميد Margaret Mead) في فيلمهما “ النشوة والرقص وفي بالي Trance and Dance in Bali” و(جين بيلو Jane Belo) بدراستها المصاحبة للفيلم، هم أول علماء الأنثروبولوجيا الذين أشاروا الى أن الأداء التقليدي أصبح مجال دراسة رسمي . وقد تلت هذا المثال الأول دراسات أخرى ركزت علي تقاليد المسرح الوطني الأمريكي ولكنها لم ترسخ تقاليد لدراسات المسرح في الأنثروبولوجيا . وقدم (ميلتون سينجر Milton Singer) مفهوم الأداء الثقافي كتقاليد اجتماعية تحمل النظام الرمزي المركزي لتقاليد الثقافة وتروج له في دراسته التي تحمل عنوان “ عندما يتم تحديث تقاليد عظيمة When a Great Tradition Modernizes” عام 1972 .
• دراسة المسرح في الأنثروبولوجيا والمجالات المرتبطة بها : المسرح باعتباره طقسا :
 كرد فعل للأنثروبولوجيا الأساسية، ومع التأكيد علي التكوينات الثقافية المتجانسة الثابتة، اهتمت التحولات السيميوطيقية والرمزية والسيمانطيقية في الأنثروبولوجيا بالأداء المسرحي خصوصا كموقع خاص للتحول الاجتماعي والرمزي . فما يجعل المسرح شكل أداء ثقافي مثير للاهتمام بالنسبة لعلماء الأنثروبولوجيا هو حقيقة أن العروض المسرحية هي أحداث عامة مرتبة ومنسقة تجعل الفنانين والجمهور يلتقون في سياق نفس الزمان المكان . ولأن أشكال المسرح تعتمد علي رؤية المشاهد وعلي المشاركة الجماعية، فهي ذات طبيعة انعكاسية وتخلق مناسبات مهمة للمجتمع . كما أن حضور المتفرج الذي يشاهد ويقوّم هو حضور مميز في الأشكال المسرحية التي تميزهم وتفصلهم عن فعاليات الأداء الأخرى . وهناك جانب آخر فريد ومحوري في الفهم السيميوطيقي للعروض المسرحية، وهو حقيقة أنها تركز علي الواقع الرمزي .
 وقد استخدم (فيكتور تيرنر Victor Turner) مواد الأداء علي نطاق واسع في دراسته المبكرة حول طقوس النديمبو Ndembu Rituals، حيث بدأ في تطوير مفاهيم الحتمية الانعكاس في العمل البشري . وقد ردد طلاب المسرحانية أصداء هذه الدراسات. إذ طبق كل من (تيرنر) و(كليفورد جريتز Clifford Greetz) العدسة المسرحية علي أبعاد اجتماعية وسياسية أكثر عمومية في حياة المجتمع . وفي تحليله للأحداث التاريخية، مثل الثورات والاضطرابات الاجتماعية، وسّع ( تيرنر) مفهوم الدراما الاجتماعية لكي تضم البنيات الطقسية . وبالمثل، كان قصد ( جريتز ) أن يوضح الترابط بين الأداء وأبعاد الثقافة الزائدة الأخرى – مثل الدين والسياسة ونماذج السلوك الشخصية المعيارية – في دراسته لحياة سكان جزيرة بالي . لم يكن اهتمامه منصبا علي بنية أداء بعينه، بل كان منصبا علي البنية العامة لعلم الجمال، كما أوضح في دراسته لمصارعة الديوك في بالي، وهو أداء ثقافي لا يقدم علي خشبة المسرح ويمكن تعريفه بأنه أحداث رياضية .
 وفي الثمانينيات، ركز علماء الفولكلور علي الجوانب الأدائية للمواد الفولكلورية أيضا، فضلا عن الجوانب النصية . وقد دعم مقال (ديل هايمز Dell Hymes) الأساسي “ اختراق الأداء Breakthrough into Performance “ 1975 الاقتناع بأن معنى الأدب الشفهي والمواد الفولكلورية كانا متأصلين في نموذج الاتصال وأداءه . وقد كانت دراسة (هايمز) تأسيسية للتحول الأدائي في اللسانيات الاجتماعية من خلال إنشاء نموذج لدراسة الجوانب الأدائية في استخدام اللغة . وطبق هذا النموذج أولا في دراسته للأصول العرقية لذوي الأصول الأمريكية، وبعد بضعة سنوات، صاغ ( بول فريدريش (Paul Friedrich عام 1986 مفهوم التخيل الشعري والذي يكمن طبقا له في أساس كل الوظائف اللغوية . وقد ساعده هذا المفهوم علي تفسير كيف أن استخدام اللغة الأدائية يساعد المتحدثين لتحقيق أهداف اجتماعية وجمالية . ويمكن تتبع هذه النفعية في اللغة في نظرية فعل الكلام التي تطورت لكي توحي بأن البعد الأدائي للغة يمّكنها من تحقيق أهداف ملموسة . علاوة علي أن دراسة المجاز والعمليات المجازية كانت مفيدة في فهم بناء التمثيل الرمزي في مختلف أنواع الأداء .
 وقد استلهم العديد من علماء المسرح والمتخصصين، مثل (ريتشارد شيشنر) و(جاي ماكولي) و (جيرزي جروتوفسكي) و(بيتر بروك) و(فيليب زاريللي)، من الاستفسارات الأنثروبولوجية في ذلك الوقت ودمجوا السيميوطيقا مع الطقوس في أعمالهم . وبفضل تدريبه كمخرج ساهم ( شيشنر ) في هذه الحركة من خلال ادخال التفاصيل في تحليل الأسس الطقسية والمعرفية الي الأداء المسرحي . فقد تأثر (شيشنر) كثيرا ب( جريجوري باتيسون) و ( فيكتور تيرنر) في تطوير سلسلة من المناهج التي جمعت بين الجماليات والأسس المعرفية للعروض التقليدية مع المسرح الأوروبي . وقد صنع عمله حالة للباحثين الذين يدرسون الأداء دفعتهم الي النظر الي ما وراء الحدث المجسد الذي يظهر أمام المشاهدين للتركيز علي عملية التحضير والتدريب الطويلة والتي يتم تحديدها مثل الحدث المجسد بواسطة بنيتها الاجتماعية . وبعد بضعة عقود، نفذ (ماكولي)، وهو متخصص في دراسات الأداء، أول أعماله الاثنوجرافية “ ليس سحرا بل عمل Not Magic but Work“ عام 2012، وهو عملية تدريب مسرحي لتوضيح أنه، اذا كان لا بد لنا أن نفهم ونقوم الممارسة المسرحية، بأننا نحتاج أن ننظر عن كثب أكثر الي الدقائق التي تصنع طريقة المخرج في العمل وأن نوضح تأثير المنتج النهائي علي المشاهدين. وتجاوبا مع حجة (شيشنر) يدعو (ماكولي) إتباع نهج اثنوجرافي لوصف المجال الاجتماعي الذي يحدث إبداع العرض المسرحي . ولتحقيق هذا، يجادل بأننا نحتاج إلى تفسير للطريقة التي يرتبط بها المشاركون مع كل منهم الآخر أثناء إعداد العملية، من خلال شبكات اجتماعية ومهنية .
 بين الخمسينيات والسبعينيات طور عدد من المتخصصين والباحثين في المسرح الغربي أشكالهم الفنية بضم الاكتشافات الثقافية والأنثروبولوجية، باستخدام تقاليد مسرحية وتدريبات بدنية مغايرة لنفل الإحساس العام، والتشابهات المشتركة بين مختلف التقاليد الثقافية في المسرح. وباهتمامه بالأداء بين الثقافي، كان مختبر جروتوفسكي المسرحي البولندي من بين أول المختبرات التي دمجت التأثيرات غير الأوروبية. وقد سافر جروتوفسكي نفسه للدراسة والعمل مع المؤدين الطقسيين والجماليين من هايتي والهند والمكسيك. وطور يوجينو باربا، وهو مخرج مسرحي ايطالي ومنظر شارك لفترة طويلة مع جروتوفسكي، بعد تأسيسه لمسرح أودين في الدنمارك، المسرح الدولي للأنثروبولوجيا، حيث كان هدفه خلق بيئة للممثلين القادمين من جميع أنحاء العالم للمشاركة في التدريب وتبادل التقنيات، وحلقات الدرس والأفلام . ومع فريقه من العلميين المتعاونين، كانت المهمة الأولى التي طرحها لأنثروبولوجيا المسرح هي في الواقع تتبع المبادئ المتكررة والمشتركة بين الفنانين المختلفين في أوقات وأماكن مختلفة، علي الرغم من الأشكال الأسلوبية الخاصة بتقاليدهم .
 ومنذ السبعينيات طور بيتر بروك مركزه الدولي لبحوث المسرح في باريس، بتكوين فرقة تضم مؤدين من أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا . ومن المعروف أنه يأخذ فرقته في رحلات ميدانية إلى جميع القارات، ويتبادل التقنيات والمواد البحثية المستخدمة في مجموعة متنوعة من العروض المسرحية والتي من أبرزها “ جبل أيك “ ( المأخوذ من مسرحية كولن تيرنبول “ شعب الجبل) و “ منطق الطير “ (المأخوذة من كتاب فريد الدين العطار، وهي حكاية صوفية ) ، و” المابهارتا “ . وفيليب زاريللي المقيم في جامعة اكستر بالمملكة المتحدة، وهو مخرج ومؤدي تأثر تنظيره بكل من ( شيشنر وتيرنر ) إلى حد كبير . وهو معروف بعمله مع الراقصين ومصممي الرقصات من الهنود وتدريب الممثلين علي العمليات النفسية الجسمية من خلال فنون الدفاع عن النفس الأسيوية .
 وقد استلهمت نظريات الأداء الأنثروبولوجية، المستمدة من المسرح، فيكتور تيرنر و ميخائيل باختين و كينيث بورك وارفينج جوفمان . وكما ذكرنا آنفا، لقد استخدمت أعمال ( تيرنر) في بنية الطقس باعتبارها مناظرة لتحليل أحداث الأداء، وأثرت آراء ( باختين ) في العلاقات التحولية بين الفن وعالم الحياة العادية علي بحوث الأداء . وعلي نفس المنوال، كان لتناول (بورك) الدرامي للوجود الإنساني أثرا كبيرا علي نظرية الأداء من خلال التأكيد علي الاستخدام البشري للمواد الرمزية في الاتصال والقصد الإنساني في التأثير علي الآخرين من خلال فعل رمزي . وبهذا التناول، الذي يحفزه الفعل الرمزي، الذي يحتاج التفسير والذي له نتائج علي العلاقة بين الممثل والمتلقي، هو الاكتشاف الذي يرتكز عليه معنى المسرح . وأخيرا ( جوفمان) – بتأكيده علي الجوانب المسرحية للحياة الاجتماعية والأساليب التي يفرضها الناس علي النشاط الاجتماعي كاطار نفسي، والتي تفرض قواعد منفصلة في السلوك عن تلك التي يحكمها عالم الفعل اليومي – كان له تأثير علي توسيع استخدام مفهوم الاطار بواسطة (شيشنر) و( تيرنر)، وآخرين لوصف العلاقة بين أحداث الأداء والعالم المعتاد .
• التحول الي المعالجة الثقافية : الممارسة المسرحية السياسية والانعكاسية
في ظل تأثير النقد بعد الكولونيالي، في التسعينيات بدأ الاستفسار الأنثروبولوجي ينظر إلى المسرح باعتباره مكان للنقد الاجتماعي والسياسي والمنافسة . وتضم الأمثلة (سوزان سيزر) و( جينفر جودلندر) في بحث ما يحدث عندما بدأت النساء في تمثيل أدوارهم وشخصياتهم داخل العروض والبيئات الثقافية حيث كان المؤدين من الرجال . واكتشفت (سيزر) دور المؤديات من النساء في “ الدراما الخاصة special drama” وهو شكل من المسرح الشعبي في الولاية الجنوب شرقية “تاميل نادو “ . فمن خلال الأداء العلني بجوار الرجال غير الأقرباء لجماهير الذكور من الغرباء عموما، ينظر إلي ممثلات “ الدراما الخاصة “ علي أنهن يضعفن وضعهن الأخلاقي والاجتماعي في المجتمع الذي ينظر الي المرأة وجودها في الأماكن المنزلية ويقصر دورها عليه . ويفترض أن هؤلاء الممثلات اللواتي ينظر إليهن علي أنهن يفتقرن إلي الملائمة وينتهكن قواعد التاميل في النظام الاجتماعي، غير شرعيات، مما يجهلن يعترضن علي التمييز في في سوق الإسكان ويجعلهن غير قابلات للزواج . ومع ذلك، تبقى الممثلات في وظيفتهن باعتبارها مصدرا جيدا للدخل، رغم أنهن يجدن أيضا طرقا لفصل أنفسهن عن العار . ويناقش عمل (جودلاندر) كيف أن استبدال الرجال المؤدين بالنساء في عروض “ عرائس الظل wayang kulit “ وهو شكل من مسرح العرائس التقليدي في بالي، قد جعلت هذا الشكل من الأداء مكانا ممتعا في بحث علاقات نوع الجنس وجداول الأعمال الوطنية في التحديث . يبدو أن عروض النساء تقدم امكانية لمساواة جنسية أكبر وأصبحت نوعا من السياقات الأكثر قيمة لعلماء الأنثروبولوجيا لاكتشاف علاقة النساء بالتقاليد في جزيرة بالي .
 تدعو انثربولوجيا المسرح بعد الكولونيالي، كما جادلت (فوزية أفضال خان)، الي “ الانتقال الي المعالجة” عن طريق تحليل بحوث العلماء الآخرين حول الأداء والأدائية في البيئات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية من خلال وضع مفاهيم الزمن والتغير والفاعلية البشرية في تكوين الأداء المسرحي كممارسة جمالية واجتماعية . وقد وضع تصور المسرح كمعالجة أشياء مثل الملابس والكلمات والرموز في الحياة الاجتماعية التي يتم تضمينها فيها، وفي نفس الوقت يتحدى المفاهيم الخاطئة السائدة في عالم الفن الغربي حول الفنون الأفريقية التقليدية باعتبار أنها فنون جامدة ومتزمتة، في طريقها الى الانقراض . ومن خلال النظر الي الممارسة في الظروف الكولونيالية وما بعد الكولونيالية بهذه الطريقة، فمن الممكن الاعتراف بالدور الفعال لهذه العروض الثقافية في تمثيل الايديولوجيات الامبريالية ومقاومتها . وفي تحليل ( ماري جو أرنولدي ) الاثنوجرافي لأعمال التنكر التقليدية للدمى في مالي، تذكرنا (أفضال خان ) بأن التركيز علي ممارسة صنع المسرح يجعلنا نبتعد عن ملاحظة “ الآخر “ باعتباره ثابتا ويسمح لنا بتصور المعنى الاجتماعي باعتبار أنه ينشأ باستمرار من خلال عملية دينامية متضاربة وفي كثير من الأحيان مشفرة في الأداء الطقسي . بالإضافة إلى أن ما تتمنى أن تبرزه ( أفضال خان) هو كيف تجمع هذه العروض بين التقاليد القديمة والزمن المعاصر، إذ يعيد القيام بذلك خلق حالة من الاحتمال الشرطي . وتستخدم الفرق المسرحية في منطقة سيغو في مالي الفنون من أجل تحدي التسلسل الهرمي للعمر والمكانة والجنس وإلغائهم من خلال التهكم والسخرية والهجاء .
 والحضور الضروري للجمهور هو ما يجعل المسرح ومناسبات الأداء انعكاسيان، مما يزيد من معنى الجماعة . وهذا ما يحاول أن يفعله تراث المسرح، عن طريق مطالبة الجمهور بالمشاهدة، لكي يخلق معنى التضامن والتعاطف . ويقدم لنا (واترسون) بعض أمثلة العروض الطليعية الجنوب شرق أسيوية المستوحاة من شهادات الأفراد الذين عانوا من أحداث تاريخية مثيرة للجدل أو صادمة . ففي بيئات مثل سنغافورة، حيث توجد قوانين للرقابة تسيطر من خلالها الدولة علي إنتاج الأفلام التسجيلية ذات المحتوى السياسي وتحد منها . فمسرح الشهادة يسمح بمساحة للتفكير النقدي . ومن خلال رؤية الشهادة علي أنها أداء للذاكرة، فان البحث في هذا النوع من المسرح، كما يقترح ( واترسون)، يطرح أسئلة مثيرة للاهتمام حول أخلاقيات الأداء والعمليات التي تعطي شكلا للذكريات الجماعية .
 وقد جمعنا أمثلة أخري للانتاج المسرحي ذات الأجندة السياسية في مجموعة من المجالات أصدرها ( أليكس فلاين) و ( جوناس تينوس) تحت عنوان “ الأنثروبولوجيا والمسرح والتنمية Anthropology، Theater، and development” عام 2015 . وهدفهم هو هو الجمع بين الأمثلة الاثنوجرافية والنظرية الأنثروبولوجية من أجل عرض الطرق التي يمكن أن تربط السياسة وعلم الجمال ببعضهما البعض، مما يخلق أشكالا جديدة من الاجتماعية . وجزء من حجتهم هو أن الأداء السياسي يمكن أن يخلق سياقات تثير أفكار علماء الأنثروبولوجيا لاستكشاف كيف يفكر الناس في الانسانية، والاجتماعية والتغيير، وآمالهم في المستقبل . ويتم تجميع العروض السياسة كأمثلة اثنوجرافية ومقترحات تحليلية . وهذه العروض تجمع المتفرجين والمؤدين معا من أجل تجربة تأملية، ضمن مساحة تؤسس من خلال المشاركة فهما مشتركا جديدا للعالم .
 أحد المفاهيم الرئيسية الناشئة عن مقدمة هذا الكتاب هو “ الانعكاسية العلائقية”. فبعد التحول العاطفي في التسعينيات، يرغب مؤلفو هذا الكتاب في توجيه انتباه علاقتهم إلى أبعد من المسرحانية أو الأداء والتي تركز علي ما يتم عن طريق الأداء، وبدلا من ذلك نحو “ كيف يتم، وما الذي يتم في هذه العروض “ . اذ يتم فهم العمل الفني هنا، باستعارة تصور ( نيكولاس بوريود) باعتباره مواجهات ذاتية مشتركة بين الأهداف التي تركز علي الأماكن المؤقتة وغير المستقرة والجماعية . وبالتالي يُرى المسرح السياسي والأداء باعتبارهما نتاج ممارسات تخلق المساحات العلائقية والجالية والسياسية التي تشبه المجتمعات المؤقتة والتي يسميها ( بوريود) “ يوتوبيات صغيرة “ . فالإيحاء السياسي الذي يراه المؤلفون في الأمثلة التي جمعوها يكمن في المغزى الممنوح في التغلب علي الثبات – إنتاج المسرح السياسي في حد ذاته .
 ويعرض ( رولف هيميك) أحد المؤلفين لكتاب “ الأنثروبولوجيا والمسرح والتنمية “ عام 2015 هذا النهج في في تحليل العلاقة بين الجماليات والسياسة والانعكاسية في ثلاثة عروض من لبنان وسوريا وتونس في سياق ثورات الربيع العربي التي بدأت في أواخر 2010 . ففي تحليله للعمل الذي تطور حول الإطار النصي لمخرجين بعينهم داخل فريق إبداعي ( ومن المدهش أنه عمل لم يلق الاهتمام النقدي الذي شهدته هذه الفترة في العالم )، اذ لفت ( هيميك ) انتباهنا الي ممارسة المسرح والاستجابات الجمالية المتأصلة الاضطرابات السياسية . ونظرا لأن هذه العروض ليس عروضا طقسية، بمعنى، علي سبيل المثال، مسيرة احتجاج، فإنها تفتح مجال المناقشة والتأمل الذاتي ومزج الأبعاد الجمالية، وسياسات الهوية والسيميوطيقا . وفي هذا السياق من الاضطراب السياسي، حيث شعر الناس بأن معنى الواقعية قد تعطل باستمرار بسبب الأزمة الصعبة، وجد مخرجون مسرحيون مثل “ عصام أبو خالد “ من لبنان، و”عمر أبو سعادة” و”محمد العطار” من سوريا، و” مريم بوسليمي” من تونس، التعبير الابداعي والمتجدد في أعمالهم الفنية، والتي غالبا ما يجب أن تبتعد عن التقويم العام . فالمسرح بالنسبة لهم أصبح وسيطا لتطوير لغة سياسية جديدة للتعبير عن مخاوفهم فيما يتعلق بالحالة المضطربة والمتأثرة بالحرب . فمثلا، في رد فعل للحرب الأهلية السورية اللبنانية، طور “ إسلام أبو خالد “، وهو شخصية بارزة في المشهد المسرحي في بيروت، سلسلة من العروض المسرحية التي ركزت علي حماقة الحرب . فالعمل الذي قدمه في هذه الفترة يعكس عبثية الحياة اليومية في ظل الحرب وكيفية التعامل مع الموت، وقسوة الحرب والعنف، ومع الصور الوحشية للحرب التي تذاع علي شاشات التليفزيون اللبناني . وطبقا لرأي ( هيميك) ينجح “أبو خالد” في فتح المساحة الجمالية التي تأخذنا فيما وراء صيغ تعبيرنا المحدودة، وتجاوز تقاليد لغة خشبة المسرح والإيماءات والأداء . فمسرحه محلولة لخلق معنى، ولو بشكل مختصر، من خلال حضور تلقائي برئ وهش داخل هذه المساحة الجديدة، التي تتضمن شكل التعبير الإنساني المستقل .
 أمثلة هذا المسرح الملتزم، والمقدمة في ظروف مضطربة ولكنها محفزة سياسيا، هي اعتراف بقدرة المسرح علي الدخول الي تفاصيل الصورة التاريخية والسياسية الأكبر، والتي قد يجد الأفراد صعوبة كبيرة في التعامل معها . وهذا يرتبط بافتراض ( أوجستو بوال) بأن المسرح “ تلسكوبي”، وهو ما يعني تقريب بعض تفاصيل شيء قد يبدو غامضا أو خفيا من أجل فهم الأجزاء المتعلقة بالكل . وقد حوّل هذا الطابع المميز في ممارسة المسرح، إلى جانب العديد من الممارسات الأخرى، التى كشف عنها منهج المسرح التطبيقي، الذب يعتبر ( بوال ) من أهم مؤسسيه، الأداء الي أداة مفيدة لعلماء الاجتماع لاستكشاف وتمثيل التجارب الخاصة للناس، وأفكارهم وتفسيراتهم ورواياتهم .
• المسرح في الأكاديمية : من اثنوجرافيا الأداء الي أداء الاثنوجرافيا
 رغبة في إحياء موضوع الدراسة في محاضراتهما، مارس (فيكتور وايديث تيرنر) التجريب في الأداء الاثنوجرافي، من أجل تعزيز فهم طلابهما للكيفية التي يتعايش بها الناس في الثقافات الأخرى مع ثراء وجودهم الاجتماعي . وقد جادلا أنه بغض النظر عن مدى قدرة الباحثين الموهوبين في تقديم تفسيرات لتماسك الأجزاء المختلفة في الثقافة، فان تقديمهم وتمثيلهم من خلال النص والتفسير السياقي فسوف يظلون تقديمات إدراكية . فمن خلال توفير الروابط الإدراكية في تمثيلنا لحياة الناس الاجتماعية فقط، نفشل في اكتساب انطباع مستنير عن كيفية معايشة الناس مع بعضهم البعض ومع العالم من حولهم . فقد بدأ الباحثان في استخدام الأداء لأغراض تربوية في تدريس الأنثروبولوجيا، ولكن تجربتهم حفزت علماء الاجتماع الآخرين (الذين انتقدوا أيضا أولوية استخدام النص لنقل المعرفة الأنثروبولوجية ) لتقديم نتائج أبحاثهم في الأشكال الدرامية العرقية بأنها “ مسرحيات عرقية “ . وقد استخدمت المخرجات والوسائل البديلة في الدراسات النوعية في مختلف التخصصات : الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والتعليم والرعاية الصحية .
 وقد نشأ الأداء الاثنوجرافي المستخدم كمنهج بحثي، من أزمة ما بعد الحداثة في التمثيل ونقد اداعاءت الحقيقة والسرديات الشارحة و والإنتاج الموضوعي للمعرفة . وقد شرع هذا النقد الاكتشافات بطرق أخرى للمعرفة، ومناهج بديلة لاجراء البحوث، و وأشكال تمثيل جديدة . وفي ظل هذا النموذج الجديد، اعترف الباحثون بخداع الموضوعية والهيمنة القمعية للكلمة المكتوبة، وتأثير الاستعمار علي الأشخاص الذين تحولوا الي موضوعات للبحث . وفي دراسات الاتصال بقدر ما في الأنثروبولوجيا، بدأ الأداء يعد طريقة شرعية وأخلاقية في تأهيل المواجهة الاثنوجرافية مع الآخر والفهم التي تم تمكينه من خلال ذلك التبادل . وقد رأي (دوايت كونكارجود) دور الأداء في البحث كعمل أخلاقي، لأنه عالج أزمة التمثيل من خلال تقديم طريقة لمعرفة ظهرت من خلال التجسيد والتعاطف والإحساس العميق بالآخر . يتعلق الأداء الاثنوجرافي أيضا بالمشاركين في عملية اكتساب الفهم خلال مجال العمل . وتقدم عملية إبداع المسرح طريقة فريدة وإجبارية للوصول الي الذوات المهمشة للناس وإنتاج المعرفة من خلال تلك الجوانب من الحياة الاجتماعية التي يمكن أن تتهرب من التوثيق والنسخ والكلام . فهي تمكن الباحثين من استنتاج استجابات ستبقي ضمنية أو غير منطقية . وبدلا من تأمل العمليات الإدراكية الاجتماعية، فان ممارسة المسرح كمنهج بحث تعطي أهمية للتلقائية والحدس وتجسيد التجربة والتأثير .
 وقد تزامن هذا التغير في النموذج مع تطور الممارسين لفعالياتهم الدرامية خارج مؤسسات المسرح التقليدية السائدة، وغالبا ما يتعاملون مع مجموعات من الناس المهمشة اجتماعيا . وكان ذلك بقصد إظهار أصواتهم غير المسموعة الي المجال العام من أجل إثارة النقاش والتحيزات والقوالب النمطية وتحسين حياة الناس. فقد بدأ المسرح المجتمعي، وهو أحد أشكال المسرح التطبيقي، في الانتشار بين المتخصصين الباحثين عن طرق اثنوجرافية بديلة . فمثلا، من خلال العروض التي ترتكز علي المكان، جمع (ويسيلز) بيانات اثنوجرافية قيمة فيما يتعلق بالتغيرات الاجتماعية التي يعاني منها الشباب في ضواحي تورونتو . وقد تحدت وجهات النظر التي قدمها الطلاب في المدارس التي أجرت فيها البحث أساطير الانقسام القديمة بين الحياة الحضرية والضواحي . فعروض الطلاب التي صورت علاقاتهم الاجتماعية وطقوسهم اليومية، ولكن عملية صنع المسرح خلقت أيضا فرصة للطلاب لإنشاء علاقات اجتماعية جديدة ومساحات علائقية .
 وقد استخدم مسرح المنتدى forum theater ( وهو أحد أساليب مسرح المقهورين الذي وضع نظريته أجستو بوال) ومشروعات المسرح المشارك لخلق مساحات بحث أكثر شمولا وانعكاسية، حيث تظهر المعرفة من خلال الانتاج المشترك لمفاوضات مستمرة بين مصالح وحاجات الباحث ومجال المشاركين . وقد استخدم (لوندي) و(كونروي) عروض مسرح المنتدى لكي يفهما ويتأملا عمليات صناعة المعنى في دروس البيئات الاثنوجرافية . ولم تطمس مناهج بحث المسرح المشارك قوى عدم التوازن في علاقة الباحث – المخبر، كم أشارت ( لويزا اينريا). فهم وسيلة مواجهة وتأمل في علاقات القوة غير المتكافئة في هذا المجال، من خلال اعطاء أهمية لتجارب الناس ورواياتهم . وعادة ما تكون الدراما الاثنية هي الناتج الدرامي للبحث الاثنوجرافي، ولكن يمكن استخدامها كطريقة قيمة لاعادة ربط المشاركين في البحث ولإظهار وجهة نظرهم حول البيانات والقصص التي حمعها ومثلها فريق البحث . وبعد تنفيذ الملاحظة المشاركة التي ركزت علي أعمال مساعدي الرعاية الصحية من العجائز الذين يعانون من المرض العقلي في انجلترا . وقد اعترف (شيشنر) وآخرين بأن مخرجات البحث التقليدي فشلت في مشاركة مساعدي الرعاية الصحية مباشرة . علاوة علي ذلك، وقد كانت الملاحظات الميدانية مليئة بالاعتبارات الدرامية الحية في العمل اليومي في دور الرعاية، ولم يكن من الممكن اعطاء هذه المواد العدالة في الناتج القائم علي النص . ولمعالجة المشكلة، تحول فريق البحث الي المسرح باعتباره البديل الأكثر فعالية . وقد شعر المؤلفون بضرورة مشاركة عواطفهم مع الأشخاص الذين سمحوا لهم بمراقبة عملهم، علي أمل أن يساعد ذلك علي رعاية المريض العقلي وخلق سياق للممارسين الصحيين للتفكير في وظائفهم وتعزيز وعيهم بشخصية المرضى واحتياجاتهم الخاصة للاعتراف والاحترام . ومن خلال التعاون مع كاتب مسرحي والفنانين المبدعين الآخرين، كان هدف فريق البحث تقديم عرض تليه ورش ومناقشات كان لها هدف عام في انجاز تبادل المعرفة مع المشاهدين المستهدفين . هذا التفضيل الممنوح للمخرجات العاطفية لم يتعارض سلبا مع مع التأثير العام الذي أراد فريق البحث تحقيقه .
 وممارسة الأنثروبولوجيا مع المتخصصين في المسرح فضلا عن المسرح نفسه هو ما تشجع ( كارولين جات) أن يفعله علماء الاثنوجرافيا من أجل التفكير بشكل نقدي في الطرق التي يتعاملون بها مع المشاركين في البحث . وبعد الاعتراف بأن المعرفة والأداء يسيران معا، فان الطرق المحتملة التي يمكن أن تتطور بها الأبحاث المستقبلية في مجال الانثروبولوجيا والمسرح هي ما تسميه ( جات) “الأنثروبولوجيا الأدائية” . يعيد هذا الاتجاه الجديد تصور العلاقة بين علماء الأنثروبولوجيا وصناع المسرح وتحرير الأنثروبولوجيا والمواجهة في مجال البحث.، مم خلال تقديم الأدواد اللآزمة لفهم العلاقات المجسدة والمشاركة فيها . ومع الانثروبولوجيا الأدائية تدعو (جات) الي تضمين ممارسات الأداء للإبلاغ عن المشروعات الأنثروبولوجية من بدايتها في جميع مناحي العمل الميداني حتى العرض النهائي لمخرجات البحث . وبفضل المهارات الجديدة التي يمكن أن يطورها الأنثروبولوجيين من طرق العمل في المسرح والأداء، فلن تسهم الأنثروبولوجيا الأدائية في إشكالية وتحويل استخدام الانعكاس في الممارسة الأنثروبولوجية فحسب، بل ستغير أيضا التوجه الزمني المتأصل في الاثنوجرافيا . فالمعرفة الأنثروبولوجية الناتجة عن المشاركة الفعالة في العملية الابداعية لأهداف صناعة المسرح، وكذلك تغيير ممارسة التخصص بعيدا عن الوصف الاسترجاعي والتوثيق لنظام أكثر استجابة ومرتبط بالمجال بشكل مؤقت .
• الكسندرا دونوفريو تعمل استاذا بجامعة مانشستر بالمملكة المتحدة
• نشرت هذه الدراسة في الموسوعة الدولية للأنثروبولوجيا 2018

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح